بقلم العميد وجيه رافع

من فجّر مدينة بيروت ومرفأها ،من أغرقها بالدماء والدمار والفوضى،من يتسلى بدماء هذا الشعب المسكين،متى سينتهي مسلسل الموت في لبنان، وكيف سينتهي هذا النفق المظلم،ام انها مجرد بداية لنهاية غامضة،وهل دخل لبنان مستنقع الحروب الظلامية والغامضة،ام ان الاهمال والفساد وشبيحة البلاد الذين عاثوا خراباً فيها لعقود طوال،هي المسؤولة عن هذه الفاجعة الكبرى

هزة ارضية ضربت دولة لبنان على مقياس تعاستها ورخص حياة مواطنيها ،رافقتها كمٌ كبير  من التساؤلات حول هذه المأساة التي حصدت ارواح الابرياء وأبكت آلاف العائلات ودمّرت حياة مدينة،كان من المفترض ان تكون زهرة مدائن المتوسط وأروع مدنها

تاه الحكام والساسة واهل العلم والقلم،حول اسباب هذا الانفجار وحقيقته المختبأة،فهل ما حدث هو نتيجة للفساد والتخبط والفوضى في البلاد،أم بفعل ايادٍ تخريبية،اذ انه لتاريخه لم تتمكن كافة المعطيات والمؤشرات من تحديد الحقيقة الثابتة، فيما تختبئ بين اسباب الانفجار ونتائجه حقيقة خائبة من نوع آخر،رافقت الكيان منذ اعلان دولته المسكينة،ألا وهي «لعنة وطن» تغرق حالياً مؤسساته في البحث عن اسباب الانفجار،فيما يتولى المجتمع الدولي ومؤسساته معالجة النتائج، حيث لا قدرة ولا مقدرة للدولة العظيمة في معالجتها بعد ان أضحت قدراتها ومقدراتها وثروتها الوطنية السليبة،في جيوب حكام البلاد وساسته وموظفيه المحظيين،وتحولت إما الى ملكيات مترامية لهم ولعائلاتهم في لبنان والعالم،او انتقلت الى حسابات مصرفية في جنات الملذات اللذيذة

مفردات الاهمال والفساد والفوضى لا تختفي ولا تضمحل حتى ولو حصل الانفجار بإيدي تخريبية،التي استفادت من ثغرة امنية واضحة خلقها الفساد المترامي في المرفأ،ثغرة كاملة الاوصاف والوضوح،ثغرة جارية مُستدامة تبحث عن مستثمر في دمار مدينة وقتل ابناءها، استمرت لأكثر  من ستة سنوات،كان فيها عنبر الموت جاهزاً للانقضاض على الابرياء، وقد انقض، نجد الخبراء والقيّمون على البلاد يتسابقون في تحليل اسباب الانفجار وماهيته، مع تقدم ملحوظ لفرضية الاهمال المولود من رحم فساد الدولة وفساد مؤسساتها واداراتها واجهزتها،فبين الدولة والفساد علاقة عشق وغرام،وتجاذب وانسجام، من الصعوبة فصلهما منذ ولادة الطفل العجيب،»لبنان الكبير»،لان الفساد هو دين الدولة ونبيّها وحارسها،قلت وقلنا مراراً، انه اذا سقط الفساد سقط النظام، فلم يصدقنا احد،وها قد اثبتت الايام ومجريات الاحداث،صُدق مقولتنا المؤسفة،التي نحن رفضنا تصديقها بدايةً،الى ان شاهدناها وقابلناها بأم اعيننا، وأدت الى  تأكيد قناعتنا المؤكدة،ان النظام والفساد مولودان من أم واحدة ومن جينة واحدة ومن أب واحد يستمتع بالرقص فوق قبور أبناءه وسط قهقهات مؤسسات المجتمع الدولي المتعددة

بين الوقائع والمعطيات:

وصلت سفينة الموت المشبوهة محملّة ب 2750 طن من نترات الامنيوم الى مرفأ بيروت بتاريخ 19 تشرين الثاني 2013 ولم يتضح لتاريخه لغز ابحارها  من جورجيا قاصدة دولة موزامبيق

تساؤلات متعددة ترافق مهمة هذه السفينة والالغاز المحيطة بها من عدة نواحي حيث يُسأل:

-عن هوية الشركة المالكة والسوابق الجرمية لمالكها -حول السماح  بنقل هذه الكميات الكبيرة والخطرة على متن سفينة متهالكة -حول سبب توقفها في تركيا وتغيير طاقمها -حول صدقية قبطانها وعدم توفر الاموال مع المالك لدفع مستحقات العاملين والرسوم المتوجبة على مرور السفينة -حول لغز تغيير مسارها الى بيروت بهدف التحميل الاضافي -حول موقف دولة موزامبيق الملتبس

بُعيد وصولها الى بيروت ومنعها من الابحار ومصادرة حمولتها لاسباب مادية وتقنية،تطايرت البرقيات المختلفة بين المؤسسات المختلفة ذات الارتباطات المختلفة،تجولت تلك البرقيات بين مختلف المؤسسات،في القضاء والجمارك والجيش وكافة الاجهزة الامنية، بالاضافة الى وزارتي المال والاشغال وصولاً الى أعلى المراجع السياسية في الدولة،جميع هذه البرقيات تتحدث بوضوح  عن خطورة المواد المُصادرة،نحن من يعرف جيداً برقيات الدولة اللبنانية وحوكمتها الرشيدة، ذات المضمون العميق الحاضن لمفردة واحدة: «بدي شيلها عن ضهري ويصطفلوا»فالوظيفة البزنس لا تسمح بإضاعة الوقت الثمين،جالت هذه البرقيات ودارت بين كافة اجهزة الدولة الى ان دارت دورتها النهائية القاتلة بتاريخ 4 آب 2020،حيث عولجت بالكامل بنتائج كارثية، وتحولت دماراً ودماءً جعلت من مدينة باكملها مجرد مسرح رخيص للموت الرخيص

كثيرة هي القوانين والتعليمات الدفترية في لبنان،لكنها  حقيقة ليست الا مجرد سرديات ورقية تختزنها جوارير المكاتب الصدأة، ويشرف على تنفيذها زبائنيون تبوأوا وظائفهم بحكم التبعية والولاءات المذهبية، لا بحكم الكفاءة والجدارة، ألم يقل احدهم يوماً ان على الدول ان تتعلم من لبنان كيف يمكن ادارة بلد من دون موازنة،فلماذا لا نعلمهم ايضاً  كيفية معالجة البرقيات الدقيقة والحساسة والخطرة، في دولة المعجزات الخارقة

وتستمر التساؤلات، اين الوكالة البحرية للسفينة،اين أمن المرفأ، او الاصح اين مختلف الاجهزة الامنية في المرفأ حيث تتعدد انواعها، اسوة بواقع المطار، دون اي وضوح تام لصلاحيات كلٍ منها ودقة مسؤولياتها، اين مصلحة الابنية والاقسام المسؤولة عن المنشآت في ادارة المرفأ،من هو المسؤول عن تطبيق المعايير العلمية الحساسة في عنابر المواد ذات الخصائص الغازية والكيميائية الخطرة، اين سلاح الهندسة في الجيش،ولماذا لم يُكلف بالكشف عليها واقتراح المعالجات الى جانب الجمارك، انها الدولة الغارقة في النفاق والاهتراء والتفكك الخطير

في السادسة من ذات مساء ،شب حريق في العنبر لم تُعرف اسبابه وتم استدعاء رجال الاطفاء الابرياء للمعالجة دون التوضيح لهم حول خطورة المواد الملتهبة ،مما ادى الى استشهادهم بكل رخص واستهتار ،كما وانه يُحكى في الكواليس، ان فجوة كانت قد فُتحت من قبل مجهولين معلومين في احدى حيطان عنبر الموت،حيث كانت تتم سرقة المواد بالمفرّق منذ مدة طويلة بهدف بيعها في الاسواق، الامر الذي يفسر تناقص الكمية المنفجرة،حيث يؤكد الخبراء ان الآثار والنتائج التي خلّفها الانفجار كانت لتكون اضعاف مضاعفة فيما  لو كانت الكمية المنفجرة هي ذات الكمية المصادرة،ويؤكدون ان الكمية المنفجرة هي اقل من 2750 طن بكثير، فلو انفجرت كامل الكمية لكانت حلقة الدمار توسعت كثيراً لتطال كامل بيروت وضواحيها، فشكراً للسارقين الصغار، وعسى ان تكون مبيعاتهم قد تمت للاستخدامات الزراعية فقط دون غيرها

سيناريوهات عديدة تدور حول العملية،اذ ما زالت بعض دوائر الاستخبارات،مصرّة على اتهام اسرائيل بالعملية، عبر استخدامها اسلحة ذكية ونوعية وحديثة، لا تُرى بالعين المجردة، وهي الرائدة دولياً في تكنولوجيا الاسلحة والصواريخ ،وايضاً لا يمكن اهمال فرضية قيامها بزرع وسيطاً تفجيرياً ضخماً تحت المياه وعلى مستوى العنبر مباشرة، وقد سبق وقام رئيس وزراء الحكومة الاسرائيلية نتنياهو باتهام حزب الله في العام 2018 باستخدام عنابر المرفأ لتخزين صواريخه واسلحته،ليبادر الى ذهننا السؤال التالي:ما هي القوة الارادية التي قد تُجبر الحزب بذلك في مرفأ مدني يعج بدخول الآلاف من البشر  اليه بصورة يومية،وداخل عنابر  قديمة ومتهالكة،وما هي موجباته الامنية والعسكرية الضرورية لذلك،وعلى افتراض  صحتها،لماذا لم يقم الحزب بسحبها بعد تصريح نتنياهو منذ سنتين، ام ان اتهام الاخير للحزب كان يستبطن نية تدمير مرفأ بيروت ذات الشريان الاقتصادي الكبير على الحوض الشرقي للمتوسط،لكونه يشكل منافساً جدياً لمرفأ حيفا،حيث تحاول اسرائيل تحويله الى المرفأ الرئيس في المنطقة،وذلك عبر رفده بشبكات نقل وطرق على ضفاف جيوبوليتيك الهيكلة والهيمنة في الاقليم

لا احد يستطيع الاحاطة بالجواب، سوى التحقيق الشفاف،البعيد حكماً عن ثقافة لبنان،وبخبرتي المتواضعة في البنى العميقة للبلاد، لن يصل التحقيق الى اي مكان،لان كل مذنب ومُدان، تختزن جعبته العديد من الملفات الذي يستطيع رفعها بوجه الآخرين ،فالجميع يعرف الجميع،وكلٍ منهم يعلم بموبقات الكل الآخر، الامر الذي سيجعل التساؤل مستمراً: من فجّر مرفأ بيروت ، فإذا كانت بفعل فاعل،فلماذا تأخر هذا الفاعل ستة سنوات،فهل كان المُفجّر بغاية الاطمئنان ان الثغرة الامنية هذه، لن تُقفل وستبقى قائمة  بحكم الدولة «الرشيدة» في لبنان،أم ان العوامل المناخية من شمس ومطر ورطوبة وغيرها،قد فعلت فعلتها على مرّ السنوات أدت الى أكسدة النيترات بحيث كان الحريق بجانبها كافياً لاثارتها وتفجيرها،أم ان عميلاً قام بدسّ وسيطاً تفجيرياً داخل العنبر عندما علم بوجودها ، موقّتاً ومخططاً لانفجار ذات المساء

في مجمل الاحوال،وبغض النظر عن الفاعل والوسائل والاهداف،يبقى يقيني تاماً،أن الصاروخ الاساسي والفائق الذكاء،الذي دمّر بيروت وقتل سكانها، هو صاروخ فساد الدولة الفاشلة ،فلننتظر نهاية التحقيقات،لعلّ نتائجها لا تسقط هذه المرة في اقبية الغموض واقنية الالتباس المقصود