بقلم بيار سمعان

مضى ما يزيد على اسبوعين على انطلاق الحراك الشعبي في لبنان، أو ما اصبح يُطلق عليه من تسميات أخرى مثل «ثورة الجياع» وثورة الشعب على الفساد…
فما هي آخر المستجدات على هذه الثورة الشعبية في لبنان، وكيف يتعامل معها المناصرون في الداخل والخارج، والخصوم من المنظومة السياسية وأهل الحكم؟

– استمرارية وانتشار:

لقد راهنت الطبقة الحاكمة على عدة أمور لإفشال الحراك الشعبي في المدن وعلى الطرقات:
راهنوا على تعب المتظاهرين، فارتفع عددهم.
راهنوا على بث الإشاعات فلم تنفع.
هددوا بتحريك شارع مقابل شارع، ففشلوا لأن مطالب الناس هي محقة، والشارع الآخر بدأ تقليدياً ومصطنعاً في طروحاته.
إنبرى السيد حسن نصر الله زعيم المقاومة، راسماً الخطوط العريضة لمستقبل ومسار سياسة البلد في ظل هذه الأجواء الضاغطة، فكرر مرة أخرى أنه لا يقبل بإسقاط العهد، ولا يقبل باستقالة الحكومة، ولا يقبل بانتخابات نيابية مبكرة.
والطريف في الأمر أنه قبل ظهوره على شاشات التلفزة، كان مناصروه يشتبكون مع المتظاهرين وقوى الأمن في ساحة رياض الصلح، وكأنه أراد أن يقول للشعب اللبناني أن عليه ان يختار بين الفوضى والاقتتال في الشارع أو القبول بطروحاته السياسية.
لكن السيد نصر الله تعهد بعدم استخدام القوة ضد المتظاهرين، لأن لا أحد في لبنان يريد أن يرى مشهد العراق يتكرر في لبنان، وهذا ما اعلنه أكثر من ناشط في الحراك وأكده أكثر من مراقب أو مراسل إعلامي، إن تظاهرات الشعب في لبنان هي سلمية وشريفة ومرحة، تكاد تشبه الاعراس… لكنها في آن واحد، مظاهرات ضد الفساد واللصوصية المتجذرة في صفوف المنظومة السياسية التي حكمت لبنان على مدى 30 عام.
فمحاولات بث الإشاعات والاتهامات بالعمالة والادعاء أن السفارات الخارجية توجهها سقط، وهي تناقض ما أعلنه سابقاً كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، عندما أكدا أن مطالب الناس هي محقة، وأن الحراك هو ردة فعل طبيعية لتردي الأاوضاع المعيشية ولانتشار «ثقافة الفساد» في البلاد.
وأثبت المتظاهرون أن إرهاب حزب الله، والتهديد بنزوله إلى الشارع لن يردعهم، وأن محاولات استخدام البلطجة ودس العملاء لافتعال المشاكل والصدامات، وجر الجيش لمواجهة الشعب هي خط أحمر، رغم بعض الشوائب والصدامات المشبوهة التي وقعت مؤخراً في بعض المناطق وأدت إلى سقوط جرى من الطرفين.

 

– الانتشار اللبناني ينتفض:

وتزامناً مع الحراك الشعبي في لبنان تحرك أيضاً المغتربون اللبنانيون في كل دول الانتشار حول العالم وفي اكثر من مرة.
وكان آخرها نزول الآلاف من اللبنانيين بعد ظهر الاحد إلى مدينة سيدني.
مظاهرة سيدني الأخيرة قد تكون الأضخم في استراليا، إذ تشارك فيها لبنانيون من جميع المناطق والطوائف والميول السياسية، وهي ليست الوحيدة، بعد أن شهدت جميع العواصم الأوروبية والأميركتين مظاهرات ضخمة.
تحرك لبنان الانتشار جاء ليجدد دعمه للبنان المنتفض في الوطن، ويؤكد حقيقة أخرى ان كل الجهود التي بذلها وزير الخارجية جبران باسيل لاجتذاب لبنانيي الانتشار قد فشلت، وأن العديد من قدامى التيار الوطني يعلنون يوماً بعد يوم خروجهم عن المسار السياسي الذي رسمه الوزير باسيل، لأن الوطن هو اهم من الزعامات، ولأن إذلال الشعب لا يمكن لأي إنسان عقلاني أن يتجاهل أو أن يتنكر له.
وأن حالة «النكران» لدى المنظومة السياسية لن تؤدي إلى معالجة الأزمة المصيرية التي يواجهها لبنان.
إن أعظم ما في هذه الثورة. ليس فقط التعبير الصادق عن وحدة اللبنانيين، بل لان الناس في الشارع يقولون صراحة ما يريدونه من الطبقة السياسية، ولأن جميع مطالبهم تدور حول الفساد والهدر والنهب والإصلاحات التي يراها الناس ضرورية. ورغم ذلك تبقى الطبقة الحاكمة في سبات عميق.

 

– ماذا يريد الشعب:

يوماً بعد يوم تتبلور الرؤية وتتحدد المطالب. فالشعب الثائر في لبنان يرى أن زعماء الميليشيات وأرباب الإمارات جعلوا أنفسهم أساساً للنظام السياسي.
لقد عدلوه وطوعوه ليحموا وجودهم ومصالحهم وفسادهم.
لقد اختصروا المؤسسات، واختاروا القضاة، وتقاسموا خيرات البلد فيما بينهم باسم الطوائف والمذاهب والإمارات التي ادعوا أنهم يمثلونها. لقد أذلوا الناس واستخفوا بهمومهم الحياتية وبحالة الضيق والفقر والبطالة التي يعيشونها منذ سنوات…
لهذا يطالب الشعب بإسقاط هذه المنظومة. فالشعب يريد نظاماً قائماً على المؤسسات، يضمن معاملتهم ليس كرعاع أو سلعة للتجارة، بل كمواطنين تتوفر لهم كل الحقوق، دون وساطة أو بطاقة من زعيمهم.
الشعب يريد محاسبة الفاسدين واسترداد المال العام المنهوب والنهوض من الأزمة الاقتصادية عن طريق استعادة المال العام وليس من خلال إغراق المواطنين بالمزيد من الضرائب الديون.
هناك قناعة شبه ثابتة أن 17 تشرين الأول قد نقل مشروعية مؤسسات الحكومة الفاسدة إلى مشروعية الشارع من أجل إعادة بناء الوطن. وأنه لا وجود لنصف ثورة.
إما أن تكون الثورة كاملة وتحقق اهدافها، او تتحول إلى المزيد من العبودية وتكرس الفساد أكثر مما هي عليه الآن، ولعقود وأجيال قادمة. لذا لن يتراجع أو ينسحب الناس من الشارع قبل تحقيق القسط الوفير من أهدافهم.
هذه القناعات زادت المتظاهرين تمسكاً وتماسكاً فيما بينهم. لذا شبكوا الأيادي على جميع طرقات لبنان ليؤكدوا انهم صلبون ومتمسكون بمواقفهم.

– الدعوة إلى الحوار:

رغم قلة المبالاة التي أظهرها المتظاهرون لرسائل أركان الحكم ولطروحات معالجة الأزمة، دعا رئيس الجمهورية مندوبين عن الحراك إلى الحوار لمعالجة الأزمة.
ورغم كل المحاذير أن تتعمد السلطة نقل النزاعات معها إلى داخل صفوف المعارضة الشعبية الثائرة، جرت نقاشات مطولة حول مسألة الحوار مع رئاسة الجمهورية.
ويتخوف الناشطون في الحراك أن تكون الدعوة إلى الحوار هي مجرد محاولة لتنفيس الشارع وتطويقه، وإرغام المتظاهرين على فتح الطرقات وعودة الحياة إلى طبيعتها. هكذا يتم تعطيل تفعيل الشارع، بعد أن وصلت الطبقة الحاكمة إلى الطريق المسدود، وبعد أن رفضت قيادة الجيش أوامر السلطة بقمع المتظاهرين، خوفاً من العواقب الخطيرة والمغامرة بثقة الشعب وبوحدة الجيش.
فلا الجيش اللبناني يرغب بسفك دماء الشعب لحماية الفاسدين، ولا الشعب يسعى إلى مواجهة الجيش اللبناني، لأن المستفيد الوحيد سيكون حزب الله، وهو يمثل القوة العسكرية الوحيدة القادرة على الإطباق على النظام.
ويشاع ان الثوار كلفوا سيادة المطران إلياس عودة منفرداً لتمثيلهم في الحوار مع فخامة رئيس الجمهورية.
ويبدو أن هذا الخيار يشير إلى حسن النية وزيادة الوعي لدى المتظاهرين. فالمطران عودة مشهود له بالوطنية والإنسانية والالتزام بهموم الشعب والوطن منذ تعيينه أسقفا على إبرشية بيروت للروم الأرثوذوكس.
هذا الخيار الحكيم سيمنع أية محاولات استغلالية لثورة الشعب، ويؤمل منه الوصول إلى نتائج مثمرة في حال كان للفريق المتسلط النية الصادقة لمعالجة هذه الأزمة المصيرية.
هكذا يبقى الناس في الشارع خلال فتح حوار مع السلطة. مع المطران عودة أو من يشبهه في المواصفات، دون خوف ان يتاجر أحد بقضايا الناس. ولا مجال لإغراء المطران عودة بوعود ومنصب.

– حزب الله في مواجهة الشعب:

أكد السيد حسن نصر الله أن كلمة الفصل تعود في آخر المطاف له وحده. فالبلد اليوم هي دون أي شك بإمرة السيد حسن نصر الله، لذا يعتبره الثوار جزءاً من منظومة الفساد. وعلى أقل تعديل حامياً لها.
لذا تساءل ناشطون حول حقيقة المستندات لدى حزب الله، وطالبوا النائب حسن فضل الله بنشرها، حتى ولو أطاحت برؤوس كبيرة، كما ادعى في أكثر من مناسبة.
لا اعتقد أن النائب فضل الله كان يبالغ عندما هدد بنشر ما يمتلك حزب الله من الوثائق حول الفاسدين في البلاد.
وبينما كانت المنظومة السياسية تعبث فساداً في المال العام، كانت الدوائر المعنية لدى حزب الله تعد ملفات ووثائق خاصة بكل زعيم سياسي أو مجموعة من تجار الهيكل، فحزب الله يعلم من هم الفاسدون، بالاسماء والأرقام والصفقات، وهو يستفيد من هذه المعلومات «الخطيرة» لتهديد السياسيين عند الضرورة، ولفرض إملاءاته وشروطه عليهم. لهذا، غالبا ما يفسح السيد نصر الله المجال لهذه المنظومة السياسية الفاسدة أن تقوم بدورها «الديموقراطي» ويحتفظ بكلمة الفصل الأخيرة له.
فحزب الله الذي يدرك مخاطر استخدام السلاح في الداخل هو أمر خطير للغاية، ويفضل استعمال المعلومات السرية والفساد لدفع السياسيين حسب توجهاته ومصالحه.
لهذا الأمر، الرئيس الحريري يسير عكس السير، وجنبلاط صامت وبري يراقب وينسق وراء الكواليس لكن حزب الله الذي هدد المتظاهرين في رسالته الأولى غيّر لهجته وعلمه في ظهوره الثاني، وبدا اكثر تعقلاً، دون أن يعدل موقفه الأساسي.
حزب الله يعتبر نفسه أنه حقق انتصارات في سوريا والعراق واليمن، وهو يرفض اليوم، بعد أن تأكد من جدية «الثورة» أن يخسر لبنان ونفوذه، لذا يروج الحزب أن هذه الثورة هي مؤامرة أميركية تحاك ضده بالدرجة الأولى، وأن خسارة الطبقة الحاكمة في لبنان لهذه المعركة، هي خسارة مباشرة له وللمحور السوري الإيراني، لذا كرر نصر الله لا لإسقاط العهد، لا لتعديل الحكومة ولا لانتخابات مبكرة.
فهل أصبح نصر الله الآن حامياً لهذه المنظومة السياسية الفاسدة ومدافعاً عن الظالم وليس المظلوم؟

– مشكلة بوجوه متعددة:

بالنسبة لحزب الله المشكلة ذات وجوه متعددة.
فهو لا يرغب بالخضوع لمطالب الشارع الذي أصبح يشكل قوة شعبية هائلة قد تنتج تعديلات جذرية في الواقع السياسي في لبنان. وقد تنقلب على الحزب من مبدأ تعارض قيام الدولة مع وجود الدويلة.
فالتخلص من الفاسدين سيحرمه القدرة على التحكم بالقرار السياسي، عن طريق التهديد للزعامات الفاسدة. وأن طرح مقولة «كلن يعني كلن» يشمل دون شك وجود حزب الله كتنظيم مسلح يعيق قيام الدولة، ويمسك بالقرار الاستراتيجي ويتحكم بالقرار السياسي في الداخل.
بالنسبة للبعض يعتبر حزب الله المنتصر الوحيد مع أركان العهد في حال تمكن الإثنان من استغلال مطالب الناس بمكافحة الفساد، للانقضاض على خصومهم السياسيين وإلغاء أية معارضة فاعلة، قادرة على مواجهة وصول جبران باسيل إلى الحكم من جهة، وتوصل حزب الله إلى إقامة الجمهورية الإسلامية في البلاد.
ألم يعلن السيد حسن نصر الله في لقاء خاص في الثمانينات أنه «في الوقت الحاضر ليس لدينا مشروع نظام في لبنان. نحن نعتبر بأن علينا أن نزيح الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن ننفذ مشروعنا. ومشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين، هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الخميني.
في خطبته الاخيرة أكد امام جامع مدينة مشهد آية الله أحمد علم الهدى أن حزب الله في لبنان هو إيران، والجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين هما إيران، والحشد الشعبي في العراق هو إيران وأنصار الله في اليمن… جميعهم باتوا إيران. وان المقاومة في المنطقة لها إمام واحد، وهذا الإمام هو المرشد الاعلى للثورة الاسلامية…

وأوضح نصر الله أن الولي الفقيه هو الذي يعين الحكام في جميع البلاد الإسلامية، لأن ولايته ليست محدودة بحدود جغرافية. ولايته ممتدة بامتداد المؤمنين.
ورغم محاولة تبرير هذا الإعلان، رد السيد نصر الله على أسئلة الإعلاميين مشيراً أنه لن يفرض هذ النظام بالقوة على لبنان، لكنه سيطبقه في حال قبل اللبنانيون به.
لهذه الأسباب يرفض تعديل الواقع الحالي لأنه يستفيد من فساد الطبقة الحاكمة، ويستفيد من إضعاف الجيش اللبناني وتقسيم القوى والزعامات اللبنانية والانقسام الشعبي، فهو قادر، إذا بقيت الأمور تحت سيطرته على تحقيق أهدافه البعيدة، ولو ببطء.
المجتمع الدولي الذي يساند بقاء الحكومة لا يمانع من حكم البلاد، طالما بقيت الشعوب في حال من النزاعات الدائمة، وأن يبقى العالم العربي يعاني من الاضطرابات وعدم الاستقرار، خاصة أن لبنان يستعد للبدء في عمليات التنقيب عن الغاز.
فإسرائيل لا تريد لبنان أن يتحول إلى قوة منتجة للنفط، ولا ترغب أن يستقر ويزدهر.

الشعب اللبناني يخشى أن تتحول مداخيل الغاز إلى جيوب المنظومة الفاسدة التي كلما زاد ثراؤها، ارتفعت معاناة الناس واستعبادهم.
من يسرق البلاد في فقره، يسرق ثرواته إذا ما تمكن اللبنانيون من استخراج الغاز، ولو متأخراً.
ثورة الشعب قد تبدو من أجل رغيف الخبز، لكن مفاعيلها البعيدة هي دون شك: إنقاذ الوطن.
على أمل أن يستفيق زعماء الأمة ليعتذروا من الشعب، ويعيدوا بعض ما نهبوه… وأهم ما يجب أن يحافظوا عليه هو استعادة الشعب لوحدته وللوطن، وهذه بداية مكاسب الثورة، بعد ان تغلب الناس على مشاعر الاحباط والولاءات المزيفة.

فهل إنتهت السكرة وبدأت فعلاً الثورة؟