بقلم الدكتور علي أبوسالم

حينما قررت الكتابة عن البروفيسور فيليب سالم «الإنسان»، لم أكن على معرفة كافية أشعر معها بالطمأنينة التي تمكنني من أن أقول ما يناسب مقام هذا الرجل المهيب. كنت ممزقاً بين محورين متنافسين: فيلب سالم العالم والطبيب، وفيليب سالم الإنسان والمفكر الثائر. أن معرفتي بالبروفيسور سالم تسبق سنوات معرفتنا الشخصية، وذلك بفضل صديق مشترك كان له دور كبير في الإضاءة على هذا البروفيسور المبدع من بلادي، ألا وهو الشاعر المهجري الراحل نعيم خوري.
نعيم خوري كان المعلم الذي لم ينسَ تلميذه. كما أن التلميذ فيليب سالم لم ينسَ معلمه قط. عَبَر هذا التلميذ المحيطات ليكون بجانب معلمه عندما علم بمرضه. وبما أن فيليب سالم العالم والطبيب، وفيليب سالم الإنسان والمفكر لا ينفصلان، ارتأيت أن أبدأ كلماتي بما قاله نعيم خوري عن فيليب سالم: «رائعٌ على اندهاشٍ هذا الفيليب سالم، الصديق أولاً والإنسان دائماً، يثير فيك اللحظة المحببة والشعور الدافق والحيرة العذبة الطالعة من عين الضيعة.»
نعم، التقيت البروفيسور فيليب سالم عندما زار استاذه في عام 2000 وخصّ ملبورن بزيارة وكان يومها برفقة معلّمه فاكتشفنا معدن هذا الرجل ومدى صدق نعيم خوري عندما كان يتحدث عن تلميذه. وكان لنا الشرف في مجلة الجذور، مجلة الثقافة العربية في أستراليا، أن يحمل غلاف عددها الرابع لوحة رسمها الفنان فؤاد تومايان للبروفيسور الزائر وعنوان رئيسي من أقواله: «ويلٌ لإنسان لا تربطه محبة بأخيه الإنسان وبالأرض.» يا الله! ما أجمل هذا القول الذي يجسّده قولاً وفعلاً على مدى مسيرته المهنية والفكرية والإنسانية.
يقول فيلب سالم: «أكبر تكريم لي هو شفاء مريض واحد. وهذا تكريم من الله». فلقد جعل العلاقة بين الطبيب المعالج والمريض، علاقة إلهيّة بكل أبعادها الروحانية والتنويرية. شعار فيليب سالم الدائم «تمسكوا بالأمل»، وهذا الشعار موجّه للمريض وللطبيب في آن معاً كي لا يفقدا الأمل في الشفاء، وبهذا التوجه، انتصر نهج فيليب سالم على فكرة الموت بانتصار مريضه بالشفاء وفكرة الحياة . هذا هو فيليب سالم. كلّما تمعنّا بصفحات تجربته الحياتية والإنسانية، نكتشف صفحات أبهى وأنقى!
من علّمني حرفاً حرّرني من عبوديّتي
بعد اثنين وعشرين عاماً، قامت مؤسسة الجذور الثقافية في أستراليا بإحياء ذكرى «الأستاذ» نعيم خوري في حلقة خاصة تحمل عنوان «نعيم خوري في البال»، واتّصلت بالبروفيسور فيليب سالم ودعوته للمشاركة في هذه الحلقة الخاصة فوافق فوراً وبدون تردد. كيف لا وهو الذي قال: «أشكركم لإعطائي الفرصة للحديث عن نعيم، أستاذي وصديقي وحبيبي. كان عمري تسعة أعوام، وكان نعيم يعلمني اللغة العربية كل صيف على مدار أربعة أعوام. وأُؤكد لكم أنّه لولا نعيم لما كانت لغتي العربية بالشكل التي هي عليه الآن. نعيم جعلني أحبّ اللغة العربية وجعلني أحبّ الشعر العربي. لم تكن العلاقة مع نعيم علاقة تلميذ عمره تسعة أعوام بأستاذ عمره في منتصف الثلاثينيات. أنا من الناس الذين يؤمنون: إن لم يكن عندك وفاء ليس لديك شيء … الوفاء الذي أكنّه لنعيم لا يمكنني التعبير عنه والفضل الكبير الذي تركه في نفسي، والديّن الذي أدين به له، والمحبة الأكبر التي كانت تربطني به. وعندما نتحدث عن التلميذ والأستاذ يقولون «من علّمني حرفاً كنت له عبداً.» وأنا دائماً أقول بإن هذه المقولة خاطئة: «من علّمني حرفاً حررني من عبوديتي.» «لأن أكبر عبودية هي عبودية الجهل.»

الكتابة عن فيليب سالم لا شك مهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، خوفاً من ألا تُعطي هذا المبدع والإنسان حقّه، ليس في مجال الطب ومكافحة الأمراض السرطانية فحسب، بل في دعوته لتعديل شرعة حقوق الإنسان التي سبق أن شارك في صياغتها وإعدادها الدكتور شارل مالك، ابن بطرّام أيضاً.

بطرّام حكاية عشق
ومرت شهور وجدتني بعدها أتصل به ثانية طالباً منه أن يحلّ ضيفاً على برنامج «الجذور هذا المساء» في حلقة خاصة نتحدث فيها عن «فيليب سالم الإنسان» فوافق على الرغم من مشاغله الكثيرة، ناهيك عن فارق الوقت بين أستراليا ومدينة هيوستن في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعيش. وفي الوقت المحدد أطلّ علينا البروفيسور سالم بابتسامته المعهودة فكانت من أجمل وأطول الحلقات على الإطلاق، دامت ثلاث ساعات ونيّف قال عنها فيليب سالم: «إنها سابقة لم يخص أحداً بها على الإطلاق طيلة مسيرته المهنية والإنسانية» جاءت كعرس وفاء لمن أحبهم وأحبوه، بل للإنسانية والأرض التي ولد فيها. تحدث سالم عن بلدته بطرّام وعن أهلها وبيوتها وطرقاتها وحقولها وبساتين الصنوبر والزيتون وعن رائحة الأرض المنسوجة من الشمس كجسر يعبر عليه ليدخل عالم الطيبة والبساطة والوفاء، والأهم من ذلك عالم العطاء والتفاني وحب الإنسان الذي يشعرك بالرضا والسعادة. فبطرّام وناسها هم عائلته الكبرى… عشق سالم لبطرام ذكّرني بعشقي لمدينتي بيت لحم التي تنتظر حريتها لتحلم على هواها.
تكلّم سالم عن تعلقه بالجذور والعادات والتقاليد، وعن علاقته بوالديه وأقربائه، وبلدته بطرّام:
«عند التحاقي بالجامعة الأميركية في بيروت، وفي أول أسبوع، جاء والدي ليزورني يوم الجمعة وقال لي،بما أننا جئنا لزيارتك اليوم، ليس هناك داعٍ لذهابك إلى الضيعة في عطلة نهاية الأسبوع. على الرغم من معرفته أنني أذهب إلى الضيعة ليس فقط لزيارة والدي ووالدتي وأخوتي، لأن الضيعة كلها كانت أهلي وكلها مليئة بالمحبة.»
يقول سالم: «كان لوالدي تأثير قوي في تكوين شخصيتي وتوقي إلى العلم، إلاّ أن لوالدتي الدور الأساس في خياراتي العلمية.» ويُضيف: «عند التحاقي بالجامعة الأميركية في بيروت للدراسة، تفتّحت آفاق جديدة، وأكثر ما احببّته من المواد تلك المتعلقة بالفكر والأدب والفلسفة، والتي أثرّت بي كثيراً لدرجة أنني كنت أميل للتخصص في الفلسفة بدلّ الطب.» وهنا يتذكر سالم بأنه سبق أن وعد أمه بأن يصبح طبيباً ليقوم بمعالجتها عندما تكبر في السن. وبعد تخرجه قام بالتخصص في الأمراض الداخلية لمدة ثلاث سنوات وأثناء ذلك قام بدراسة الماجستير في الفلسفة حيث تتلمذ على يد نسيبه الدكتور شارل مالك. يقول البروفيسور سالم: «لم أتفق مع الدكتور شارل مالك في كثير من الأمور، وأكثر شيء اختلفنا عليه هو رؤيتنا للإنسان. كان هو يقول إن الناس يخلقون متساوين، وأنا بطبيعتي رجل علم. لم أقبل بهذه النظرية. كنت دائما أقول له إن مقولة أن الناس يولدون متساوين، هي نظرية خاطئة لأن هناك أناس يُخلقون وعندهم أمراض جينية، كما ان الاطفال يولدون وهم على درجات مختلفة من الذكاء. الناس يتساوون في الموت ولا يتساوون في الحياة أو في الولادة.»
كما انسحبت هذه السياسة من سالم إلى المستوى العام فرأيناه يُشخّص أمراض مجتمعه ويصف لهذه الأمراض العلاجات المناسبة، ومن أهم هذه العلاجات دعوته إلى المعرفة ضد الجهل، ودعوته إلى الوعي ضد العصبية. لذلك رأيناه صدى لأحلام جيل يتوق الى بناء مجتمع جديد رغم كل المحاولات الطاغية الساعية إلى تأييد الظلام الثقيل المخيم، والتي تحاول في دأبها على توسيع مساحات الجهل والتجهيل وتعميم الطائفية والتشرذم عبر كل الوسائل الممكنة … ومع كل ذلك، ورغم قتامة هذا المشهد المروّع، يُطل علينا الدكتور سالم كمنارة تُضيئ لنا الطريق، وبريق أمل من مفكر ثائر … تنطلق كلماته الصادقة مزغردة كنغمة عشق لرجل يمتلك شجاعة من تهمه هذه الأمة وقضاياها المصيرية، كما يعزّ عليه ما وصلت إليه أحوالها من بؤس، ليأتي صوته بمثابة كلمة حق في حضرة سلطان جائر.

*رئيس مؤسسة الجذور الثقافية- استراليا.
*أستاذ جامعي ومنسّق برامج إدارة الأعمال في معهد كينت للتعليم العالي- أستراليا

من علّمني حرفاً حرّرني من عبوديّتي

بعد اثنين وعشرين عاماً، قامت مؤسسة الجذور الثقافية في أستراليا بإحياء ذكرى «الأستاذ» نعيم خوري في حلقة خاصة تحمل عنوان «نعيم خوري في البال»، واتّصلت بالبروفيسور فيليب سالم ودعوته للمشاركة في هذه الحلقة الخاصة فوافق فوراً وبدون تردد. كيف لا وهو الذي قال: «أشكركم لإعطائي الفرصة للحديث عن نعيم، أستاذي وصديقي وحبيبي. كان عمري تسعة أعوام، وكان نعيم يعلمني اللغة العربية كل صيف على مدار أربعة أعوام. وأُؤكد لكم أنّه لولا نعيم لما كانت لغتي العربية بالشكل التي هي عليه الآن. نعيم جعلني أحبّ اللغة العربية وجعلني أحبّ الشعر العربي. لم تكن العلاقة مع نعيم علاقة تلميذ عمره تسعة أعوام بأستاذ عمره في منتصف الثلاثينيات. أنا من الناس الذين يؤمنون: إن لم يكن عندك وفاء ليس لديك شيء … الوفاء الذي أكنّه لنعيم لا يمكنني التعبير عنه والفضل الكبير الذي تركه في نفسي، والديّن الذي أدين به له، والمحبة الأكبر التي كانت تربطني به. وعندما نتحدث عن التلميذ والأستاذ يقولون «من علّمني حرفاً كنت له عبداً.» وأنا دائماً أقول بإن هذه المقولة خاطئة: «من علّمني حرفاً حررني من عبوديتي.» «لأن أكبر عبودية هي عبودية الجهل.»
الكتابة عن فيليب سالم لا شك مهمة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، خوفاً من ألا تُعطي هذا المبدع والإنسان حقّه، ليس في مجال الطب ومكافحة الأمراض السرطانية فحسب، بل في دعوته لتعديل شرعة حقوق الإنسان التي سبق أن شارك في صياغتها وإعدادها الدكتور شارل مالك، ابن بطرّام أيضاً.

بطرّام حكاية عشق

ومرت شهور وجدتني بعدها أتصل به ثانية طالباً منه أن يحلّ ضيفاً على برنامج «الجذور هذا المساء» في حلقة خاصة نتحدث فيها عن «فيليب سالم الإنسان» فوافق على الرغم من مشاغله الكثيرة، ناهيك عن فارق الوقت بين أستراليا ومدينة هيوستن في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعيش. وفي الوقت المحدد أطلّ علينا البروفيسور سالم بابتسامته المعهودة فكانت من أجمل وأطول الحلقات على الإطلاق، دامت ثلاث ساعات ونيّف قال عنها فيليب سالم: «إنها سابقة لم يخص أحداً بها على الإطلاق طيلة مسيرته المهنية والإنسانية» جاءت كعرس وفاء لمن أحبهم وأحبوه، بل للإنسانية والأرض التي ولد فيها. تحدث سالم عن بلدته بطرّام وعن أهلها وبيوتها وطرقاتها وحقولها وبساتين الصنوبر والزيتون وعن رائحة الأرض المنسوجة من الشمس كجسر يعبر عليه ليدخل عالم الطيبة والبساطة والوفاء، والأهم من ذلك عالم العطاء والتفاني وحب الإنسان الذي يشعرك بالرضا والسعادة. فبطرّام وناسها هم عائلته الكبرى… عشق سالم لبطرام ذكّرني بعشقي لمدينتي بيت لحم التي تنتظر حريتها لتحلم على هواها.
تكلّم سالم عن تعلقه بالجذور والعادات والتقاليد، وعن علاقته بوالديه وأقربائه، وبلدته بطرّام: «عند التحاقي بالجامعة الأميركية في بيروت، وفي أول أسبوع، جاء والدي ليزورني يوم الجمعة وقال لي،بما أننا جئنا لزيارتك اليوم، ليس هناك داعٍ لذهابك إلى الضيعة في عطلة نهاية الأسبوع. على الرغم من معرفته أنني أذهب إلى الضيعة ليس فقط لزيارة والدي ووالدتي وأخوتي، لأن الضيعة كلها كانت أهلي وكلها مليئة بالمحبة.»
يقول سالم: «كان لوالدي تأثير قوي في تكوين شخصيتي وتوقي إلى العلم، إلاّ أن لوالدتي الدور الأساس في خياراتي العلمية.» ويُضيف: «عند التحاقي بالجامعة الأميركية في بيروت للدراسة، تفتّحت آفاق جديدة، وأكثر ما احببّته من المواد تلك المتعلقة بالفكر والأدب والفلسفة، والتي أثرّت بي كثيراً لدرجة أنني كنت أميل للتخصص في الفلسفة بدلّ الطب.» وهنا يتذكر سالم بأنه سبق أن وعد أمه بأن يصبح طبيباً ليقوم بمعالجتها عندما تكبر في السن. وبعد تخرجه قام بالتخصص في الأمراض الداخلية لمدة ثلاث سنوات وأثناء ذلك قام بدراسة الماجستير في الفلسفة حيث تتلمذ على يد نسيبه الدكتور شارل مالك. يقول البروفيسور سالم: «لم أتفق مع الدكتور شارل مالك في كثير من الأمور، وأكثر شيء اختلفنا عليه هو رؤيتنا للإنسان. كان هو يقول إن الناس يخلقون متساوين، وأنا بطبيعتي رجل علم. لم أقبل بهذه النظرية. كنت دائما أقول له إن مقولة أن الناس يولدون متساوين، هي نظرية خاطئة لأن هناك أناس يُخلقون وعندهم أمراض جينية، كما ان الاطفال يولدون وهم على درجات مختلفة من الذكاء. الناس يتساوون في الموت ولا يتساوون في الحياة أو في الولادة.”
كما انسحبت هذه السياسة من سالم إلى المستوى العام فرأيناه يُشخّص أمراض مجتمعه ويصف لهذه الأمراض العلاجات المناسبة، ومن أهم هذه العلاجات دعوته إلى المعرفة ضد الجهل، ودعوته إلى الوعي ضد العصبية. لذلك رأيناه صدى لأحلام جيل يتوق الى بناء مجتمع جديد رغم كل المحاولات الطاغية الساعية إلى تأييد الظلام الثقيل المخيم، والتي تحاول في دأبها على توسيع مساحات الجهل والتجهيل وتعميم الطائفية والتشرذم عبر كل الوسائل الممكنة … ومع كل ذلك، ورغم قتامة هذا المشهد المروّع، يُطل علينا الدكتور سالم كمنارة تُضيئ لنا الطريق، وبريق أمل من مفكر ثائر … تنطلق كلماته الصادقة مزغردة كنغمة عشق لرجل يمتلك شجاعة من تهمه هذه الأمة وقضاياها المصيرية، كما يعزّ عليه ما وصلت إليه أحوالها من بؤس، ليأتي صوته بمثابة كلمة حق في حضرة سلطان جائر.

*رئيس مؤسسة الجذور الثقافية- استراليا.
*أستاذ جامعي ومنسّق برامج إدارة الأعمال في معهد كينت للتعليم العالي- أستراليا