كلمة الدكتور فيليب سالم
كانا أخوَين. وكأنّه لم يَكُنْ من قبلِهِما أخوانٌ مثلُهما. وكانا واحدًا في المحبةِ والأخوةِ والإبداعَ. كانَ من الصعبِ أنْ تَعرَفَ مَنْ بينهما، هو الشَاعرُ وَمَنْ هو الموسيقار. وفي الطريقِ إلى مطعمِ فيصل في رأس بيروت، حيثُ كُنّا نَتَغَدى كلَّ يومِ خَميس. كان عاصي يَمْسكُ بيدي، ويشدُّ عليها ثم يهمُسُ في إذني (هيدا منصور مهم. إذا صار لي شي بدك تخلّلي عينك عليه). وَبَعْدَ أن تَرَكَنا عاصي، أصبحَ منصور، وهو يَكْبَرُني سِنًّا، الأخَ الاصغرَ لي. تمامًا كما كانَ لعاصي. وَصارتْ عَينايَ تُلاحِقُه دائمًا، وَلَوْ مِنْ بَعيدْ.
وكانَ عاصي يسألُ في الماورائياتْ. مَنْ صَنَعَ الكونْ؟ وَمَنْ أعْطى الحياة؟ ولماذا كلُّ هذا الوجود؟ وَهَل اللهُ هو اللهُ الذي نَعْرِفُه، والذي «نَزَلَ مِنَ السماءِ وَتَجسّدْ؟» أمّ أنَّ هُناكَ «شي» آخر. كلُّ مَنْ عَرَفَ عاصي عن كَثَبْ كانَ يَعرِفُ أنّهُ مُصِرَّ على معرفةِ ماهيةِ هذا «الشي». كانَ عاصي يَخافُ الموتَ وكان يَودّ أن يَعَرِفَ شيئًا عن «الشي» قبلَ اللقاءِ به. وَيَسألُني، هل رَأيْتَ في طِبّكَ شيئًا من مَلامح هذا «الشي». وعندما لا تَروي أجوبَتي عطشَ تساؤلِهْ كانَ يُصَابُ بِخَيبة، وَيُتمتمْ (في شي، أكيد في شي). كانَ عقلُ عاصي يَضجُ دائمًا بالأسئلةْ. يَسألني عن الخَليّةِ والخلايا. وفي يومٍ من الأيام، ارتكبتُ خطأً، وشَرحتُ له كَيفَ تَعملُ الخلايا بتنسيقٍ مهيبٍ وكيفَ عِنْدما تنامُ أنْتَ، تَبقى الخلايا تعملْ لتوفّر لكَ الحياة. وشَرحتُ له أنَّ الخليةَ الواحدةَ وهي أصغرُ مُركّب في جَسَدِ الإنسان، هي كالكَونِ إن أردتَ أن تعرفها لا حُدودَ للمعرفةِ فيها. ذُهِلَ عاصي وامتَلكَه الفَرحْ. بعدَ ذلك أصبحَ مُدمنًا على معرفةِ وظائفِ الخَلايا، يَسألُني عنها كلما التقَينا. إلاّ أنّه لمْ يَسألُني يومًا عن الخليةِ السرطانيةْ. كانَ يتجنبُ الكلامَ عنها وكانَ يَعتبرُ ان عَلاقَتَه بي هي بمثابةِ عقدِ تأمينٍ يُؤمِنُّ له عَدَمَ الإصابةِ بالسرطانْ.
ذَهَبَ عاصي، وبَقِيَ منصور، وأكْمَلْنا المشوارْ. مشوارُ الصَّداقة. الصَّداقة التي لا تريدُ شيئًا سوى الصّداقةْ. آلافُ الاميالِ بيني وبينه، وبالرغمِ مِنْ ذَلِكْ كانَ يعيشُ معي. يَرِنُّ التلفونُ في مكتبي في مدينةِ هيوستن، وتقولُ لي مُساعدتي «رَجُلٌ غَريبُ الصوتِ يريدُ الكلامَ مَعَكْ». هذا صوتُ منصور يَهْدُرْ في عيادتي، فترتَجِفُ حيطانُها. (أيمتى جايي؟ صار في عصافير. بدنا نتغدى عند الحلبي. دخيلك ما تطوّل). وعندَ الانتهاءِ من المُكالمةْ، تعودُ مُساعِدَتي وَتَسألُني: ولماذا هذا الرجلُ غاضبُ عليكْ؟ وكيفَ تَشْرَحُ لها أن ما اعتقدَتهُ غَضَبًا هو أجملُ ما سَمِعْتَهُ أذُني. هذا النوعُ من الصداقاتِ لا يعيشُ في الغربْ. يَعيش في الشرقْ.
وكنت كل ما زُرْتُ لبنان، على الطريق من المطار إلى بطرّام، أَمُرُّ على انطلياس وأزورُ منصور في بَيْتِهْ. هُنا في هذا البيتْ تعيشُ أجملُ الذّكرياتْ عِنْدي. هذا منصور، وهذه تيريز، وهؤلاءِ هُمْ الأولاد. البيتُ يَضِيقُ بالفَرحْ، وتَكادُ حِجَارَتُه تَتَكلّمْ، وتسألُني، «أينَ كُنْتُ؟» أختلي بمنصور لساعاتٍ في غُرفةِ مكتبه، ونحكي قصصًا وحكايات. يُداهمنا الوقت. أتذكّر أن البيتَ في بطرام يَنتظَرُني، أُعانِقُ منصور وأودّعُهْ.
قبلَ وفاتهِ طَلَبَ الكلامَ معي (أنا في المستشفى. يقول الأطباءْ أن وضعي الصحي صعبْ. بدّي شوفك). بَعْدَ يومين كنتُ في بيروت. مِنَ المطار تَوًا إلى المستشفى. هذا منصور، الصخرةُ، الجبلُ، طَرِيحَ الفُراشْ، يَصْعُبُ عليهِ التنفسْ. قبّلتُه على جبينهِ ألفَ قُبلة، وجلستُ بجانبهِ ساعاتٍ أمْسِكُ يَدَهُ. (هودي الاولاد حظهم قليل، ما عندي مال، ولا عندي أرض ورّثهم، بس تاركلهم أربع خمس مسرحيات). مَضَى منصور، وبَقِيتْ المَحبة، وبقيتْ أيًضا الكلمة. في حفلٍ تكريميٍ لي في الأونسكو في نيسان 2002، قال منصور (قل لهم نريدُ وطنا كبيرا، وطنا للطموح. وطنا يؤمّن للباحث تجاربه فلا يغترب من أجل أن يُحقّق الخيرَ للآخرين. قل لهم نريدُ وطنا للإبداع، ولا ابداعَ خارجَ العدالة. ولا عدالة خارجَ الحرية).
عاصي ومنصور حكايةُ عُمْرْ. حكايةُ حَضارة. وجاءتْ سيدةُ لبنانَ الأولى فيروز، ليكتملَ الثالوثُ اللبنانيُّ المقدّس. قد يَختلفُ اللبنانيون في أمورٍ كثيرةْ ولكنّهمْ لا يختلفونَ في قدسيةِ هذا الثالوثْ.
هؤلاءِ الثَلاثَةْ رَفعوا لبنانَ إلى فَوقْ، وأغنوا حضارَته، كما أعطوهُ معنىً وهويةً جديدتين. مِنْ سنواتٍ عديدةٍ كتبتُ ثلاث افتتاحيات في جريدةِ «النهار» في ثلاثة أيام متتالية، وكان العنوان واحداً: «معنى لبنان». يومها، أهدَيْتُ هذه الافتتاحياتْ إلى رُوحَيْ عاصي ومنصور. وهل يمكنكَ أن تتكلمَ عن مَعنى لبنان دونَ أن تَنْحني أمامَ هذا الثالوث؟ لَقَدْ جعلوا مِنْ لبنانَ منارةً للحضارةِ ومنبعًا للفرح، وملأوا سَماءَ هذا الشرقِ حُبًا وعُشقًا. صارَ الفرحُ ينبعُ عندنا ثم يَتدفقُ على مساحةِ الشرقِ كلّهْ. في الخمسينَ سنةً الماضية كانَ لبنانُ ولا يزالُ في حُزنٍ وألمٍ عميقين. إلا أنّهْ لَمْ يتوقفْ عَنْ تصديرِ الفرحْ. ليس إلى العالمِ العربي فقط، بل إلى كل بقاعِ الأرضِ وحَيْثُما وُجِدَ شخصٌ يتكلّمُ العربية. إنّهُ لبنانْ، أرضُ الفَرحِ، وَلَوْ كانتْ هذهِ الأرضُ قد شَبعَتْ دماءً وكانتْ شاهدةً على كل الحروبِ والنزاعاتْ. إنّه لبنانْ، المؤمنُ بثقافةِ الحياة، بِالرغم من كلِ الموتِ الذي يَلِفُّه. نَحْنُ لم نُولَد لنَموتَ، لقد وُلِدنا لنحيا.
ويُخطئُ من يَظنّ أن هذا الثالوثْ قد رَسَمَ لبنانًا غير لُبنانِنا. كان لُبنانُهم لبنانَ الحَقيقي. أمّا لبنانُنا اليومَ فهو لبنانُ المزوّرْ.
عاصي ومنصور كانا «ولاد ضيعةْ» عَرفا دروبَها وبيوتَها وأشجارَها، كما عَرِفا أنّ حقيقةَ لبنانْ تَكْمُنُ في حَضارتِها. في الضيعةِ يتعلمُّ المرءُ الولاءَ للأرضْ، الولاءَ للأهَلْ، والولاءَ للوطنْ. وكم كانَ حَظّيَ كبيرًا إذ وُلدتُ وعِشْتُ في ضَيعةٍ مِنْ لبنان.
عاصي ومنصور، قِصّةٌ كبيرةْ. يَوْمَ زُرتُهُ في المستشفى سألني منصور، (هل يا تُرى، سألتقي بعاصي؟ وهل سَيَعرفني هو، وأعرفُه أنا؟) كانا أخوينِ على الأرضْ. وهما يصرانِ أن يَبْقَيا أخوينِ في السّماءِ أيضًا.
لَقَدْ ماتَ عاصي، وماتَ منصور، ولكنّهُما تَرَكا لنا ولجميعِ اللبنانيينَ وصيّةْ. تَقول الوصيّةْ: «أعْبدوا لبنانَ بَعْدَ الله» يَجِبُ أنْ نَعْبدهُ لكي نَستحقّهْ. يَجِبُ أن نَعْبَدهُ لِكيْ نُعيدُهُ إلى الحياة.