بقلم الأب د. إيلي نخول م.ل
مرشد الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة (أوسيب لبنان)
ما هي “الهجرة المنظّمة للمسيحيين”؟
هي الهجرة الهادفة للحفاظ على الوجود المسيحيّ ونموّه، كريماً حُرّاً مطّرداً، في وطنِه أو في بلدانِ الإنتشار:
أولاً، من خلال توفير فُرص العملِ والسكنِ وغيرِها من مُقوّماتِ نشأةِ العائلاتِ الشابة واستمراريتِـها في أرضها،
وثانياً، من خلال توفير الفُرصِ نفسِها المذكورةِ آنفاً، ولكن هذه المَـرّة للشبابِ الراغبِ بالهجرة، لأسبابٍ محقّة كثيرة، أهمُّها: إما لعدم إمكانية الدولة أو الكنيسة على تأمين أبسط “عناصر الإستقرار المُطمئِن” والضامنِ لمستقبله، وإما لأنه يطمَحُ ويحلم بمستقبلٍ واعدٍ أبعدَ من حدودِ وطنه؛ وهذا من حقه البديهيّ والطبيعيّ.
إن هجرة الشباب اللبناني واقعٌ لا مفرّ منه، ويعتبره البعضُ شَرّاً من الشرور التي تُفرِغ الوطنَ من شبابه ومن أصحاب الإختصاص والكفاءات فيه. ولكن، هل يجوز لنا أن نترك هذا الشرّ يتحكّم بنا، ولا حَول ولا قوّة عندنا سوى إطلاقِ النداءات ودعوةِ الشباب وأصحاب الكفاءات والمهن بالعدول عن الهجرة؟ والمؤسف أن من ينادي راجياً الشبابَ وغيرَهم إلى عدم الهجرة والثبات في أرض الأجداد، لم يستطعْ حتى يومِنا أن يقدّمَ حلّاً بديلاً مُستَداماً يكون كافياً وآمناً لهم، حتى يقتَنعوا بالتراجُعِ عن قرارهم ويبقوا راضين وراسخين في أرضِهم.
أمام الواقع المُـتردّي الذي وصَلْنا إليه في لبنانَ على كلّ صعيد، لم يعُد مسموحاً لصانعي الخير ودُعاتِه ولأصحاب الإرادة الصالحة، أن يتركوا للشرّ الناتج عن الهجرة وتداعياتها السلبية أن يتمادى ويستمرّ على هواه.
حتى الشرّ يمكن تنظيمَه وتوجيهَه لمصلحة كلّ إنسان والخيرِ العام والنموّ المتوازن والصائب في المجتمع! فبَدَلَ أن نُحمّلَ شبابَـنا عِبءَ قرارهم بالهجرة، وهم مُكرهون عليها غالباً، فلنحرّرْهُم أقلّه من عقدة الذنْب هذه التي نُحمّلُهم إياها، وكأنهم بهجرتهم مجرمون تجاه أرضهم وكنيستهم وإيمانهم. وبدل أن نكتفي بتشجيعِ أبنائِنا المقيمين “بالرغم من المعاناة، على الصمود في إيمانهم وأرضهم”، علينا أيضاً أن نؤمّن لهم بالمقابل ، إذا رغبوا، الرعايةَ الواجبة “لهُجرة مُنظّمة” وناجحة، توفّر عليهم، من خلال مواكبتنا ورعايتنا لهم، الكثيرَ من المعاناة “والبـهدلة” في البلدان التي يلجأون إليها.
إن ربّنا لم يُنـْهِ أحداً عن الهجرة، ولم يربط نموَّ الإيمان والمسيحية في أرضٍ محدّدة. لا بل على العكس، دعا رسُلَه للإنطلاق إلى العالم أجمع وقالَ لَهم: “اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين” (مرقس 16/15). وفي حال تعرّضوا لضيقٍ أو اضطهادٍ أوصاهم قائلاً: “إذا اضطهدوكم في مدينةٍ فاهربوا إلى أُخرى” (متى 10/23). وهذا الوعي الذي اكتسَبَه الرسلُ من الربّ يسوع المسيح، شكّل لديهم قناعةً راسخة بأن الوجودَ المسيحيّ لن يكون يوماً مرتبطاً بأرضٍ محدّدة، بل هو وجودٌ على وُسع الأرضِ كلّها. فحيث تكونُ الحريّةُ والبشارة الحلوة ناشطـَتين بسخاءٍ وقوّة، هناك تكون مسيحيّةُ المسيحِ الحقيقيّة. فلا حاجة إذن لأرضٍ محدّدة لكي تُعطي للمسيحية مِصداقيـّةً وللمسيحيين هويّة، بل المسيحيّةُ هي من سيُعطي لكل الأرض، من خلال المؤمنين بتعاليمِ المسيح والملتزمينَ بها، قيمتَها ومعنىً لوجودِها ولمصيرِها.
إن هذه الحقيقة لم تُلغِ لدى المسيحيين حبّـَهم لأرضهم وتمسّكَهم بها، ولم تُقصِهِمْ عن ارتباطِهم بالأوطان والثقافات والعاداتِ التي التزموا بها وعاشوها، ولا يزالون، بصدقٍ وأمانةٍ واحترامٍ أينما حَلّوا. غير أنّ انجذابَهم نحو العُلى وتوقَهم الدائم إلى “سماءٍ جديدة وأرضٍ جديدة” (رؤيا يوحنا 21/1)، المؤسَّسَتيـْنِ على وعد الربّ يسوع بمجيئه الثاني، دفَع بأحَدِهم في القرن الميلادي الثاني إلى التعريفِ عنهم بالقول: “يعيشون في أوطانهم ولكنْ كمُسافرين. يشتركون في كلِّ شيءٍ كمواطنين، ومتحرّرون من كلِّ شيءٍ كغُـرباء. كلُّ أرضٍ هي وطنٌ لهم، وكلُّ وطنٍ هو أرضٌ غريبة” (الرسالة إلى ديوجين أو ديوجنيتوس، بين السنة 120 و 150 ميلادية).
على ضوء ما سبق، يُخشى ،من خلال دعوتِنا المسيحيين وبخاصّةٍ الشباب منهم، على عدم هجرةِ أرضهم -ونحن باعتقادنا أننا نُسهم بذلك في ثباتِ ونموِّ المسيحية في الشرق – أن نكون من خلال هذه الدعوة مقاوِمين لإرادة الربّ يسوع المسيح، ولتقليدِ الرُسُل، ولمفهومِ الوجودِ المسيحيّ في أساسِ دعوتِه، وفي أصلِه وأصالتِه.