خالد الحلّي-ملبورن
وأنا أنتهي من قراءة الكتاب الجديد للدكتور رغيد النحّاس الذي حمل عنوان “بحروف مائلة” وضم 64 قصيدة نثر، وجدت أن عوالمه الشاعرية والإبداعية ظلت تفعل فعلها داخل نفسي، وتجعلني أحس بعمق أنه جاء امتداداً نابضاً ومتصاعداً لكتاب سابق له كان قد أطلّ علينا بعنوان ” بَدْر” متضمناً 96 قصيدة نثر، مع قراءة له قدمتها الشاعرة والمستشارة الأدبية الأسترالية ليات كيربي، ذهبت فيها إلى أن فلسفة الحب وماهيته القاطعة لدى المبدع النحّاس، وما يجب أن يتطلب من الأحبة، تتمثل في التناظر الإعجازي بين الطبيعة والكون. ولهذا، فكل الأشياء ذات صلة ببعضها الآخر، أو يمكن أن تتحقق هذه الصلة إذا توفرت الإرادة لدى البشر.
وإذا كانت المستشارة كيربي، قد أكدت أن قصائد النحّاس في كتابه ” بَدْر” كانت مكتوبة بمزيج من العاطفة والعزم اللذين يضخّان الحياة في جوهر الأشياء، مع كثير من الطرافة، وحضور دائم للذهن الذي يصوّر الكلّ في لوحات راقصة، تناصر القضية والبحث يستمر، فانني وجدت أن هذه السمات تبرز أيضاً وبإشراقات بهيّة في الكتاب الجديد ” بحروف مائلة ” الصادر باللغتين العربية والإنكليزية عن منشورات ” كلمات Kalimat” في سدني، وهو الكتاب الثاني عشر من إصدارات الدكتور النحّاس في أستراليا، التي توزعت بين التأليف والترجمة، إلى جانب إصداره أربعة وعشرين عدداً من مجلّة “كلمات” للكتابة الخلاّقة بالعربيّة والإنكليزيّة.
تكشف لنا أعمال الدكتور النحاس أنه يستجلي بصفاء وإلهام، ألغاز ومظاهر وطبيعة الحياة بمديات لا محدودة وغير منظورة، ولكنه مع غوصه العميق فيها، يتجنب التعقيد العقيم وغير المجدي، فتجيء إلينا كتاباته عميقة وغنية ومشرقة تنساب انسياباً عذباً بأسلوب “السهل الممتنع”، ونجده بارعاً بالكشف عن الرؤى والأفكار والدواخل والخبايا، ورسم صور جميلة عن هموم وتطلعات إنسانية تتجاوز الذاتي إلى الموضوعي، والفردي إلى العمومي، بدون افتعال أو انفعال.
كان مما أثار استغرابي في البداية اختيار عنوان الكتاب، الذي لم تكن حروفه مائلة لا شكلاً ولا مضموناً، وعندما سألت الدكتور النحّاس عن الأمر، أجابني قائلاً: (عندما تُكتب الحروف على شكل “In Italics” في النصوص الإنكليزية، أي بشكل مائل، فهذا يعني التأكيد على المراد من الكلام لتبيانه أكثر بالنسبة لما يحيط به. طبعًا هذا غير مستعمل بالعربيّة عمومًا. ولو أردنا اختيار عنوان عربيّ آخر، لربّما قلنا “بفصيح العبارة”. ولكنّني فضلت هنا “بحروف مائلة” لتحريض مخيّلة المتلقي العربيّ يفسّرها كيف يشاء، فضلًا عن أن عبارة مثل “بفصيح العبارة” تقليديّة جدًّا). كما أشار إلى أنّ استعماله للعنوان، قد يكون كذلك نوعًا من “التهكّم” الذاتي، بمعنى أنّه أراد التأكيد على كلّ كلامه (شغفًا وحبًّا).
إن من يتسنى له قراءة الكتابين، يمكن أن يظهر أمامه بوضوح ” بَدْر” الإسم أو الرمز الذي يترك تجلياته ظاهرةً أو خفيّةً في كليهما. ففي الكتاب السابق يقول الشاعر:
دمشق و” بَدْر ” حبيبتي
امرأة واحدة،
تحبّني لكنها لا تريد
الوقوع في غرامي
وفي الكتاب الجديد، نجده ينشر نصاً استهلاليّاً تحت عنوان “دمشق” يقول فيه:
خرجتُ منكِ يا دمشقْ
فما بالك لا تخرجين منّي؟
ومع إشراقة أخرى لـ ” بَدْر ” نجده يقول في نص بعنوان ” البدر الضائع”:
حلّقت أبحث عن حبيبتي
فوجدتها ضاعت في أضواء مدينتي
حين هَبَطَتْ تبحثُ عنّي
لكنّي أميّزها بين ألف بدرٍ
ففيها وحدها الروح تنبضُ
و ما في الأخريات سوى قبض التمنّي
و إننا إذ نذكر هذه النماذج على سبيل المثال للحصر، يمكن أن نستشهد بنص آخر حمل عنوان “سنا” استهله بالقول:
كوكبان يتلألآن
فوق شظايا الضوء المنكسر
لحظات ..
ويتجلّى فيهما
سناء سيّدة المجرّة
وعبر تناغم جميل في المعاني والصور، نجد المبدع النحّاس يواصل رحلته مع ” بَدْر ” بقوله:
أسأله أن يستدير
ليواجه آلهة الجمال
ويفرد لها ذراعيه
لكنّه عصيّ مرير
ويعلم أنّني
أنتظر اكتماله
فحديثي مع البدر
حديثُ حبيبٍ لحبيب
يغارُ من هلاله
وإذا ما خلصنا إلى أن الدكتور النحاس قد استخدم البدر الذي يعود للتألّق بين الحين والآخر، رمزًا لاضطرابات وتطوّرات وأمزجة الحياة بظلامها ونورها، لا يمكن لنا أن نغفل استيحاءه قصائدَ ورموز اً ودلالاتٍ فكريّة وتاريخيّة وفلسفيّة واجتماعيّة وسياسيّة، وذلك ما تجلّى على الخصوص في قصائده “الشعر” و”فاطمة” و”حبّة حبّ” و”أنا هيليوس”.
و إذا ما ركزنا على القصيدة الأولى نجده يذكَرنا بأن أدوات الشعر كالكلمات والحروف هي هي في هذه اللغة أو تلك، ولكن المهم كيف ستكون المحصلة بعد أن يمسكها الشاعر ويلعب بها. فالشعر كما يرى هو “مَوْلد الروح، وموئلُها، يبقى بعد أن يأكل الدود لحمنا”. وفي أحد المقاطع يقول:
الشِّعر حبّة رمانْ
تتقاذفها الكواكب
تحت ظلال النجوم.
من كوكبٍ لكوكبْ
تصير ألف حبّةٍ
تنتحل رذاذ الغيوم
تهطل على جسد مسجّى
تلامس قلباً أضنته أشواقه
فيُنْتِش بالأمل.
إن كتاب ” بحروف مائلة ” عمل إبداعي ثرٌّ ومتميز، لا يمكن أن يفيه حقه عرض موجز مثل هذا، ولعله من المناسب أن نشير في الختام إلى أن الكتاب أطلّ علينا بحلَة إبداعية خلاّبة، من بعض ملامحها تضمنه 27 لوحة فوتغرافية مبهرة التقطتها العدسة المبدعة للدكتور النحاس، وجاءت منسجمة انسجاماً إبداعياً راقياً مع النصوص التي ضمها الكتاب بين دفتيه.