شادية الحاج حجاّر-سيدني
تكتب ُ بشوق الروح الى الانفصال عن كل ما هو مرئي ومسموع ، عن كل ما هو مؤطر ، مُدرج ،معلّب، ومعنوّن فتخرج ُ خيولها الى ساحات لا حدود لها والى سماوات لا غيوم تظللّها!!
“ وحيدةٌ في أزقة الايام
اتسّكع ُ ( أسير ُ) – حالمةً
مفكرةً
متأملةً العالم الذي
ازنره بالحب.
فلا ارى سوى وجهك
على كلّ ما حولي
السماء ، الاشجار
الورود ، الهواء
كلها تعرفني
ورأتني غالباً
معك.
لو يسمح لي المترجم والكاتب الاستاذ البير وهبي ان استعيض عن استعمال فعل اسير ُ بفعل اتسكّع ُ وذلك بعد ان قرأت القصيدة الاولى بالفرنسية اكثر من مرة وحيث ايضاً تقول” وعندما كنّا(
نسير)- نتسّكع ُ في ازقة السنوات السعيدة
« Quand nos pas se traînaient dans ces ruelles des années Heureuses. »
فلكل ّ لغة خصائصها ، جماليتها وميزتها ، فالفعل الذي يعبّر عن التيه ، والضلال والتشرد دون هدف معيّن في اي مكان ورد في الكتاب يحمل خصائص فريدة تدل على التجوال العبثي. فلو أتيح لي أن أختصر هذا الديوان بقصائده ال ٣٩ لإختصرتها
بعنصر التيه المرتبط ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بالحبيب
،والقاسم المشترك بينها الذي تربع على عرش كل القصائد بالفرنسية لمجرد استعمالها مراراً للفعل traîner .
مع ذلك تبقى اللغة أياً كانت تاج الكلمة وصولجان قلبها المفتوح على شواطئ ومساحات بيضاء.
أهو َ تجديف ٌ أن يحّب المرء بهذا الحب الذي يغمره حتى ذوبان الذات الكلي ويسكره ؟
فالشاعرة السقلاوي بالطبع لا تبالي أكان حقاً فعل تجديف أم ْ لا؟ فهي تأخذ القارئ معها في هذا النمط من التسكع الذي نخاله للوهلة الاولى عبثياً ، عدمياً ، دون هدف معين.. فنكتشف فيما بعد، ص 17 “ حياتي دكناء دون حب”
“وانت تعلم أن فجري بدونك قبر ٌ” ص105.
“ كم مرةً عليّ أن اموت كي لا اتذكر !” ص 74 “
“لكي تستطيع ان تحبني اكثر قليلاً “ ص 38
فهي تنادي دون كلمات ؛ تتنفس دون صوت ؛ تبكي دون دموع ولا تقبل الاستسلام لما يكون فتنفلت ُكلماتها على اوراقها كالحصى في غابة وحدتها لكي تحفظ طريق العودة الى رحاب الحبيب.
لعبة ُ الترجمة لعبة لها ميزة فريدة ففي قصيدة الليل ص ١٥
الليل باللغة العربية مذكر وبالفرنسية مؤنث
la nuit
فأعطت الترجمة النص باللغة العربية نسيجاً خاصاً لهذه القصيدة وافقاً جديداً
واسعاً من خاصرة اللغة العربية وخواصها : فالليل من ليلى والليل وليلى توأمان يتخاطبان بلغة خاصة لا يفهمها إلاّ عاشق الليل ومحبوبته التي تقول “ لك وحدك أقبل أن أصلّي”.
يدعونا هذا الحب الى ان نشهد تحولات خيالية متسامية فتصير الحبيبة مرةً هيرا المعشوقة في الالياذة ، ڤينوس وأفروديت وحتى يونان الذي لفظه الحوت على الشاطئ.
هنا يعزّ عليّ أن استشهد بالكاتب الفرنسي
Honore’ de Balzac
الذي رفض رفضاً تاماً ان يكون تسكع الحبيب في غياب المحبوب او تسكعهما معاً فعلاً عبثياً يدل بعدم القيام بأي شيء او على الكسل الذهني الارادي.
لا بل يذهب بلزاك ابعد من ذلك فيقول “بأنه فنّ تذوق العين “ ومنهج حياة الفنان البوهيمي – الذي يشعر بالغربة بين افراد مجتمعه ؛ يعيش ممزّقاً من الحزن ومن الحب والذي يتألم من صخب الحياة وجنونها. لعل ّ اجمل مثالٍ لهذا التيه والتلكؤ والتخبط الذي تمادى في حيرته وضلاله حتى الجنون ، والذي اصبح نموذجاً لشخصيات ادبية مركزية في شوارع باريس في القرن ال ١٩ ومن المستكشفين الحضريين المتذوقين لما في شوارع المدينة؛ الكاتب الفرنسي شارل بودلير الذي بفضل ترجمة كتابه “ ازهار الشر” les fleurs du mal “ والمجموعة الادبية والشعرية بعنوان “ شاعر غنائي في حقبة الرأسمالية العليا”
للكاتب الالماني
Walter BenYamen
والذي ما زال مؤثراً بقوة في الحياة الثقافية في العالم خصوصاً مقالاته عن الاستنساخ الثقافي ؛ حيث لاقى رواجاً ملحوظاً وفريداً في سوريا، لبنان ومصر والعراق
أذكر هذا المرجع المهّم الذي برأيي اثرّ على ذهنية واسلوب حياة كثيرين من الفنانين الذي عاشوا في فرنسا ؛ والذين خرجوا الى الشوارع متسكعين للبحث عن الحداثة الفنية ؛ منطلقين من فكر حاد ونافذ ومتقّد. خرجوا يبحثون خلف الاروقة الزجاجية العالية السقف والجدران الرخامية الحديثة التي الى جانب المنازل البسيطة في الازقة المتعرجة من خفايا العاصمة، خرجوا يبحثون عن مسكن لهم في الشارع ، بمتعة فائقة بين الازدحام وكتعبير غامض عن بهجة خاصة تفوق بنوعيتها وفرادتها الاكتظاظ السكاني وعدد المارة. يكفي أن تهتمَّ وأن تغرق في شوارع المدينة وميادينها في ترفها وبؤسها ان تبحث عن حبّ ما كان وسيكون ؛ ان تتسكع وانت مشدود كوتر ، على بُعد شعرة واحدة من الجنون من شدة الحياة المتخبطة في داخلك وكثافتها ، يكفي ان تثور ضدّ من يقتلون الروح بالابنية الفخمة الزجاجية ومن يقتلون روح المدينة وروحك. يكفي ان تكون هذا المسافر في صحراء الانسانية الشاسعة الذي هدفه اسمى من هدف متجول بسيط واكثر شمولاً من المتعة الهاربة، المنفلتة؛ والمتواترة ، لاستخلاص عناصر الخلود من العابر والزائل لتصل الى روح الحاضر ، روح الزمن الذي نعيش فيه ، يكفي ان تكون هذا الذي يتمثّل ُ بالاحساس بالحاضر لتحويله الى حداثة جمالية من فرط وعيك بذاتك الذي هو المصدر الوحيد للقيم الجمالية وبديلاً للحضور الطاغي للتقاليد الفنية الموروثة.
ليلى سقلاوي الشاعرة بالفرنسية والانكليزية تكتب لتصبح “ شهب نجمة “ يونان الذي لفظه الحوت” “ هذا الجنين الذي تحمله الأم في قلبها” سرّ الحياة “ الصحراء العطشى الى رحيق شفتي الحبيب” “ ملحمة شعرية مكتوبة ً بلغة عالمية” قصيدةً مكتوبةً فقط بأحرف كلمة أحبك “.
ليلى سقلاوي شكراً لايامك التي لو ْ لَمْ تغب ْ لما اكتشفنا كنوز هذا الحب الذي يدعونا الى أن نحبّ “اكثر ولو قليلاً “.