في ظل بيئة جيوسياسية تتسم بالتوتر والتنافس الشديد، يصعب على أي طرف أن يختلف مع الهدف الذي أعلنته وزيرة الخارجية الأسترالية بيني وونغ، والمتمثل في “منع النزاعات”.
وخلال كلمتها الأخيرة في ماليزيا على هامش اجتماعات وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، أكدت وونغ أن “هدفنا هو منع النزاع، والحفاظ على السلام، وضمان استقلالية جميع الدول في منطقتنا”.
تطور تدريجي في الرؤية
رغم اهتمام وونغ الطويل بموضوع منع النزاعات، إلا أن هذا التوجه بدأ يأخذ شكلاً دبلوماسيًا أوضح خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، من خلال سلسلة من الخطابات والدعم المؤسسي داخل وزارة الشؤون الخارجية والتجارة الأسترالية، عبر فرع متخصص في سياسات الدفاع والأمن القومي.
أطر مفاهيمية شاملة
لم تركز الأجندة الأسترالية على نزاع معين، بل جاءت كاستجابة أوسع لتصاعد التنافس بين القوى الكبرى، خصوصاً بين الولايات المتحدة والصين. دعت وونغ الجانبين إلى وضع “ضوابط أمان” للحفاظ على التواصل وتجنب التصعيد.
وترى أستراليا أن الوقاية من النزاعات لا تقتصر على الردع العسكري، بل تشمل أيضاً التطمين والشفافية، خصوصًا في ما يتعلق بمبادرة “أوكوس” (AUKUS) التي تهدف لتعزيز قدراتها الدفاعية.
التركيز على آسيان
ركزت الجهود العملية المبكرة للأجندة على دول جنوب شرق آسيا، حيث أكدت وونغ خلال قمة آسيان-أستراليا 2024 في ملبورن أن أستراليا تريد دعم دول آسيان لامتلاك أدوات فعالة لتخفيف التوترات بسرعة.
تهدف المبادرة إلى تفعيل الهياكل القائمة، مثل منتدى آسيان الإقليمي وقمة شرق آسيا، دون السعي لإنشاء مؤسسات جديدة. ويُفهم من ذلك أن التركيز موجه لمنع النزاعات بين الدول، وليس النزاعات الداخلية كأزمة ميانمار.
انتقال من الحوارات غير الرسمية إلى الرسمية
تتضمن الأجندة الانتقال من ورش العمل غير الحكومية (المعروفة باسم Track 2)، مثل تلك التي عقدت في يناير 2024، إلى حوارات بمستوى حكومي جزئي (Track 1.5) وأخرى بمشاركة حكومية كاملة (Track 1)، ومن المقرر عقد ورشة رسمية في سبتمبر القادم بالتعاون مع ماليزيا وإندونيسيا.
دعم فكري وتحالفات جديدة
قدّمت ورقة بحثية حديثة أعدها ثلاثة خبراء أستراليين بارزين (روري ميدكالف، هوونغ لي تو، وبك ستراتينغ) دفعة قوية لهذا التوجه. وقد ركزت الورقة على تعزيز استخدام آليات آسيان القائمة، مع الدعوة لحوارات متعددة المستويات، وبناء شراكات قوية مع دول كماليزيا، والفيليبين، وسنغافورة، واليابان، وإندونيسيا.
إنجازات ملموسة ومواقف داعمة
أثمرت الجهود الدبلوماسية الأسترالية عن إشارات إيجابية في وثائق القمم الأخيرة. إذ أُشير صراحة إلى دور أستراليا في مجال منع النزاعات في بيانات رئاسة قمة قادة آسيان في لاوس (2023) وقمة شرق آسيا في ماليزيا (2024). كما أن البيان المشترك الأخير لوزراء خارجية آسيان أعلن نية إصدار بيان مشترك مع أستراليا حول منع النزاعات وإدارة الأزمات في وقت لاحق من هذا العام.
تساؤلات استراتيجية
رغم التقدم الملحوظ، يبرز سؤال جوهري: إذا كانت أكبر المخاطر تتعلق بصراع محتمل بين الولايات المتحدة والصين، فلماذا تركز أستراليا جهودها على آسيان؟
ورغم أن آسيان لا تملك القدرة على منع صراعات القوى الكبرى، فإنها تمثل منصة دبلوماسية مرنة وفعّالة، يمكنها تعزيز التفاهمات وتقديم مساحة محايدة للحوار.
تعزيز ثقافة سياسية جديدة
تسعى وونغ إلى تشجيع دول جنوب شرق آسيا على ممارسة مزيد من “الاستقلالية” في التعبير عن توقعاتها من القوى الكبرى. وهذا التوجه يهدف لتغيير الثقافة السياسية في المنطقة، وتجنب الاستسلام لرؤية متشائمة تعتبر أن الدول الصغيرة لا حول لها ولا قوة أمام صراعات الكبار.
العلامة الدبلوماسية الجديدة لأستراليا
في النهاية، يمكن النظر إلى أجندة “منع النزاعات” كمفهوم جديد يرمز إلى نهج أستراليا الأمني في جنوب شرق آسيا. وإذا ما نال هذا المفهوم قبولًا أوسع داخل آسيان، فقد يشكّل “علامة” دبلوماسية إيجابية تميز أستراليا في التعامل مع التحديات الجيوسياسية الراهنة في آسيا.

