محمد تركي الربيعو
تعد المغنية والأرتيست بديعة مصابني، واحدة من أشهر المغنيات السوريات اللواتي صعدن في بدايات القرن العشرين. إذ ذاع صيت هذه السيدة المولودة في دمشق القديمة لعائلة مسيحية من أصول لبنانية، في ملاهي بيروت وحلب ودمشق في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، قبل أن تقرر مع نهاية الخمسينيات الاعتزال والعيش في قرية صغيرة على الحدود اللبنانية السورية.
وكانت الصحافية اللبنانية نازك باسيلا قد تمكنت من إقناع مصابني بالبوح بسيرتها لتقوم بتدوينها عام 1956، وصدرت لاحقا عام 1970 عن دار مكتبة الحياة في بيروت. وفي هذه المذكرات روت لنا (بدعدع كما كان يصفها نجيب الريحاني) قصة حياتها منذ الطفولة، وتعرضها للاغتصاب في سن السابعة، وهو حادث مؤلم قلب حياتها، وبقي يطاردها أينما رحلت. وكان سببا، كما تذكر، في أن تصبح مغناواتية، وهي مهنة كانت مرذولة ومرتبطة بعالم الملاهي والكيف. ويبدو أن هذه النظرة السلبية للفن والمغنين لم تقتصر فقط على زمن مصابني (بدايات القرن العشرين)، بل ظلت محفورة في المزاج الشعبي، وربما حتى أيامنا هذه. يذكر الراحل صباح فخري في مذكراته أيضا، أنه في الاربعينيات مثلا كان أهم رجالات مدينة حلب يقبلون على سماع بكري الكردي وعلي عبد الجليل ومصطفى الطراب في كل ليلة خميس، أو سبت، لكنهم في صباح اليوم التالي كانوا إن صادفوا هؤلاء المغنين حاولوا تجاهلهم وعدم الاكتراث بهم خوفا من القيل والقال. أصرت بديعة على الاحتفاظ باسمها ولقب عائلتها الحقيقي، ورفضت تغييره انتقاما من أفراد عائلتها، الذين تركوها تعيش في فقر مدقع، وغرفة لا تصلح للسكن، بدلا من استضافتها. والطريف في المذكرات، أنها تكشف لنا عن مجتمع الملاهي، وكيف أخذ يعيش مرحلة جديدة مع بداية الحرب العالمية الأولى، وتطوره لاحقا في مصر خلال الحرب العالمية الثانية. كما توفر لنا معلومات دقيقة عن المغنين والمغنيات الذين ظهروا في ذاك الزمن، وظهور أسماء أخرى بعد الثلاثينيات من أمثال محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وتحية كاريوكا، وما هي الأغاني التي كانوا يرددونها. تحفل المذكرات في جانب آخر بتفاصيل واسعة عن مجتمع العرب في البرازيل والأرجنتين، إذ سافرت عائلة هذه الفتاة مع آلاف السوريين الآخرين في بدايات القرن العشرين إلى أمريكا الجنوبية. وهناك حاول اللاجئون تأسيس حياتهم من جديد في ريو دي جانيرو، أو سان باولو، أو شيكاغو في أمريكا. وعانوا في البداية من الفقر، وامتهان أعمال صعبة وذات دخل محدود لكن مع نهاية الثلاثينيات تمكنت أعداد واسعة منهم من الاستقرار والتوسع في نشاطها الاقتصادي. وهنا توفر لنا بديعة تفاصيل جيدة وغنية عن هذا العالم، وتفاصيل عيشهم، وما هي المهن التي عملوا فيها، وكيف أصبحوا لاحقا ملاكا لبعض المنشآت والمؤسسات في الثلاثينيات.
أوردت مذكرات عديدة تفاصيل عن حياة اللاجئين السوريين آنذاك (السوريين والفلسطينيين واللبنانيين) في بدايات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية مثل يوميات خليل السكاكيني في الحي السوري في مانهاتن سنة 1907، أو مذكرات إسكندر رياشي عن السفن التي كانت تقل اللاجئين إلى العالم الآخر (أمريكا). كما أنه بات بوسعنا اليوم التعرف على تفاصيل جديدة في هذا السياق مع الكشف عن مخطوطات جديدة مثل، مخطوطات أسعد السيقلي في تكساس قبل 1900، أو رحلة عبد الرحمن البغدادي الدمشقي (مسلية الغريب في كل أمر عجيب)، التي روى فيها تفاصيل عن حياة المسلمين في البرازيل سنة 1866. وتقدم مذكرات بديعة إضافات وصورا غنية في هذا الجانب المتعلق بالسوريين والعرب عموما في تلك المناطق، لكن ما يميزها أحيانا عن باقي المذكرات، أن الأخيرة كتبت من قبل رجال كانوا يراقبون ويدونون ما يشاهدونه في الغالب، بينما في مذكرات بديعة نرى سيدة تروي معاناتها في فترة الطفولة في شوارع الارجنتين، ومعاناة وحياة اللاجئين اليومية.
بديعة تعود للحياة
كانت مذكرات بديعة قد صدرت بطبعتها الأولى عام 1970، لكن اللافت أنه بعد صدور هذه الطبعة ربما لم تكن هناك طبعات أخرى لمذكراتها، وحتى لو وجدت، فإن المذكرات تراجعت واختفت تقريبا. لكن في السنتين الماضيتين بدا أنّ هناك اهتماماً بإعادة طباعة هذه المذكرات. وقد صدرت في طبعتين أو ثلاث طبعات لحد الآن؛ الأولى بالشراكة بين دار نلسن ودار ريشة، ويبدو أن نشرها جاء في سياق اهتمام دار ريشة بتاريخ الفنانين والموسيقيين، وتركيز دار نلسن في السنوات الأخيرة على نشر كتب ومذكرات تعنى بذكريات وتاريخ بيروت في القرن العشرين. وربما ما ميز هذه الطبعة أنها تضمنت تحقيقا جيدا قدمه المؤرخ في التاريخ العثماني باسم مروان فليفل. أما الطبعة الأخرى للكتاب فقد صدرت قبل عدة أسابيع عن دار سديم، وهي دار مصرية حديثة في عالم النشر، وتركز على نشر كتب مضى زمن طويل على طباعتها. وبدلا من أن تكون هذه الطبعات الجديدة مناسبة لذكر تفاصيل أو ملاحظات جديدة، فقد نشرت الدار المذكرات، مع ذكر عبارة (الطبعة الأولى 2024)، دون أن تذكر أي معلومة عن أول طبعة صدرت، ما قد يشكل حالة من الالتباس للقارئ، الذي قد لا يعرف أي تفاصيل عن بديعة. كما يسجل على هذه الطبعة غياب أي صور في المذكرات خلافا للطبعة الأولى (1970)، وطبعة نلسن/ريشة، التي ضمت عددا كبيرا من الصور. ويبدو أن مدونة المذكرات (نازك باسيلا) قد حصلت على بعضها من مصابني، كما في مثال صورة والدتها، البخيلة وقاسية القلب، التي لم تكف عن ضرب بديعة طوال مرحلة طفولتها، وكانت تقوم بحبسها أحيانا. فصورة الأم، التي ينتابنا الفضول لرؤيتها عند قراءة المكتوب حولها، كانت موجودة في الطبعة الأولى، بينما اختفت في طبعة سديم. تبدو الوالدة في الصورة أشبه ما تكون بشخصية الدراكولا. أنف طويل بعض الشيء، مع ملامح رجولية لا تعرف الابتسامة أبدا، وعينان جاحظتان. وكان الأحرى بدار سديم الانتباه لهذه الصور، لا لكونها توفر لنا تصورا أوضح عن شخصيات المذكرات فحسب، بل لأنها تعد بمثابة وثائق يمكن الاستفادة منها أحيانا لرسم صورة عن تلك الفترة.
فرويد وبديعة
عادة ما تكون المذكرات فسحة للكشف عن مصادر أخرى بديلة عن الحياة الاجتماعية والثقافة والسياسة لفترة معينة. وربما في مذكرات مصابني، ما يوفر فعلا مصدرا مهما لفهم حياة اللهو والطرب وأسماء المغنين والراقصات في مدن المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. مع ذلك فإن المذكرات بقدر ما توفر من معلومات، تحتاج أحياناً من القارئ عدم التعامل مع كل ما تذكره بوصفها حقيقة، أو تمثل السردية الكاملة. فالمذكرات عادة أقرب ما تكون للنصوص التأويلية، التي يعيد فيها كاتبها أو مدونها رواية الأحداث الشخصية التي مرّ بها من زاوية ما، أو في ظل ظروف معينة. وفي حال بديعة، يبدو أن مذكراتها تحتاج إلى بعض التوقف، للسؤال عن طريقة طرحها لقصتها. فمن يقرأ المذكرات يشعر أحيانا وكأن بديعة أو مدونة ذكرياتها (نازك) كانتا فرويديتين (نسبة لفرويد). بمعنى أن من يقرأ المذكرات يرى أنها تحاول القول إن ما فعلته بديعة من خلال دخولها لعالم الملاهي والرقص، ومعاشرتها لعدد من الرجال، لم يكن سوى وليد جرح الطفولة. فالشخص وفق التحليل النفسي الفرويدي هو نتاج الطفولة، وبديعة هي ابنة تلك الطفولة، التي تعرضت فيها للاغتصاب، وما تبعه من تهميش وذل بسبب كلام الناس. وعلى الرغم من أنه لا يمكن نفي أن المجتمع الدمشقي، والمشرقي عموما، في بدايات القرن العشرين، كان مجتمعا محافظا، غير فرداني، يولي لسؤال العيب والحرام مكانة في حياته. لكن يخيل لنا أن حادثة الاغتصاب لوحدها لم تكن هي الوحيدة التي دفعت بديعة للرقص والغناء في الملاهي الليلية، بل هناك ظروف أخرى مثل الهجرة إلى الأرجنتين، وهي هجرة حاولت بديعة ربطها بالحادثة التي تعرضت لها، إلا أنها ربما جاءت في سياق في سياق مزاج عام مسيحي إن صح التعبير، وحتى غير مسيحي، كان يشجع الهجرة في بدايات القرن العشرين نحو أمريكا للهرب من الفقر والجوع والحساسيات الطائفية. وهو أمر سيتفاقم مع قدوم الحرب العالمية الأولى، التي عاشت فيها مدن مثل بيروت فقرا لا يوصف، وهو فقر تتحدث عنه بديعة بإسهاب في مذكراتها. ولذلك يمكن القول إن هناك محطات أخرى ساهمت في تكوين مسار بديعة وتتعلق بحادثة الاغتصاب، هجرتهم والفقر، زواج اختها من شاب لبناني، هجرتها مع والدتها لاحقا إلى الإسكندرية والقاهرة، وهي المحطة الأهم في رأينا، التي ربما لولاها لبقيت بديعة تعمل في الخياطة، ولم تدخل عالم الفن والملاهي، بالإضافة إلى عوامل مثل لذة النجومية والمال. وبالتالي ما يسجل على مذكرات بديعة محاولتها التركيز فقط على حادثة معينة لتفسير ما جرى لاحقا في حياتها، بينما نحتاج اليوم إلى إعادة النظر في مسارها، والمحطات التي توقفت فيها في فترة البلوغ لمعرفة أسباب أخرى لتوجهها نحو الغناء. وهذا الأسلوب في ربط مسار الذات بالطفولة، لا يقتصر فحسب على مذكرات مصابني، بل هو سمة ما نزال نلاحظها في نصوص السير الذاتية العربية.
فرنسيون وملاه ومسرح الريحاني
من بين الأشياء والمقارنات الجيدة التي ترويها بديعة، ما يتعلق بعالم الملاهي في فترة العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، ولاحقا في فترة الفرنسيين وقدموهم لدمشق وحلب وبيروت. إذ تذكر مثلا أنه مع اندلاع الحرب العالمية تراجع حضور الزبائن للملاهي، لكن بعد فترة من الزمن، وعلى الرغم من أكل الناس للكلاب في الشوارع بسبب الجوع، عادت واشتغلت الملاهي أكثر من السابق. ما تقف عنده أيضاً، أنّ قدوم الفرنسيين لبيروت ترافق في البداية مع تشديد الإجراءات القانونية على الملاهي، وربما يمكن تفسير هذا الأمر من كون الفرنسيين أبدوا حالة من التوجس من الملاهي، أو الخمارات، أو بيوت الدعارة، خوفا من أن تساهم هذه الأماكن في نقل بعض الأمراض للجنود، ما جعل الفرنسيين يحاولون إعادة تصميم بيروت والأماكن عموما لتتلاءم مع سياساتهم البيولوجية. وهذا ما يفسر محاولتهم في البداية تشديد الرقابة على الملاهي بشكل أكثر حزما مقارنة بالعثمانيين، الذين بدوا أيضا في نهاية القرن التاسع عشر يحملون سياسات إعادة تنظيم هذه الأماكن والاعتراف بها رسميا. كما تشير في هذا السياق إلى ارتباط تطور الملاهي لاحقا في القاهرة بعالم الحرب العالمية الثانية، إذ كان الجنود وقبل ذهابهم للجبهات يقضون أوقاتهم في الملاهي، ما ساهم في تطور أعمالها. ولعل هذا الربط بين الملاهي والجنود والحرب، ما يتقاطع مع ما حدث لاحقا في سوريا ومدن عربية عديدة في السنوات الأخيرة، ففي الوقت الذي أخذت تنهار فيه هذه المدن، كان عالم الملاهي بالمقابل يتوسع بسبب ظهور نوع جديد من الزبائن والمطربين (أبناء الحرب).
تبقى النقطة الأخيرة، والجديرة بالاهتمام والتوقف، حياتها مع الممثل الفكاهي المصري نجيب الريحاني. إذ عاشت بديعة مع نجيب حياة طويلة، فقد تعرفت عليه في إحدى مسرحياته في بيروت، وهنا تطورت علاقتها به، وعاشت معه لفترة من الزمن، ثم انفصلت، وعادت مرة أخرى وتزوجت منه وهاجرا إلى البرازيل وفرنسا لفترة من الزمن. ومن بين الصور التي تذكرها عن نجيب أنه كان رجلا بخيلاً، كسولاً، يحب النوم طوال الوقت. ولعلها بالغت كثيرا في هذا الجانب، وهذا ما نراه من خلال حوار جرى بينها وبين الريحاني، فبينما أخذت تصفه بالكسل، رد عليها الريحاني بالقول لها بأنها (يهودية) تحب جمع المال كثيرا، بينما هو لا يفضل العمل كثيرا، لأنه ليست باستطاعته إضحاك الناس في أي وقت. وهنا يبدو كسل الريحاني وتبريراته، الذي تراه بديعة أمرا سيئا في شخصيته، تحمل تعليلا وجيها، فالكسل أحيانا هو شيمة المعرفة، وفق تعبير بعض الأنثروبولوجيين، ويمكن القول إن الريحاني كان يرى الشيء ذاته. فالكسل برأيه هو شيمة الإبداع والقدرة على تقديم فن أفضل، والفن ليس مجرد عرض يومي اعتادت ربما بديعة على تقديمه في الملاهي. ولعل هذا الخلاف حول فكرة ومعنى الفن، ظل هو الخلاف الأساسي بين الطرفين، وإن بدا أن الريحاني شخصية بخيلة فعلا، وهو أمر لا تحبه النساء عموما في الرجل، فكيف بمغنية مدللة في الملاهي والمسارح، ويبدو أنه فاقم من حدة الخلافات بينهم. مع ذلك بقيت مصابني، رغم انفصالهما مغرمة بالريحاني، خاصة عندما كان ينادي عليها في الحفلات والمسرحيات (شدي يا بدعدع).
يبقى في النهاية أن نذكر أن بديعة عرفت بعدد من الأغاني مثل أغنية (فستق مملح ولذيذ يا أفندي)، كما رددت بإتقان أغاني منيرة المهدية مثل «يا منعنشة يا بتاعة اللوز»، ما جعلها واحدة من أهم مغنيات الشام ومصر في النصف الأول من القرن العشرين.