بقلم د. خلود العبيدي – سدني
نتائج الانتخابات العراقية النيابية في تشرين (أكتوبر)٢٠٢١ بدلا من أن تسير في اتجاه تشكيل المؤسسات أصبحت وسيلة هدم مؤسسات الدولة. المسؤول عن هذا الوضع هم اولاً من قاطع الانتخابات والتي أدت إلى غياب جهات كثيرة كان من الممكن أن تتولى مسؤوليتها في إدارة الدولة. عارضتُ حينها، وحذرت من العواقب. لم يكن هناك مبرراً لمقاطعة الانتخابات غير التقاعس عن أداء الواجب وعدم معرفة البعض بأهمية حق الاقتراع.
الاقتراع والمشاركة في الانتخابات هما حق وواجب على مواطني الدولة. ناضلت شرائح اجتماعية عديدة من أجل الحصول على حق التصويت. التصويت هو حق من حقوق المواطنة. كانت المرأة تحُرم في العديد من الدول من المشاركة السياسية ويبدو أن العراقيين والعراقيات حصلوا على هذا الحق بسهولة فلم يدركوا أهميته.
ولن تجدي الحجج التي ترى بأن العملية السياسية فاشلة وفاسدة وإن الانتخابات قد لا تكون نزيهة. الاعتراضات بعد الانتخابات لم تشكك في نزاهة مفوضية الانتخابات أو القائمين على الانتخابات. حضر ٥٠٠ مراقب دولي من شتى المنظمات الدولية والأوروبية مما يبرهن بأن العملية لم يكن التزوير فيها متاحاً. الحضور الدولي مؤشر أيضا على اهتمام أمريكا والدول الأوروبية بالانتخابات.
وذكرت في مقال سابق أن تلك الانتخابات ستكون آخر مرة يحصل فيها العراقيون على هذا الاهتمام. الولايات المتحدة لم تعد لها الرغبة أو القدرة أن تسعى لخلق “ديمقراطيات على شاكلتها”. وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان كان دليلا كافيا بأن الولايات المتحدة تبغي أن تولي الحكم لجهة قوية قادرة على الادارة.
إن ما يحدث الآن يكشف عن مؤامرة دنيئة لتحويل العراق إلى “دولة فاشلة”.
“الدولة الفاشلة” مصطلح ظهر أول مرة في عام ١٩٩٣. هو اصطلاح تستخدمه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في تصنيف الدول التي تفشل في إدارة حكوماتها. في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، نتيجة لتفكك الاستعمار وتبني حق تقرير المصير، نشأت دول عديدة حتى أصبح عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حالياً ١٩٥ دولة (دولتان بصفة مراقب). ولكن العديد من الدول لم تستطع أن تؤدي وظيفتها فغاب الأمن و تعثرت التنمية. ومن أهم مظاهر الدولة الفاشلة هي غياب السلطة وبروز جماعات مسلحة من المليشيات.
ما يجري في العراق الان مؤامرة متكاملة الأبعاد لتحويل العراق إلى «دولة فاشلة». لسوء الحظ ، اجتمعت مصالح إيران والولايات المتحدة لتهديم العراق. وإن ما نشاهده اليوم هو فصل من صراع بين طرفين يمسكان معاولهما لتهديم الدولة.
الأعداء يدركون ثغرات النظام السياسي بل هم الذين صنعوا هذه الثغرات ليتسنى لهم السيطرة على الحكم. الدولة تمارس وظائفها من خلال ثلاث سلطات هي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. تشكيل هذه السلطات وتعيينها يتم بطرق مختلفة. النظام الحالي في العراق هو نظام برلماني لا يتمتع بفصل السلطات. الشعب يصوت للبرلمان فقط أما السلطات الأخرى هي تعتمد على المساومات بين اطراف العملية السياسية. البرلمان يقوم باختيار رئيس الجمهورية خلال ٣٠ يوما من انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان بأغلبية ثلثي الأصوات، حسب المادة (٧١-١) من الدستور العراقي لعام ٢٠٠٥.
رئيس الجمهورية يختاره البرلمان وليس الشعب كما في الأنظمة الرئاسية. والرئيس الغير منتخب من الشعب يتولى تسمية مجلس الوزراء حسب المادة حسب المادة (٧٦-١)، ورئيس الجمهورية يكلف مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا، بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية. النظام السياسي صُمم لعصابة لتقاسم السلطة. ولذلك فإن السياسيين يسهل عليهم اذا اختلفوا ان يعطلوا الاجهزة الاخرى.
نلاحظ أن كل الخطوات التي بادر إليها بها السيد مقتدى الصدر كانت ستؤدي الى تهديم الدولة. في البداية طالب مقتدى ممثلي كتلته البالغ عددهم ٧٣ عضواً بالاستقالة من البرلمان، ثم طالب أتباعه باقتحام مجلس النواب، مما ذكرنا باقتحام المتظاهرين مبنى الكونغرس الأمريكي. تصرف المحتجون بانتظام يحسدهم عليه الغوغاء الامريكيون. إلا أن الكل يعلم ان اقتحام مجلس النواب يعني إهانة للمكانة السامية لمجلس الشعب. الكل يتذكر المناقشات الحادة التي جرت بعد اقتحام الكونغرس الأمريكي وكان التركيز على أن هذا العمل فيه إهانة لهذه المؤسسة. وهكذا أُجبر الرئيس ترامب على ترك الحكم. ثم ان الاحتجاجات تطورت الى طبخ التمن والقيمة داخل البرلمان. وفي الأيام الأخيرة قام المحتجون بإزالة لافتات المبنى. وبهذا العمل خُرب البرلمان وقُضي على إمكانية تشكيل حكومة جديدة في آن واحد.
في اليوم التالي اوعز السيد مقتدى الصدر الى اتباعه التظاهر أمام مجلس القضاء الأعلى، مستهدفاً السلطة القضائية هذه المرة. على الرغم من أن المجلس أوضح بأن ليس لديه صلاحية حل مجلس النواب وإعادة الانتخاب الذي طالب به السيد مقتدى من المجلس. رد رئيس مجلس القضاء القاضي فائق زيدان الموالي لتحالف الإطار التنسيقي المنافس لمقتدى الصدر بأن ما يحتاج الى التغيير هو في الحقيقة الدستور! يرى زيدان أن أكثر النصوص الدستورية التي تبرز الحاجة إلى تعديلها هي المواد التي تسببت أحكامها في تعثر تشكيل السلطات، حسب رأيه، هي تلك التي تشترط موافقة أغلبية ثلثي العدد الكلي لأعضاء مجلس النواب.
واستمرت عمليات حرق المقرات الحزبية ثم جاء دور المرجعية في عملية التهديم. وبلغت ذروة التصعيد في العراق بين التيار الصدري وجماعة إيران (الإطار التنسيقي) عندما تخلّى المرجع كاظم الحائري عن مرجعيته، ودعا مقلديه إلى إطاعة الوليّ السيد علي خامنئي في إيران. ووجه انتقاداً لمقتدى الصدر إذ وصفه بأنه “فاقد للاجتهاد”، وغير مؤهل للقيادة الدينية. وهكذا كانت الضربة التي وجهتها إيران إلى مقتدى الصدر الذي يحاول إن يبتعد عن تبعية إيران.
قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بالاتصال برئيس وزراء تصريف الأعمال الحالي مصطفى الكاظمي. تناولت وسائل الإعلام المكالمة عل انها كانت مكالمة لدعم رئيس الوزراء الكاظمي. فإذا بالأخبار تتسرب أن المكالمة جاءت للتعبير عن غضب الولايات المتحدة من دخول الميليشيات إلى المنطقة الخضراء قرب السفارة الأمريكية. وبأن بايدن طلب من الكاظمي أن يقدم استقالته إذا لم يستطع السيطرة على الوضع الأمني.
الطرفان الشيعيان المتنازعان؛ الإطار التنسيقي وسائرون يعمل كل منهما لخدمة مصالح إيران والولايات المتحدة. إيران تريد أن تهدم الدولة من أجل أن تحتل العراق بشكل مباشر وحيث يتواجد الآن الحرس الثوري الإيراني داخل العراق. أما الولايات المتحدة فإنها تريد أن تعيد تجربتها المخزية في الصومال وليبيا والتي أدت إلى تفكيك هاتين الدولتين. العراق الضعيف مبتغاها لتحقيق مصالحها وإتمام الاتفاق النووي مع إيران.
بقي ان نقول، في القرن السابع عشر وحين بدأت السلطات الدينية تضعف ظهرت مجموعة من المفكرين تحاول أن تفسر السلطة بانها عقد بين الحاكم والشعب، او عقد اجتماعي. اما سبب لجوء الناس لهذا العقد الافتراضي فقد اختلف المفكرون في مضمونه. كان أول المفكرين هو توماس هوبز، الذي عاش في فترة شهدت عمليات عنف وغياب الأمن. كتب هوبز كتاباً أسماه «التنين» إشارة إلى الدولة. لقد أضفى على الدولة سمة القوة. رأى توماس هوبز إن الدولة شر لابد منه. المجتمع في حالة الطبيعة يعيش حالة من الاقتتال والعنف والصراعات تستوجب أن يترك الناس حرياتهم لتشكيل حكومة تحقق لهم الأمن. رأى هوبز أن الحرب الأهلية نتيجة حالة الطبيعة، حرب الكل ضد الكل ولا يمكن تجنبها إلا عبر حكومة قوية غير منقسمة، وبالتالي فإن الدولة ضرورة لحماية الأمن.
إذا كانت الدولة بهذه الأهمية فإن المحافظة على العقد الاجتماعي والحفاظ على الدولة اليوم أصبح عملا وطنيا فالعدو يستهدف الدولة ومؤسساتها. مما دعا الحركات الوطنية في الأيام القليلة الماضية الى برنامج لتشكيل حكومة انقاذ خارج العراق من القوى الوطنية. هذه الدعوة المخلصة يتجسد فيها الحل. إنها شبكة إنقاذ الدولة العراقية قبل ان تنهار.
إنه هو لمن دواعي الآسى أن من يتأمر على العراق لا يدرك ان المؤسسات التي يقومون بتهديمها هي في الحقيقة مظاهر للسلطة، أما السلطة فيملكها الشعب. والشعب قرر يتحد وأن يبقي الدولة قائمة ولو في المنفى.
انا ادعو الحركات الوطنية للتوحد من اجل العراق! وان تتشكل حكومة في المنفى لتحل محل الحكومة الحالية إذا استدعى الأمر. وسيبقى العراق عزيزاً!