سميرة عباس التميمي
للنخيل مكانة خاصة في الكتب السماوية ودورها في حياة الإنسان, فهي المنقذ للبدو في الصحراء والقوافل الراحلة وبظلال سعفها تستظل الناس ومن حلاوة تمرها تنتعش الأفواه ويقوى البدن والروح .
تحت ظلال سعفها وتمرها ليلاً والقمرُ منير تسامر العرب وانشدوا أجمل الإشعار, فبثت فيهم الإلهام, لتخط أنامل الشعراء النوابغ هذه الأشعار والقصائد الرائعة. فكانت حاضرة في الوجدان والأبيات على مر السنين .
فالشاعر الرومانسي بدر شاكر السياب انشد قائلاً :
عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
أما ابن سهل الأندلسي فيرى لقاء الأحباب بعد طول الغياب، كعطاء النخل أحلى الثمر، بعد طول الانتظار:
أهدى التلاقي صُبْحَ وجهك مُسْفِرا
فحمدتُ عند الصبحِ عاقبة َ السُّرى
اللَّهُ أكبرُ قد رأيتُ بكَ الذي
يلقاهُ كلُّ مكبرٍ إن كبرا
أُمنيَّة ٌ كم أبطأتْ لكنْ حَلَتْ
كالنخلِ طابَ قطافُهُ وتأخّرا
ما ضرّني مَعْ رؤية الحسنِ الرضي
أني أفارقُ موطناً أو مَعْشَر
النخلة رمز البلاد العربية, نراها شاهقة وواقفة بكبرياء, تفتخر بتعدد تمورها . وقد إفتخرت أمي كثيراً عند ولادتي, عندما جاءت عمتي مهنئة في المستشفى بعرجون تمر محمل بأطيب واحلى التمرمع سعف نخلة .
هذه النخيل رعتها الشمس والماء ونقاء الهواء, وأيادي الإنسان الطيبة. كانت الأرض تتنفس والأزهار تستقيم حيث ضوء الشمس وتفرح لمقدم قاطفيّ ثمارها وللرحالة البدو وغير البدو, منتجع من الراحة والسعادة وملهم الشعراء .
لكن هذه النخيل الباسقة, جُرح كبريائها على مر السنين وتعاقب المعتدون على تجريحها, بل وإماتتها , ومازالت هذه الخورقات قائمة لحد يومنا هذا. متمثلة ببناء جديد حين يقوم العاملون بقطع النخيل حيث موقعها, بدل إستئصالها من الجذورلنقلها سالمة وكاملة من مكانها وزراعتها في مكان آخر.
وقد كتب الشاعر البحريني أحمد بن محمد آل خليف
ونخلي في الشواطيء كالعذارى
نغني للسعادة والجمال
يمر بها النسيم فكم حديث
يغص به النسيم وكم سؤال
ويقول في مقطع آخر :
تعانقت النخيل على ثراها
فغارت من تعانقها الجبال
وباتت ترقب الشطآن ليلاً
لتسمع ما تبوح به الرمال
فللأضواء همس مستفيض تضيع له من الرؤيا الظلال
لو سمحت لي صفحات المقالة لإسترسلت أكثر واكثر في كتابة أجمل ما كتب الشعراء العرب في جمال النخيل وهيبتها.
كانت تتألم أمي وهي ترى نخلة برأس مقطوعة, حيث تقول : كأنها إنسان ! .فهي تشبه الإنسان بجمالها وعطائها وقوامها .
هذه العطلة قضيتها تحت أجواء العراق اللاهبة في الصيف, من دون ماء في البداية وفقط على الكهرباء الوطنية, وللأسف لم يسفر ذهابي للعراق عن شيء, ولم يتحقق مرادي. ولكني تعرفت أكثر وعن كثب بالمجتمع العراقي وناسه والذي رغم إني قضيتُ فيه ثلاثين عاماً إلا إنني كنت شبه منعزلة عن ناسه .
فصادف ذهابي في إحدى المرات إلى منطقة بغداد الجديدة لأمر ضروري وهذه المنطقة تقع في الرصافة بينما نحن نعيش في الكرخ, والطريق طويل إلى هناك, عليّ عبور جانبيّ الكرخ والرصافة . وفي طريقي لبغداد الجديدة تمر السيارة عبر معسكر الرشيد, إنقبض قلبي وانا أشاهده وهو يأخذ مساحة كبيرة من أرض جرداء وعدد من النخيل المقطوعة الرؤوس كأنها بشرقد نفذوا فيهم حكم الإعدام, وبعض الحيطان الأسمنتية. ففكرت لو يجعلونها أرض زراعية, حيث بدا لي بأن نهر دجلة ظاهر لي . بعد ذلك ادركت أن أحدهم إستخدم جهاز يوهم الناظر بوجود نهر !
كم من نخيل العراق تم إهمالها, تشويهها والتمثيل بجمالها, بل وقطع رؤوسها وإستئصالها من جذورها ثم رميها في الشوارع . عارضين عن تلبية حقوقها, في التربة الصالحة والهواء والماء النقي ! هكذا عُومل شباب العراق في ساحة التحرير, تماماً كنخيل بلادهم, إهمال في ابسط حقوقهم في الحياة, من العمل والزواج وتكوين بيت , في الفرح والسعادة.
فكيف سيكون هذا الجيل الشاب مثمر كالنخيل إذا لم يجد التربة الصالحة في بلده ولا الإهتمام به من الناحية الجسدية والنفسية, ولا يلاقي غير الإهمال والإعتداءات الجسدية والنفسية والفكرية. فارضين عليهم القيود والجهل والتخلف مصوبين نحوهم البنادق والرشاشات, والغازات المسيلة للدموع وبالتالي زجهم في حروب لا نهاية لها. وهي النخلة الباسقة, السامقة, الشامخة في الأرض والسماء في كل البلدان .
وكما يقول المتنبي :
ما مقامي بأرض نخلةَ إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أمّةٍ تداركها الله
غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ
وآخر هذه النخيل, نخلة من بلاد فارس إسمها مهسا أميني, وكلنا نعرف أن إيران تشتهر أيضاً بنخيلها وجودة تمورها وجمال نسائها, فهم لم يسمحوا لها أن تستمتع بجمالها وشبابها وتستمعُ لنداء الروح والقلب بأن تفرح لمرأى الشمس والطبيعة وكل جميل حولها, وتستمتع لزقزقة العصافير, الفرحة بها, لم يسمحوا لشعرها أن يُلامس رياح الخريف ولا لعينيها أن تبرق لبريق النجوم ليلاً والشمس نهاراً . فاالله خلق كل هذا الجمال المنوع في الطبيعة, فهل غطاه سبحانه وتعالى بغطاء أسود حتى يحرم البشر من رؤية جمال زرقة البحار وخضرة الأشجار وروعة الأزهار في الألوان والتكوين !!؟
هم لم يسمحوا لها أن تفرح بانوثتها, لم يسمحوا لها أن تحب وان تتحدث للطيور أو ان تسمع لغة الشجر للغابة أو العشب للصحراء, لم يستمعوا لنداء قلبها وخفقاته حين تُلامس النسمة شعرها, جيدها وقدها, لمتطلباتها كشابة,لم يسمحوا لها أن تنمو كزهرة تفوح نقاءً ومحبة وعطراً, أو كشجرة, وقد جاءت هذه الأبيات من الشعر الفارسي والتي للأسف لم يكتبوا إسم شاعرها, :
الدمع سرٌّ
البسمة سرّ
الحب سر
دموع تلك الليلة كانت بسمة الحبّ
فإنني لست ُ قصة ترويها،
ولست ُ نغمة تغنيها،
ولست ُ صوتا تسمعه
أو شيئا ما تراه،
أو شيئا ما تفهمه….
فإنني الألم المشترك
هي رمت الغطاء الأسود من رأسها, لأنها لبت نداء الطبيعة, هكذا أراد الله لأن مهسا جزء من هذه الطبيعة الخلابة لبلدها, فكيف لمطارق الموت أن تُبيد شبابها, أن تقتلعها من ارضها, فلاقانون يسمح بقتل زهرة أو فراشة أو قطع شجرة يافعة .
فخرجت الملايين تُطالب برفع الغطاء الأسود الذي يحرم الله من النظر لجمال خُلقه, فجمال الأرض تكمن في ألوان طبيعتها وطيورها بريشهم البديعة الألوان واصواتها الفاتنة , التي تملأ النفس حبوراً وسرور .
نادني
فالشجر يتحدث إلى الغابة،
العشب ُ يتكلم مع الصحراء،
النجم مع الكون،
وأنا أتكلم إليك
قل لي اسمك!
أعطني يدك !
!قل لي ما عندك من كلام
هات ِ قلبك!
لقد أخرجت ُ جذورك،
تحدثت ُ بشفاهك إلى كل الشفاه،
ويداك تعرفان يدي
لقد بكيت ُ معك في الخلوة المضيئة،
في سبيل ذكرى الأحياء،
وغنيت ُ معك أجمل الأغاني في المقبرة الظلماء،
لأن أموات هذا العام كانوا أعشق الأحياء
أما آن الأوان لتلك العمائم أن ترحل, الذين وضعوا التابو على كل شيء! تابو على الملبس , على الحب , على الضحكة , على الأغنية !!
فهل هم أفهم أم رب العالمين ؟
تداولت صورة لوزيرة إيرانية قبل عدة سنوات بحجاب وبغير حجاب مع أكتاف عارية. الصورة التي بغير حجاب إلتقطتها خارج إيران, أما الصورة الأولى فبداخل إيران !
اسألهم أين المنطق في الصورتين ؟
يدركون طبيعة الإنسان ولكنهم يعملون بعكس ذلك, وهذه النتيجة قمع, ضغط على نفسية الشعب وحرمانهم من ابسط حقوقهم الإنسانية .
الله منح الحيوانات والطيور والطبيعة الحرية, فكيف يحرمونها على الإنسان, وقد منحه الله العقل والمنطق واللغة .
فأكرر السؤال, هل انتم افهم ام رب العالمين ؟ وأنهي مقالتي بقول الشاعر الكبير جلال الدين الرومي