شوقي بزيع

لم يكن الشعر في يوم من الأيام، كما هو حال غيره من الفنون، محلاً لإجماع القراء والمتابعين، أو لإرساء أي نوع من القيم المطلقة التي يمكن للنقاد وأهل الاختصاص من خلالها أن يطلقوا أحكاماً مبرمة نهائية على هذا الشاعر أو ذلك النص. على أن ذلك لا يعني بأي حال البطلان التام للمعايير والمواصفات التي تساعدنا على التفريق بين الشعراء الكبار والمتشاعرين والنظامين والمتطفلين على الشعر. فأن تكون الرؤية للجمال الإبداعي مسألة نسبية خاضعة لذائقة المتلقين المتباينين في الأهلية والمستوى والعمق المعرفي، لا يلغي بأي حال ذلك النوع من التواطؤ الضمني الذي يقوم بين الدارسين والمتابعين من مختلف الشرائح والأجيال على وضع كل شاعر من الشعراء في منزلته الفعلية، وفي الخانة التي يستحقها. أما الهامش النسبي الذي تركه الأقدمون للتمييز بين شاعر وآخر، فهو لم يدفع بهم في الأعم الأغلب إلى تضييع البوصلة أو المساواة المتعسفة بين المؤسسين والهامشيين، بل إنه لا يتعدى الحدود الضيقة للمفاضلات بين متكافئين أو أشباه متساوين، كالمفاضلة بين الخنساء وزهير بن أبي سلمى، أو بين جرير والفرزدق، أو بين البحتري وأبي تمام.

ولن يعوز القارئ المتفحص العثور على كثير من عناصر التسرع والاستنساب وارتجال الأحكام في المفاضلة بين شاعر وآخر، كأن يقول النابغة الذبياني للخنساء حين أنشدته بعض مقطوعاتها في رثاء أخويها القتيلين: »لولا هذا الأعمى (يقصد الأعشى)، لقلت إنك أشعر الجن والإنس«، أو يقول هو نفسه لحسان بن ثابت في سوق عكاظ: »أنت أشعر الشعراء، لولا الخنساء«. ومع ذلك، فإن بعض هذه الأحكام، وإن كان يشوبها الغلو، وتحتاج إلى التمحيص والتدقيق في كثير من الأحيان، لا تخلو من المصداقية وبعد النظر، ليس فقط لأن بعض من يطلقونها هم من الشعراء والنقاد المرموقين، بل لأنها تستند إلى مجمل نتاج الشاعر، وما تتسم به تجربته من ميزات أسلوبية وتخييلية مطابقة لما اصطلح العرب على تسميته بعمود الشعر، ومعاييره النمطية المعروفة. لكن اللافت المثير للاستغراب هو أن يعمد كثير من المتذوقين المعنيين بهذا الفن إلى إطلاق الأحكام المتعلقة بمراتب الشعراء على عواهنها، وتنصيب أحدهم ملكاً على الشعر وأهله استناداً إلى بيت واحد له، أو خلع عباءة الإمارة على آخر استناداً إلى شطر من بيت.

ثمة بالطبع كثير من المعايير والشروط الفنية والتعبيرية التي جعل منها النقاد والدارسون العرب منطلقاً ومسوغاً ملائماً للحكم على الشعراء، ولكن ما أنا بصدده في هذه المقالة هو تحول المسألة المتعلقة بقابلية الشعر للحفظ إلى مادة سجالية حادة بين كثير من الآخذين بناصية النقد العربي الكلاسيكي ودعاة الحداثة الشعرية وأنصارها والمتحمسين لها. ففي حين أن النقاد والقراء المحافظين يتخذون من شيوع النماذج الشعرية الكلاسيكية العالية على الألسنة، ورسوخها في الأذهان، الدلالة الأبرز على أهميتها، كما على مكانتها الثابتة في الوجدان الجمعي، يذهب كثير من الحداثيين إلى الخانة المضادة، معتبرين أن ما يعده أنصار التقليد سبباً للمباهاة ومعياراً للأهمية هو في جوهره ليس شهادة للشاعر بل عليه، وليس في عمقه امتداحاً له بل إدانة حقيقية. وهم يدعمون هذا الرأي بالقول إن الناس لا يحفظون من الشعر إلا ما يتماثل مع المخزون الجاهز لذاكرتهم وذائقتهم التقليدية، وما يلبي حاجتهم إلى السهولة الكسلى والاسترخاء اللغوي والذهني.

وإذا كانت مثل هذه السجالات قد رافقت الشعر العربي منذ انطلاقته الأولى، فإنها في اعتقادي لم تفقد طزاجتها ومسوغاتها بمرور الزمن، لأن الشعر رغم تراجعه النسبي، وتحولاته الدراماتيكية المتلاحقة، لم يزل يحتل مساحة غير قليلة من المتابعة والاهتمام، ولم يزل الآلاف من عشاقه يحرصون على قراءته، والتغني بما يحفظونه من مقطوعات وأبيات جرت على ألسنتهم مجرى الحكم والشذرات التأملية والأمثال السائرة. لكن ثمة سؤالين أساسيين لا بد من طرحهما على النفس، وعلى القارئ المتابع، يتلخص الأول بما إذا كان من الجائز أن نغلب الشكل وحده في مقاربتنا المتعلقة بقابلية الشعر للحفظ، لكي نخلص بشكل متسرع إلى الزعم بأن النمط الكلاسيكي الخليلي هو وحده القابل للحفظ والتذكر، وأن النصوص الحديثة بشقيها التفعيلي والنثري لا قبل لها أبداً بأن تعلق في الذاكرة، بل هي معدة أصلاً للقراءة المتأنية ليس إلا. أما السؤال الثاني فهو عما إذا كان من حقنا أن نتخذ من قابلية الشعر للحفظ، أو عدم قابليته لذلك، سبيلاً لتصنيفه والحكم عليه، جودة ورداءة.

إن من نافل القول، فيما يخص السؤال الأول، أن أشير إلى أن غياب التدوين وتأخره بوجه عام إلى ما بعد القرن الأول الهجري هو العنصر الحاسم في تحديد الهوية البنيوية التأسيسية للشعر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام. لذلك فإن مهمة حفظ الشعر من النسيان، عن طريق التلقين الشفوي والنقل بالتواتر، لم تكن لتأخذ طريقها إلى النجاح إلا في ظل التجزئة الإيقاعية المتكافئة للبيت الشعري، فيما أسهم التناظر الإيقاعي بين الأبيات وتماثل القوافي في تسهيل مهمة حفظ القصيدة برمتها على الرواة والمهتمين؛ إن هذه البنية التشكيلية المتماسكة للقصيدة العربية لم تفض إلى التعويض عن تشظي الأفكار والهواجس والأماكن الهاربة فحسب، بل بدت بسبب إلحاحها الشديد على الإيقاع قابلة للحفظ من جهة، مرتبطة أشد الارتباط بالإنشاد والتلاوة التطريبية، وصولاً إلى الغناء من جهة أخرى. لكن ذلك لا يعني بأي حال أن حفظ النصوص والأبيات مرتبط بالإيقاع النمطي التناظري الذي تمثله القصيدة الكلاسيكية، بل إن ثمة مقطوعات ونصوصاً حديثة قابلة من جهتها للحفظ والتذكر، حيث يعتمد الأمر على ذائقة القارئ وثقافته وميوله. ففي حين أن المدافعين عن الشعر العربي القديم يميلون إلى التغني بنصوص وأبيات متفرقة لرموزه المعروفة، بدءاً من امرئ القيس والنابغة وعنترة وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي، وصولاً إلى شوقي والرصافي ومطران والجواهري وأبي ريشة والأخطل الصغير وسعيد عقل وآخرين، يميل أنصار الحداثة من جهتهم إلى التغني بمقاطع ونصوص للسياب والبياتي وأدونيس ودرويش، وصولاً إلى شعراء قصيدة النثر كالماغوط وأنسي الحاج.

وكما رسخت في أذهان بعضهم على الطرف الأول أبيات سائرة على الألسن، مثل قول الجواهري: »أتعلم أم أنت لا تعلمُ / بأن جراح الضحايا فمُ«، أو قول عمر أبو ريشة: »خافوا على العار أن يُمحى فكان لهم / على الرباط لدعم العار مؤتمرُ«، أو قول البردوني مخاطباً أبا تمام: »ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبتِ / مليحة عاشقاها السلّ والجربُ«، أو قول سعيد عقل: »لوقْعك فوق السرير مهيبٌ / كوقْع الهنيهة في المطلقِ«؛ رسخت في أذهان بعضهم على الطرف الآخر مقاطع ونصوص حديثة، من مثل قول عبد الصبور: »هذا زمن الحق الضائع / لا يعرف فيه مقتولٌ مَن قاتله ومتى قتله / ورؤوس الناس على جثث الحيوانات / ورؤوس الحيوانات على جثث الناس / فتحسسْ رأسكْ«، أو قول الماغوط: »إنني لست ضائعاً فحسب / حتى لو هويت عن أريكتي في المقهى / لن أصل الأرض بآلاف السنين«، أو قول أنسي الحاج: »أنا شعوب من العشاق / حنانٌ لأجيال يقطر مني / فحبي لا تكفيه أوراقي / وأوراقي لا تكفيها أغصاني / وأغصاني لا تكفيها ثماري«، أو قول السياب: »عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر« الذي يرد في مطلع قصيدته »أنشودة المطر«، والذي لشدة ذيوعه بين الناس اختارت إحدى دور النشر العراقية أن تحوله إلى مادة إعلانية مدونة على الأكياس المعدة لحمل إصداراتها المبيعة.

أما السؤال الثاني المتعلق بالحكم على النصوص الشعرية، انطلاقاً من قابليتها للحفظ أو عدمها، فتتلخص الإجابة عنه بالقول إن القيمة الحقيقية للنصوص تتحدد في مكان آخر، متصل بالتخييل والجمال الأسلوبي واتساع الرؤية وقوة العصب، قبل أي شيء آخر. فبعض النصوص تحضر في الذاكرتين الفردية والجمعية لا بسبب قيمتها الإبداعية المجردة، بل لأنها تُعطى في المقررات الدراسية على شكل مقاطع للاستظهار وتنشيط الذاكرة، وهو أمر لا يعتد بأهميته في الحكم على الشعراء. وكذلك هو الأمر بالنسبة لكثير من النصوص المغناة التي لا يشكل الحفظ برهاناً على فرادتها. كما أن الناس يمتلكون في حفظهم للنصوص ذائقات مختلفة متباينة المستوى. فكما يحفظ كثيرون لعنترة العبسي، لأسباب تتعلق بقوة المفارقة وجمالية الصورة، بيتيه الشهيرين: »ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ / مني وبيض الهند تقطر من دمي / فوددتُ تقبيل الرماح لأنها / لمعتْ كبارق ثغركِ المتبسمِ«، يحفظ آخرون بالمقابل قول ابن الوردي: »إن نصف الناس أعداءٌ لمن / ولي الأحكام / هذا إن عدلْ«، أو قول ابن مالك في ألفيته »كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ / اسم وفعلٌ ثم حرفٌ الكلِمْ«، وكلاهما يخرج من دائرة الشعر. وقد ينطبق الأمر على شاعر كبير من وزن المتنبي، حيث إن حفظنا لأبيات له من طراز: »الرأي قبل شجاعة الشجعانِ / هو أولٌ وهي المحل الثاني«، أو »لا خيل عندك تهديها ولا مالُ / فليُسعد النطق إن لم يُسعد الحالُ«، لا يخرجها من دائرة الكلام العادي أو النثر الموزون، في حين أن حفظنا لأبيات أخرى يتأتى مما تختزنه من جمال الصورة وقوة الإيحاء، من مثل قوله: »وقفتَ وما في الموت شكّ لواقفٍ / كأنك في جفن الردى وهو نائمُ«، أو قوله في مكان آخر: »على قلقٍ كأن الريح تحتي / أحركها يميناً أو شمالاً«.

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن الشعراء على وجه الإجمال يتوقون في أعماقهم إلى الرسوخ في ذاكرة الناس ووجدان الجماعة، تعبيراً عن سعيهم المضني إلى الخلود والإفلات من شرك النسيان. لكن المعيار الأهم للبقاء يتمثل في قدرة الشاعر، بمعزل عن حضوره الجسدي، على جعل نتاجه الشعري محلاً لاهتمام دور النشر وإعادة الطباعة واجتذاب آلاف القراء. وإذا كانت قابلية نصوصه للحفظ والبقاء في الذاكرة الجمعية هي محل سعادته المؤكدة، فإن ذلك الأمر لا يتم تقصده بشكل متعسف من قبل الشاعر، بل يحدث بشكل تلقائي؛ وفي الحالتين لن تكون القابلية للحفظ بحد ذاتها شهادة له أو عليه.