السيستاني يؤكد خلال لقاء النجف التاريخي ضرورة أن يعيش مسيحيو العراق في «أمن وسلام»

البابا يصف من مسقط رأس النبي إبراهيم أعمال العنف باسم الدين بأنّها… «أكبر كفر”

 

 

بعد دعوته من بغداد للاستماع إلى «من يصنع السلام»، دخل البابا فرنسيس زُقاقاً ضيقاً في مدينة النجف المقدسة لعقد اجتماع تاريخي مع المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني، الذي أكد أهمية «أمن وسلام» المسيحيين العراقيين وحقوقهم… وزار مدينة أور الآثرية، مسقط رأس النبي إبراهيم، لإدانة أعمال العنف باسم الدين، والتي وصفها بأنها «أكبر كفر».

 

وسلّط الحدثان المتتاليان في مكانين يفصل بينهما نحو 200 كيلومتر، أحدهما في مدينة مأهولة ذات طبيعة متربة، والآخر في سهل صحراوي، الضوء على الموضوع الرئيسي لرحلة البابا المحفوفة بالمخاطر إلى العراق، وهي أن البلد عانى كثيراً.

 

وفي لقاء كان بمثابة لفتة قوية تدعو للتعايش السلمي في أرض عصفت بها الطائفية والعنف، عقد الزعيم الروحي لـ1،3 مليار مسيحي في العالم، والسيستاني، الذي يُعدّ أعلى سلطة روحية بالنسبة للعديد من الـ 200 مليون شيعي في العالم، الاجتماع الأول بين بابا للفاتيكان ومرجع شيعي أعلى.

 

وعلى الأثر، أعلن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي يوم السادس من مارس آذار «يوماً وطنياً للتسامح والتعايش في العراق» سيجري الاحتفال به كل عام.

 

وبعد الاجتماع، قال السيستاني، في بيان إنّه أشار إلى «الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي، وما هو المؤمل منها من حثّ الأطراف المعنيّة، لاسيما في القوى العظمى، على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب وعدم التوسع في رعاية مصالحها الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة».

 

وأكد السيستاني خلال اللقاء الذي دام نحو 50 دقيقة، «اهتمامه بأن يعيش المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام»، وان يتمتعوا «بكامل حقوقهم الدستورية».

 

وذكر الفاتيكان في بيان، «أكد (البابا) أهمية التعاون والصداقة بين الطوائف الدينية حتى يمكننا المساهمة من أجل صالح العراق والمنطقة عن طريق تشجيع الاحترام المتبادل والحوار».

 

وعُقد الاجتماع في منزل السيستاني المتواضع الذي يستأجره منذ عقود والذي يقع في زقاق ضيق في النجف قرب مرقد الإمام علي ذي القبة الذهبية.

 

ونادراً ما يظهر السيستاني في العلن أو يعقد الاجتماعات.

 

وقال مصدر إنّ السيستاني وافق على لقاء البابا بشرط ألّا يحضر أي مسؤول عراقي الاجتماع.

 

ورفعت في بعض شوارع النجف لوحات عليها صور البابا والسيستاني مع عبارة بالانكليزية «اللقاء التاريخي».

 

وثمن رجل الدين الشيعي محمد علي بحر العلوم «الزيارة التي ستُعطي بلا شك بعداً آخر للنجف الأشرف».

 

لقاء الأديان

 

وبعد لقاء النجف، الذي شكّل أبرز محطات زيارة الحبر الأعظم، حطّ البابا في أور (محافظة ذي قار)، الموقع الرمزي من الناحية الروحية، حيث ندد بـ«الإرهاب الذي يسيء إلى الدين».

 

وبينما كانت رياح الصحراء تعبث بردائه الأبيض، تحدث فرنسيس أثناء جلوسه مع زعماء مسلمين ومسيحيين ويزيديين، حيث ظهر على مرمى البصر موقع الحفريات الأثرية للمدينة البالغ عمرها أربعة آلاف عام، والتي تضم بناء هرمي الشكل يعرف باسم «زقورة»، ومجمعاً سكنياً ومعابد وقصوراً.

 

وقال البابا في خطابه الذي سبق صلاةً مع ممثلين عن الشيعة والسنة والايزيديين والصابئة والكاكائيين والزرداشتيين إنّ «من هذا المكان ومن أرض النبي إبراهيم بدأ الإيمان والتوحيد حيث شرع إبراهيم رحلته التي قدم فيها الكثير من التضحيات لكنّه في النهاية أصبح أباً للجميع».

 

وأضاف: «من أرض أبينا إبراهيم دعونا نؤكد أنّ الله رحيم وأنّ أعظم كفر هو تدنيس اسمه بكراهية أخوتنا وأخواتنا».

 

وأكد «لا سلام من دون تفكير بعضنا في بعض ويجب ألا ننسى أخوتنا فنحن جميعاً أحفاد ابراهيم».

 

وأضاف أنّ «الإرهاب والعنف لا يأتيان من الدين بل إنّ الدين يستغل كغطاء ويجب منع ذلك اذ استهدف الإرهابيون جزءاً من التاريخ حين هاجموا العراق».

 

وأبدى البابا أسفه لما أصاب الايزيديين من قتل وسوء معاملة، منوهاً في الوقت نفسه بالعمل المشترك للمسلمين والمسيحيين في إرساء دعائم السلام.

 

وأكد البابا «لا يصدر العداء والتطرف والعنف من نفس متدينة بل هذه خيانة للدين… نحن المؤمنين لا يمكن أن نصمت عندما يسيء الإرهاب للدين بل واجب علينا إزالة سوء الفهم».

 

وأشاد بالشباب المسلم لمساعدته المسيحيين في إصلاح كنائسهم «عندما اجتاح الإرهاب شمال هذا البلد الحبيب».

 

وشكّلت زيارة أور، الموقع الأثري في جنوب العراق، حلماً للبابا الأسبق يوحنا بولس الثاني في عام 2000، قبل أن يمنع الرئيس حينها صدام حسين الزيارة.

 

كما تطرّق البابا إلى جائحة كورونا، قائلاً إنّ العالم سيقضي عليها بالتعاون، مرجحاً أن تكون اللقاحات فاعلة ضدها.

 

وأدت سنوات من العنف والاضطهاد إلى تراجع عدد المسيحيين في العراق من 1،5 مليون في 2003 إلى 400 ألف فقط اليوم.

 

ويقول المسيحيون الذين يتفرعون إلى آشوريين وكلدان وسريان، إنهم يتعرضون للتهميش والتمييز في البلد الذي لم يعرف منذ 40 عاماً على الأقل استقراراً سياسياً وأمنياً.

 

ويشكون من عدم الحصول على مساعدة من الحكومة لاستعادة منازل لهم وممتلكات صودرت خلال النزاع على أيدي مجموعات مسلحة نافذة.

 

وفي إشارة إلى المسيحيين الذين يشكلون واحداً في المئة من السكان، شدّد البابا، الجمعة، على ضرورة «ضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية، ويجب ألا يُعتبر أحدٌ مواطناً من الدرجة الثانية».

 

وسمى الايزيديين «الضحايا الأبرياء للهمجية المتهوّرة وعديمة الإنسانية، فقد تعرّضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني وتعرّضت هويتُهم وبقاؤهم نفسه للخطر».

 

وقال «السلام ليس فيه غالبون ومغلوبون، بل أخوة وأخوات، يسيرون من الصراع إلى الوحدة»، مضيفاً «لنصلّ ولنطلب هذا السلام لكلّ الشرق الأوسط، وأفكّر بشكل خاص في سورية المجاورة المعذّبة».

 

كما دعا البابا أيضاً من أور إلى «احترام حرية الضمير والحرية الدينية والاعتراف بها في كل مكان»

 

وتغيب بسبب التدابير الوقائية من وباء «كوفيد – 19»، الحشود التي اعتادت ملاقاة البابا في كل زياراته، مع استثناء خلال القداس الذي سيحييه اليوم في الهواء الطلق في إربيل في كردستان بحضور نحو أربعة آلاف شخص حجزوا أماكنهم مسبقاً للمشاركة فيه، علما أنّ المكان يتّسع لـ 20 ألفاً.

 

ورغم أنّ النبي إبراهيم، يعتبر أب الديانات السماوية، فإنّ لقاء الأديان الذي جرى في أور لم يحضره أي ممثل عن الطائفة اليهودية.

 

وفي عام 1947، قبل عام من إعلان قيام دولة إسرائيل بلغ عدد الجالية اليهودية في العراق نحو 150 ألفاً لكن العدد أصبح الآن يُعد على الأصابع.

 

وقال مسؤول كنسي محلي إنّه تم الاتصال باليهود ودعوتهم، لكن الوضع كان بالنسبة لهم «معقداً»، خصوصاً أنّ ليس لديهم مجتمع منظم.

 

وفي أحداث سابقة مماثلة في البلدان ذات الغالبية المسلمة، حضرت شخصيات يهودية أجنبية رفيعة المستوى.

 

وعصر أمس، بدأ البابا، في اليوم الثاني من زيارته التاريخية، بإحياء أوّل قدّاس له في العراق في كاتدرائية مار يوسف في بغداد، بحضور مسؤولين ومصلين جلسوا بشكل متباعد التزاماً بالقواعد الصحية.

 

وللمرة الأولى، يحيي الحبر الأعظم قداساً بالطقس الشرقي الكلداني، وتتخلله صلوات وتراتيل باللغتين العربية والآرامية.

 

استقبال بالحمام الأبيض

توقفت السيارة المصفّحة، في شارع الرسول قرب مرقد الإمام علي في النجف، ثم ترجل البابا فرنسيس منها وسار لعشرات الأمتار باتجاه منزل المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في طريق ضيق لا يتسع عرضه لدخول سيارة واحدة.

وكان في استقبال البابا مجموعة من العراقيين يرتدون ملابس تقليدية، وتم إطلاق بعض الحمامات البيضاء لدى ترجله من السيارة كعلامة للسلام.