دينا سليم حنحن – أستراليا
ماتت والدتي، وطوي فصل آخر من الكتاب، امرأة ذاكرتها قوية، رفضت تدوين قصة حياة العائلة في النكبة، لكنني فعلتُ.
اليوم الأول لسقوط مدينة اللد، مــا قــبل اختفاء والدها رشدي سابا، في النهار ذاته، خرج رشدي من البيت تائه الفكر ومشتّت، لحقت به ابنته البكر، (أفدوكية)، الشاهدة الوحيدة على حدث اختفائه، كانت في ربيعها الحادي عشر، حملت وسادتين مليئتين بالذهبيات. (حتى الآن لا تعلم لماذا سارت خلفه).
رأت والدها وهو عائد بحمار الحمّال وحده، كان قد اقتناه بعد أن تمنّع الحمّال عن المساعدة، قبل هروبه مع الجموع الفارّة نحو برفيليا، قال له:
“ لقد نقدتَني مبلغًا لم أكن لأحلم به، بس ما بغدر آجي معك، خُذ حماري، وخُفي، وخِماري، وخلّيني أسير على خلاصي، الله يخليك” .
سارت (أفدوكية) خلف والدها نحو بيارة الحلو.
قالت لي مشدّدة:
– شاهدتهُ ومعه الحمار، مؤثث ببردعة ووسادة، جهّزها الحمّال حتى يستريح الرّاكب، على الأغلب الراكبة في حينه كانت أخته غالية، ربما اتفقا على الذهاب معا للبحث عن ابنها ميخائيل، وربما أوصلها إلى الرملة، وربما لم يفعل، لكنه فجأة غاب عن ناظري وطلبَ مني العودة إلى البيت!
– أين هذه البيّارة التي رأيته فيها يا والدتي العزيزة، أتوسل إليكِ بأن تتحدثي معي بوضوح، تلزمني التفاصيل الدّقيقة ووضعها بين دفتي كتاب! قلت لها.
قالت بصوت حزين:
– لا أعرف اسمها، هناك بيارة عرفات أيضا، أنا كنت صغيرة ويا دوب قادرة أتذكر شوية تفاصيل، يا لتلك الأيام الحزينة، كلما حاولتُ نسيانها تعود مجددًا، خلّتني الحرب أحمل الكثير من الهموم والأعباء والمسؤوليات، ثم، أنتِ ابنة ملحاحة جدًا. طلعت الناس من بيوتها مثل المجنونة، لا يدركون إلى أين يذهبون وماذا عليهم أن يفعلوا، صارت حالة فوضى مش طبيعية.
– هذا التاريخ وهذه الأحداث وهذه الذكريات، أحسّها مُقيّدة برقبتي، إن حصل ولم أُدوّنها سوف تشنقني، ذنبي كله، إنني صاحبة قلم فأرجو، أن تساعديني بتحقيق رغبتي بإنجاز هذا العمل، ذاكرة فلسطين. قلت لها متوسلة.
– تنبشين بأدق التفاصيل، لا تكتبي شيئا والعفو عند المقدرة، نحن عفوْنا عما سبق، خلص الموضوع وبدنا نعيش. أجابتني.
– طبعا، جميع من استطاع أن يعيش عاش، لكنه لم يستطع التخلص من الصّدمة التي لازمته طوال حياته. قلت في سري.
قصد والدها رشدي منطقة تدعى الاسم، منطقة حيوية تقع بين اللد والرملة، فيها حصلت معركة حامية بين العرب واليهود، راح ضحيتها الأكثرية، قصدها المواطنون لاستعلام أمر النزوح، وحتى يعود هو مع شيّال يساعده في نقل الحِمل، سارَ وحدهُ وسط سقوط الرصاص، لحقت به ابنته (أفدوكية)، عندما وعى وجودها، توقف في الطريق حائرا، أبدى قلقهُ وأمرها العودة بالوسادتين حتى لا تتعرض للسّطو أو للقتل، أما (أفدوكية)، فلزمت مكانها وأخذت تراقبه من بعيد، انكفأت تتأمل المشهد وكأنها في حلم.
نهرَها رشدي وأشار لها بيده من بعيد وأمرها بالعودة، عادت عدة خطوات إلى الخلف، غشيتها حيرة مقيتة وسألت نفسها، إن كان الأجدر بها الامتثال لأوامره، العودة، والنجاة بنفسها، بالحمل الثقيل الذي بين يديها، أم اللحاق به وعدم تركه وحيدا وسط الجمهرة التي فقدت مراسها عندما قامت الدنيا ولم تقعد.
فقدت (أفدوكية) إحساسها بالزّمن، ضاعت البوصلة، وفقدت انتماءها للمكان، حصرت نفسها في بقعة حامية، ووقفت مثل الصّنم وسط الطريق، اصطدمت الجموع بها فتمسكت أكثر بالوسادتين، حاولت ترجمة المَشاهد السريعة التي مرت أمامها، تأملت الناس، قاسية تصرفاتهم، استغربت نمط نحبهم ومحاولتهم النجاة، شحبَ وعيها واصفرّت دواخلها، غمغمت بكلمات غير مفهومة، تشوّش فكرها، واحتارت باتخاذ القرار، وتساءلت عما يحدث، لم تستطع وصف شعورها نحو كل ما جرى حولها، لم تنسجم روحها مع هاتيك اللحظات، تارة، تبنّت شعور الرحمة والإشفاق على الآخرين، مقابل شعور القسوة والهيمنة، تارة أخرى، ترددت، هل تعطف أم تخاف، هل تضعف أم تزداد حذرا؟ هل تعضّ أناملها الرقيقة حسرة، أم تساوي المهرولين باليمام الجريح، هل تنظر لكل هؤلاء بعين الطفلة، أم بعين الفتاة التي كبرت فجأة؟ لقد غيّرتها هذه اللحظة كثيرا، لقد كبرت فجأة!
تفقدت والدها، حجب الغبار الرؤية تماما، تسمّرت مكانها وانتظرت، هرولت بعض خطوات ثم توقفت، شاهدت طفلة ركضت خلف والديها، تمنّت لو ساعدتها وركضت بها نحوهم حتى لا تتوه عنهم، سقطت عيناها على مشهد آخر، ركض الناس وهُم حفاة، تدحرجت عشرات المشاهد أمامها، مشهد يليه مشهد، وسقطت الطفلة (أفدوكية) في حيرة مدمرة!
ناداها صوت خشن:
– مين إنتِ، انهزمي يا بنت، فاتوا اليهود البلد، لحقي أهلِك يا بنت، بنت مين إنتِ يا بنت؟
وقفت في منتصف الطريق … تسمّرت … تاهت، هل أصبحت طفلة مهزومة؟ كلا.
استوقفتها صرخة أحدهم وهو ينادي اسمًا لا تعرفه، انهالت الأصوات على مسامعها، صوت يشتم، وآخر يتوعّد، وآخر يقسم، وآخر يبكي وآخر يتضرّع، لقد تجمّعت الأصوات جميعها واستقرت عميقًا، مكثت الأصوات في ذاكرتها، داهية ذاكرتها، أبدًا لم تنسَ، وكيف لها أن تنسَ؟ عاشت وماتت ولم تنسَ!
التفتَت مجددا نحو الطريق، بَعُدَ الطّريق، بحثت عن والدها، غاب عنها، في لحظة اختفى، بلعت لسانها، لم يخرج من داخلها أي صوت يشبه كلمة بابا، يابا، والدي، أبوي، آبا.
تكاثفت الأرجل وركضت نحوها، هربت قبل أن تسحقها، تخلّصت من الغوغاء وعادت إلى والدتها.
بقي صوت والدها مدويا داخلها، صرخَ من بعيد مشوحًا بيده:
– رَوْحي يابا، رَوْحي يابا عَ البيت، يابا، ليش واقفة يابا، رَوْحي عَ الدار يابا!
كانت هذه آخر مرة ترى، وتسمع فيها والدها!
علقت المَشاهد داخل مُخيلتها، مرت السنوات، تكاثرت الحكايات، تعقدت الحياة، وشحبت الذكريات رويدًا رويدًا، ولم تستطع (أفدوكية) إجهاض الذكريات الصّفر من ذاكرتها طوال حياتها.
ماتت أفدوكية عن الرابعة والثمانين خارج حدود الوطن، ذهبت فجأة وهي تبتسم، صاحية الوعي والتفكير، كانت ميتتها سهلة ومريحة، لحقت والدتها جميلة التي بقيت وحيدة بعد اختفاء زوجها مع خمس طفلات، لم يعثر على أثر لوالدها منذ اختفائه وحتى الآن، وانتهى فصل آخر من فصول الرواية.
دينا سليم حنحن – رواية (ما دوّنه الغبار) إصدار مكتبة كل شيء – حيفا2021