بدوي الحاج- سدني
يُقال بأنَّ « المَكتوب يُقرَأ من عنوانه …» وشذرات بول طبَر الذاتية إنْ دلّت على شيء، فهي تدل على قيمة معنوية إنسانية صادقة، وسيرة لِكثيرين من المهاجرين اللبنانيين الذين غامَروا بكل نَفيس حتى يَطأوا بِلاداً أُخرى يَبنونَ عليها بعضاً من أحلامهم وأحلام أولادهم من بَعدِهِم .
إنّه النَّزْف الذي حَكَمَ على الوطن الأوّل أنْ يَفقُد جميعَ أحفادِه ويُقَدّمهم إلى وطنٍ ثانٍ في عُلَب الهدايا الأنيقة . وطنٌ على أهْبَة الشَّغب، ألوانُه رماديّة، تقاسيمُه غريبة، تأوُّهات على وَتَرِ الحُروب . وطنٌ بارد بِلا شهوة، عالِقٌ بين الصوتِ والصّدى . حِفنَةٌ من الشعوب المُكَدَّسة مَذهبياً جَمَّعَتْها الرّيح، في زواريبٍ ضيِّقَة عَتِمَة .
في « شذرات من سيرة ذاتية عادية « يُعَرِّج الدكتور طبَر، وبِدِقّة، على كل تَفصيل في حياتِه بين القُبّة-طرابلس، مكان سكنه، وزغرتا-إهدن حيث جُذور أهله وأجداده .
في المَكانَيْن لَم تختَلِف الصورة كثيرأ . فالصِّراع اليوميّ لتأمين مَعيشة تَليق بالفَرد والانسان، كان ومازال الهَمّ الأكبر لِمُعظَم العائلات اللبنانية، التي كَدَحَت ليْلَ نهار لإرسال أولادها إلى المدارس وتأمين سُبُل قوتِهم وعَيْشِهم رغم الصّعوبات ووُعورةِ الطّريق .
لم تكُن الأمور أسهَل على بول طبر وعائلته أبّانَ وصولهم إلى سيدني، التِحاقاً بالوالد ميشال والأخ الأكبر بيار اللّذان وصَلا قبلَ الآخَرين بسنوات قليلة .
فاللُّغة والمُجتمع والبيئة والتقاليد كانوا الحاجز الأمتَن في وَجهِ العائلة كَكُل وفي وَجْه بول بالتّحديد .
فالمُراهِق القادم من لبنان كانت له طموحات كبيرة وواسعة وِسْعَ ذلك الفضاء الذي عَبَره، وَلِيَومَيْن، مُروراً بِمدينة سايغون في آب ١٩٧١، يومَ كانت دولة ڤيتنام تُقاوِم الأميركي كي تَستَرجع استقلالَها وتحصُل عليه في السنة التي تَليها ١٩٧٢ .
بعدَ تغلُّبِه على حاجز اللّغة، قرر بول إكمال دِراستهِ في أستراليا، بعدما كان قد حصَل على الشهادة التكميلية (البريڤيه) في لبنان .
أنهى بول دِراسته المدرسية الثانوية ودخل جامعة ماكواري، شمال غرب سيدني، في كليّة التاريخ والفلسفة والعلوم السياسية، وهناك أنهى أطروحته في علم الاجتماع، هو الذي تعَمّقَ أكثر فأكثر في دِراسة الفلسفة الاجتماعية وفلسفة العلوم ونظريات المَعرفة، حيث كان من المُعجَبين بالفِكر الماركسي ومُقاربَة كارل ماركس لأمور الطبقية الاجتماعية والإيديولوجية الطائفية، فكانت دِراسته عن المجتمع اللبناني وتعَمُّق جذور الطائفية فيه وسيطرتها على مَرافق الدولة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مِمّا كان سبباً رئيسياً في انهيار المؤسسات اللبنانية وفشلها في إقامة دولة تخدم الفَرد والجماعة في بوتَقة واحدة .
هذه الأسباب جعلت الشاب بول طبر ينتفض على واقعِه الطّبقي والطائفي وينخَرِط في مُنظّمة العمَل الشُّيوعيّ ويكون أحد مؤسسيها في أستراليا مع شلّة من الشباب المُثَقّف الرافض لِواقع رَثّ أوصَل الوطن لِما عليه اليوم من انحِلال كامل لِدولة فاشلة تَقوم على النِّزاعات المَذهبية والتَّحاصُصات المالية .
كل هذا دفعه، فيما بَعْد، إلى أن يكون من المؤيدين الأوائل لثورة ١٧ تشرين، التي اعتبرها امتداداً لثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين آنذاك، ومطالبتها بحقوق المواطنين والمواطنات وواجباتهم المتساوية .
في زواجهما عانَ بول ورجاء الكثير من الرّفض من كِلا العائلتيْن . هو الزغرتاوي الماروني بِنَظر أهل بيته، على الأقل، وهي الشيعيّة ابنةِ عَيتَرون وإحدى عائلاتها التقليدية، فكانَ عدم القبول من الأهل السبب في اعتِماد « الخَطيفة “ سبيلاً لِزواج مَدَنيّ في غِياب كامل للعائلتَيْن . لكن هذا لم يَمنع أهل « العرسان «، فيما بَعد، من تجاذب الأولاد، كُلٌ لطقوسِه ومعتقداتِه .
فأبو بيار ماروني كتائبيّ العقيدة وأهل رجاء متمسكين بِكَيْنونتهم الجنوبية وتقاليدهم العائلية . ولكن في النهاية يَربى الأولاد في كَنَفِ أُمٍ وأبٍ علمانيَيْن يزرعان فيهم القِيَم الإنسانية الشاملة .
في نِهاية المَطاف عادَ بول إلى لبنان كأستاذ جامعيّ، حيث قضى ٢٠ سنة في التعليم، في الجامعة اللبنانية الأميركية، يُدَرِّس علم الاجتماع ويَطمَح، في الوقتِ عينِه، إلى تغيير جذريّ في ايديولوجية المجتمع اللبناني وكيفية تفكير الفَرد الطّبَقي والمذهبيّ وجعلِه يَعيش النّمط الأسترالي في تواضعه، والعمل على تحسين بيئتِه ودولتِه بشكل عام، لا أن يَكونَ آداةً بِيَدِ زعيمٍ أو حزبٍ أو مجموعة مُعَيّنة .
إنّ الوَصفَ الدّقيق للأشخاص وللأشياء وللأحداث، جعَلَ الكِتاب أقرَب إلى الرِّواية منه إلى السّيرة الذاتية، بأسلوب مُشَوّق يجعَل القارىء يَعيش اللحظة ويتفاعل معها بينَ وطنٍ وغُربَة .
بروفسور وباحث متخصص في علم الاجتماع .