بقلم:
رائد الحواري:
كاتب من فلسطين
عندما تكون المادة المقدمة في النص قاسية، فلا بد من إيجاد طريقة/أسلوب يخفف به الكاتب على المتلقي، وبما أن رواية «ما دونه الغبار» من الرواية الواقعية، التي تتحدث عن احتلال فلسطين وما أصاب أهلها من قتل وتشريد وتهجير وضياع، فإن هذا يستدعي استخدام أكثر من شكل/أسلوب يبعد القارئ ـ قدر الإمكان ـ عما فيها من ألم، من هنا حاولت الساردة أن تُوجد عنوان: «ما دونه الغبار» وهو عنوان (خادع) أقرب إلى الشعر منه إلى الرواية، لتدفع المتلقي ليتقدم من الرواية، ورغم هذا (الخداع) إلا أنه كان موفقًا ومنسجمًا مع مضمون الرواية.
ونلاحظ أن السرد الروائي جاء مجزأ، ما يقارب ستمائة جزء، وهذا يخدم فكرة الغبار، وإذا علمنا أن عدد صفحات الرواية خمسمائة صفحة، أمكننا حسبة الجزء الواحد بأقل من صفحة، وهذا منسجم مع فكرة الغبار الحاضرة في العنوان، فالغبار يتكون من أجزاء/ ذرات مبعثرة متطايرة، وهذا حال السرد المُبثر والمُجزأ في الرواية، وحال الشخصيات التي تناولتها الرواية، وإذا علمنا أن الغبار ينتقل حسب وجه الهواء، بمعنى أنه يسير حسب وجهة/ إرادة الغير وليست أرادته هو، فإن هذا يتماثل مع حركة/هجرة/انتقال/ترحال الفلسطيني، فهو بعد قيام دولة الاحتلال لم يكن يقدر على تحديد الجهة/المكان، بل زج غصبا إلى أماكن وجهات لم يكن له الخيار في تحديدها أو اختيارها
بهذا يكون العنوان «ما دونه الغبار» قد فتح مدخلا لمضمون الرواية القاسي، وأشار إلى الشخصيات الكثيرة والمتنوعة، فمنها الإيجابي، ومنها العادي، ومنها السلبي، وعرف القارئ على شكل السرد القصيرة فيها، سنحاول التوقف قليلا عند ما جاء في الرواية ونبدأ بالفلسطيني الذي قدم بأكثر من صورة وأكثر من موقف، ومن خلال أكثر من شخصية. يتحدث «رشدي» مع زوجته «جميلة» قبل سقوط اللد بهذا القول: «…أعشقك، لن أحتمل بعادك ولن أوافق على الفراق، تقبلي الظروف حتى لو جاءت عكس رغبتنا.
أشرس الأعداء الحروب، تغادرنا فلسطين، ولن نغادرها، وسنبقى هنا معا مدى الحياة، عديني بذلك!» ص114، بهذه اللغة خطاب رشدي المقاتل زوجته، فهو إنسان محب لأسرته، كما أنه يعي قسوة الحروب، ومع هذا نجده مصر على البقاء في وطنه، رغم أهوال الحرب.
تحدثنا الساردة عن «دلال» بقولها: «ارتبطت دلال بابن عمها، الجريح، سنة 1957، وانتقلا إلى الأردن وأقاما في عمان، لم تكن الحياة أكثر سهولة، فانتقلا إلى بيت جالا، ثم عادا مجدد إلى عمان، توفي عوده بين يدي الطبيب في 1982، أصيب بعدة جلطات قلبية، تقيم دلال الآن مع ابنتها رغدة كركر جلدة في كاليفورنيا» ص122، اللافت في هذا الحديث حالة التنقل للفلسطيني وعدم استقرار في مكان معين بعد أن شرد من وطنه، وكما أن الحديث عن «عوده» الذي أصيب بجلطات عديدة في عام 1982، يشير إلى أن الفلسطيني يتأثر ويغضب عندما يرى شعبه/أهله يقتلون بيد الاحتلال وجنوده وعلى مرأى عيون الأخوة العرب الذين لا يفعلون شيئا، ويستكفوا بالمشاهدة فقط، هذا هو سبب الجلطات العديدة التي أصابت «عوده» وجعلته يفارق الحياة، بمعنى أن الفلسطيني ما زال يحمل فلسطينيته معه رغم حالة التنقل والترحال.
وإذا أخذنا هذا الحديث إلى عنوان الرواية، سنجده يخدم فكرة الغبار المتطاير/المتحرك التي تتماثل مع
حالة الفلسطيني المتنقل
تجيب «فائقة بولس الخوري» عن سؤال حول المكان: «ـ إلى أي مكان تحنين أكثر، للعراق أم لفلسطين؟
ـ المكانان عزيزان على قلبي، أمضيت حياة جميلة في العراق، كما أمضيت طفولة جميلة في فلسطين، أنا مستقرة الآن في أمريكا ولا أريد المغادرة، لقد اعتدت تقسيم الحنين، إن كان الحنين قابلا للتقسيم، في قلب كل مهاجر حجرات تستوعب هذه القسمة المؤلمة» ص387، اللافت في الإجابة أن الفلسطيني يبقى إنسان اجتماعي، بمعنى أنه ليس متحجرا، لهذا نجده يحن/ يميل للمكان المتواجد فيه، حتى لو لم يكن وطنه، ورغم أن هناك اشارات من «فائقة» بأنها ما زالت تميل لوطنها فلسطين، إلا أن الواقع، المكان الجديد له أثره وحضوره، لهذا حسمت النقاش بقولها: «الآن في أمريكا ولا أريد المغادرة» وهذا كاف لتأكيد اندماج الفلسطيني في المجتمعات الجديدة.
اليهودي:
الرواية تتناول أكثر من شخصية يهودية، من هذا الشخصيات «أليكس» الذي استودع رشدي عنده المال وعندما طلبته زوجته «جميلة» أنكر ورد عليها مهددا: «ـ أن تجرأت على المطالبة بالوديعة فسوف أشكوك إلى السلطات اليهودية، الحكم صار إلنا هلق ورشدي خلص يوك» ص45، وهنا ترسم الساردة شخصية اليهودي الخائن، الذي يعمل حسب غريزة النهب والاستحواذ غير الاخلاقي أو القانوني، مستندا على القوة التي أصبحت له.
وتحدثنا جميلة عن المرأة اليهودية التي أخذت بيتها عنوة بعد أن تم طردها وعائلتها منه، تحدثنا عن هذه اليهودية بهذا الشكل: «ـ لماذا تغلقين الباب خلفك كلما دخلت، أعد خطواتك، وأعلم تماما أين تكونين بينما أنتظرك في الخارج، خطوات قدميك ملكي، يكفي أنك كلما خطوت خطوة تعلمين أنها ليست لك؟
ـ أخشى دخولك البيت خلفي، ورفضك الخروج منه ، أجابت
ـ يعني تخشين من أن أقوم باحتلال البيت كما فعلت أنت؟
ـ لا تؤاخذيني، هذه تعاليمهم في الوكالة، قالوا لنا، لكم بيت في فلسطين، أي بيت تجدونه فارغا يكون لكم» ص208، على أرض الواقع، اليهودية تحتل بيت ليس لها، وتعلم ان أصحابه أمامها، ومع هذا تبقى محتفظة به، مستنده على تعاليم الرب، الوكالة اليهودية.
فعمليا هي مجرمة وسارقة ومحتلة، وما تبديه من (اعتراف ضمني) لا يسمن ولا يغني من جوع، هكذا هم المحتلين.
الصهاينة:
قوات الاحتلال لم تتوانَ عن استخدام أي وسيلة لتهجير الفلسطينيين من وطنهم، ترصد الكاتبة مجموعة من جرائم الاحتلال في أكثر من مشهد: «قامت العناصر اليهودية بترعيب وترهيب وقتل المواطنين وحثهم على الرحيل، اضطر السكان إلى ترك بيوتهم، والنزوح إلى أقرب وجهة سيرا على الأقدام» ص191 و192.
يحدثنا «خليل كركر» عما جرى في اللد بتفاصيل أكثر قائلا: «دخل اليهود في مركبات تشبه سيارات الجيش الأردني، اعتمروا الحطات والعقل، وباشروا بإطلاق النار في شوارع المدينة، أطلقوا بغزارة على جنب وطرف، على البيوت والمحلات والناس الذين كانوا في الشارع، قتل كثيرون وهرب قلائل من الرصاص، لكنهم هربوا بعد ذلك إلى الشرق، هربوا جماعات، لقد اتبع اليهود وسيلة القتل حتى يتخلصوا من وجودنا، وحتى ينهوا مهمتهم في احتلال المدينة سريعا» ص347و348، هذا الصورة العامة لما حدث في اللد تحديدا، أما من تبقى فيها، كحال جميلة وبناتها، فقد تمّ الاستيلاء على بيتهم، وعندما رفعت
جميلة قضية للمحكمة الاحتلال لاسترداد بيتها، كان هذا الأمر: «حاولت بنات رشدي استرجاع البيت، لكن باءت محاولاتهن جميعها بالفشل، مكث ملف استرجاعه داخل أدراج وزارة الاسكان مدة طويلة، وعندما وصل إلى القضاء، تراكمت الطلبات العصية، فبعد انتهاء كل جلسة ازدادت مطالب القضاء، هذا عدا عن إحضار الشهود، وأين أصبحوا» ص209، تأكيد على أن المحتل يتعامل شكلا بالقانون، ويحافظ على الحقوق، لكن في الجوهر/المضمون ما هو إلا خداع وتلاعب، لهذا لم يتم استرداد بيت رشدي، فرغم وجود الوثائق الرسمية التي تؤكد ملكيته، ورغم وجود الشهود، إلا أن المماطلة جعلت العديد من هؤلاء الشهود يغادرون إلى العالم الأخر قبل أن تعقد جلسة المحكمة.
وهناك صورة أخرى عن معاناة الفلسطيني الذي نجا من القتل وفضل البقاء في وطنه، يحدثنا «أبو نمر» عن هذه المعاناة بقوله: «…بينما انتظرنا نحن الإفراج عنا وإخراجنا من الغيتو الذي وضعونا فيه بحراسة مشددة، عندما خرجنا من «الغيتو» أغلقوا علينا المدينة سنة كاملة، لم نجد بيتا نأوي إليه، نمنا في الخرابات، والأماكن الفرغة، ومنعنا من التجوال، من عاد إلى بيته كان محظوظا» 359، لهذا نقول أن لمن بقى في فلسطين هو الفلسطيني الحقيقي، الأصيل.
أما عن طريقة الاحتلال مع المواطنين فكانت بهذا الشكل: « بعد إعلان استقلال الدولة اليهودية، بقيت المدن الرئيسة على مدار عدة سنوات، وحظر الدخول إليها إلا بتأشيرة من الحاكم العسكري» ص243، نلاحظ أن فكرة «الغيتو» التي عاشها اليهود في أوروبا، استنسخوها ومارسوها على الفلسطيني، وهذا ما يجعل جريمتهم مزدوجة، فهم يمارسون جريمة بحق الغير، ويعلمون/ يعون حجمها وأصرها على الضحية.
جورج حبش:
الساردة تنحاز لكل الشخصيات التي تنحدر من اللد، لهذا نجدها تتحدث عن مؤسس حركة القومين العرب، ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأكثر من موضع في الرواية: «خرج جاد أيضا، كان قد اتهم بانتسابه إلى المقاومة، رفقة جورج حبش» ص176، وتحدثنا عن بيت جورج حبش بقولها: «…من ضمن البيوت التي هدمت قبل عدة سنوات، بيت الزعيم جورج حبش الذي اعتبرته بلدية اللد بيتا عتيقا» ص337، وبعد أن طرد من اللد، تحدثنا « إيلين» عنه بقولها: «بقينا في الأردن خمسا وعشرين سنة، وبعد سنوات من الهجرة، عرفنا عتبة الدكتور جورج حبش، فتح باب داره للجميع، واستقبل المرضى مجانا، وأصبحنا نشعر معه، وكأننا في الوطن، لكن انتقل إلى الشام فجأة، هربا من الضغوطات التي مورست عليه من قبل الحكومة» ص435، هذا حال الفلسطيني، ينتقل من مكان إلى آخر مطرودا/مجبرا/مكرها على الرحيل، إن كان الطارد عدوا/محتلا أم أخ/شقيق، فهو كالغبار لا أحد يريده، لهذا يتم طرده كلما شوهد وظهر للعيان.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى2021