نجم الهاشم
كأنّ شيئاً لم يحصل في عين قانا في 22 أيلول الحالي. لا انفجار ولا أضرار ولا دخان ولا نار ولا جرحى ولا ضحايا ولا مخزن سلاح ولا بيوت تهدّمت أو تضرّرت. هي حال من الصمت المريب، أو هي حال من أحوال “أهل البيت الشيعي”. كأنّ الإعتصام بهذا التعتيم الشامل جزء من السياسة التي يتّبعها “حزب الله” على قاعدة أنّ ما يحصل في مناطق بيئة الثنائي الشيعي لا دخل للآخرين به، حتى لو كان انفجاراً كبيراً من نوع ما حصل في عين قانا.
لو كان انفجار المخزن حادثاً عادياً لما كان أُحيط بهذا الكتمان الشديد. إحاطته بهذه السرية تكشف أنّه يخفي أسراراً لا يجوز للآخرين ان يطّلعوا عليها. ليست المرّة الأولى التي يحصل فيها مثل هذا الأمر، وليست المرّة الأولى التي يتولّى فيها “حزب الله” مسؤولية التعاطي الشامل مع أحداث كهذه. بعد ذلك يأتي دور الأجهزة الأمنية الرسمية للتغطية على ما يعلنه أو ما لا يعلنه “حزب الله”. هناك خطوط حمر لا يمكن تخطيها.
سلام إسرائيل وخطر إيران
خطورة انفجار عين قانا على “حزب الله” أنّه أتى في ظل الهجوم الشامل الذي يتعرّض له على أكثر من جبهة. فهو يواجه العقوبات الأميركية المتشدّدة أكثر وأكثر عليه وعلى النظام الإيراني وعلى النظام السوري. ويواجه انهيار منظومته السياسية في لبنان بعد سقوط حكومة الرئيس حسّان دياب واضطراره القبول بتسمية السفير مصطفى أديب رئيساً مكلّفاً تشكيل الحكومة. وهو يواجه اتهامات كثيرة تتعلّق بعلاقته بباخرة نيترات الأمونيوم والشحنة التي انفجرت في 4 آب في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، حتى ولو كانت هذه الإتّهامات غير مبنيّة على أسس ووقائع ثابتة ودامغة. وهو يواجه أيضاً تحريك ملفّات دولية ضدّه، من ملفّ تفجير بورغاس في بلغاريا في العام 2012 إلى أكثر من ملف يتعلّق بتهريب كميات من نيترات الأمونيوم وتوزيعها في أكثر من دولة أوروبية. وهو لذلك وافق على المبادرة الفرنسية التي قادها الرئيس إيمانويل ماكرون ثم وضع العصا في دولاب التأليف بعدما عاد إلى التمسّك بوزارة المالية وبتسمية الوزراء الشيعة في الحكومة.
هذا التشدّد الذي يبديه “الحزب” يعبّر عن قلق من المرحلة الآتية أكثر مما يعبّر عن نقاط القوّة لديه. كأنّه تحوّل إلى الدفاع عن نفسه بينما كان قبل عام أو أكثر يعتبر أنّه حقّق الإنتصار في سوريا واليمن والعراق وأنّ محور الممانعة هو الذي يكتب مصير المنطقة ويحدّد مسار الأحداث. ولكنّه صحا فجأة ليكتشف أن هذا المحور يفقد الكثير من الأوراق بينما سُجِّلت اختراقات في المقابل على جبهة المصالحات العربية الإسرائيلية من الإمارات العربية المتحدة إلى البحرين والسودان وسلطنة عمان، الأمر الذي قد يصبّ في مصلحة إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترامب لولاية ثانية وبقائه بالتالي في البيت الأبيض أربعة أعوام جديدة لن تكون سهلة على “حزب الله” وعلى إيران. وربما من تداعيات سياسة “حزب الله” ومحور الممانعة السلبية عليه أنّه جعل العداء له ولإيران يأتي قبل العداء لإسرائيل. حصل ذلك منذ انتصار الثورة الإسلامية الشيعية في إيران ومنذ تأسيس “حزب الله” وبناء استراتيجية تصدير الثورة. منذ تلك اللحظة شعرت دول الخليج العربي مع نظام صدام حسين في العراق بالخطر الآتي من طهران. بينما هذه الدول منذ قيام الكيان الإسرائيلي لم تشعر أن مصيرها مهدّد أو أنّ هذا الكيان يريد أن يحتلّها أو يدمّرها أو يغيّر أنظمتها. على مدى أربعين عاماً بدا كأنّ الخطر يأتي من إيران التي تهدّد دائماً بالحرب وترسل الصواريخ والطائرات المسيّرة المفخّخة إلى الإمارات والسعودية وليس من إسرائيل التي أعلنت في المقابل وبشكل دائم رغبتها بالإنفتاح والسلام والأمن.
تحت الخط الأحمر
ليست مسألة طبيعية أن يتغلّب كلّ هذا الحذر على تعاطي “حزب الله” مع التطورات الأمنية والسياسية في المنطقة. كان في السابق لا يتأخّر في اتهام إسرائيل بالعمليات التي يتعرّض لها ويسارع إلى الردّ المناسب. مؤخراً بات يراعي قواعد اللعبة والتفاهم ويعلن أنه يردّ بما يناسب هذه القواعد. صاروخ مقابل صاروخ. قتيل مقابل قتيل وجريح مقابل جريح وآلية مقابل آلية مثلًا. ولكن حتى هذه الردود باتت أيضاً تحت مستوى الخطّ المعلن سابقاً. هذا التراجع في مستوى الردّ عند “الحزب” يقابله تكثيف الهجوم عليه.
بعد انفجار مرفأ بيروت تمّ الحديث كثيراً عن علاقته بباخرة النيترات وبتغطية تخزينها في العنبر رقم 12 واستعمالها في حربه في سوريا وغير سوريا. وإذا لم تصدر اتهامات رسمية ومبنية على محاضر تحقيق فإن التركيز على “الحزب” تمّ من خلال مداخل أخرى.
ففي 18 ايلول قال منسّق شؤون مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية نيثن سيلز إن “حزب الله” “أقام منذ العام 2012 مخابئ لتخزين نيترات الأمونيوم في أنحاء أوروبا، عبر نقل حقائب إسعافات أولية تحتوي جيوبها التبريدية على هذه المادة”. وأضاف أنه “عثر على هذا النوع من مخابئ التخزين في دول عدة بينها المملكة المتحدة واليونان وفرنسا وإيطاليا وغيرها”. كما تحدّث عن نقل هذه المادة عبر بلجيكا وإسبانيا وسويسرا. ولم يستبعد الربط بين نيترات العنبر رقم 12 وبين “حزب الله”. وإذا كان سيلز أعلن مثل هذه المعلومات في مؤتمر صحافي فهل يمكن توقّع أن تعلن معلومات مماثلة عن مكتب التحقيق الفدرالي الـ”أف بي أي” على ضوء التحقيقات العملانية التي قام بها في مرفأ بيروت؟ وهل هو المخوّل الإعلان عن نتائج ما توصّل إليه بشكل مستقلّ أم أنّه من الواجب أن يضع هذه المعلومات في عهدة التحقيق الذي يتولّاه القاضي فادي صوّان؟
بين مرفأ بيروت ومطار بورغاس
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد. في 18 تموز 2012 حصل التفجير الإرهابي في باص في مطار بورغاس في بلغاريا يقلّ عدداً من الإسرائيليين، وقد أدّى ذلك إلى مقتل 5 منهم بالإضافة إلى السائق وإصابة 32 شخصاً. وقُتل أيضاً حامل العبوة المتفجرة محمد حسن الحسيني، بينما تمكّن رفيقان له من الخروج من البلاد ولكن التحقيقات توصّلت إلى تحديد هويات الثلاثة وتأكيد انتمائهم إلى “حزب الله”. وفي 20 ايلول الحالي أصدر القضاء البلغاري حكمه في هذه القضية وقضى بالسجن المؤبّد بحق ميلاد فرح وحسن الحاج حسن اللذين تم إدراجهما سابقاً على لوائح الإرهاب الأميركية والمتواريين عن الأنظار منذ ذلك التاريخ. أهمية الحكم أنّه حدّد أنّ المواد المستخدمة في التفجير كانت من نيترات الأمونيوم. المتهمان في قضية بلغاريا ينضمّان إلى لائحة المتهمين المعلومين والمجهولين الذين يعتبر “حزب الله” أنّهم مقاومون يرتقون إلى مرتبة القداسة لا يمكن توقيفهم ولا التحقيق معهم ولا السؤال عنهم. إنهم من أسرار أهل البيت أيضاً.
خط دفاع “حزب الله”
عندما سقطت طائرة إسرائيلية مسيّرة قرب المركز الإعلامي لـ”حزب الله” في الضاحية الجنوبية وبعد انفجار طائرة ثانية مماثلة في 25 آب 2019، أحاط “حزب الله” المسألة بالسرّية والغموض ولم يُتِح لأجهزة التحقيق الرسمية الوصول إلى المكان إلا بعدما كان مسح كل المعلومات التي لا يجب أن تخرج من داخل البيت. صحيح أنه بعد أيام تمّ تسليم الجيش اللبناني بقايا الطائرة ولكن لم يتمّ الكشف أبداً عمّا كانت تفعله الطائرتان الإسرائيليتان هناك. “حزب الله” وحده يعلم. لا يخرج المسار الأمني الذي ينهجه “حزب الله” منذ تأسيسه عن المسار السياسي اليوم من خلال العقد الموضوعة في مسار تشكيل الحكومة واشتراط الحصول على وزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة واختيار الوزارات الأخرى. هذا أيضاً من أسرار أهل البيت. قبل انفجار عين قانا حصلت انفجارات مماثلة ولم يتمّ الكشف عنها. ثمّة عالم سرّي في البيت الشيعي الذي يديره “حزب الله” بمساهمة من حركة أمل. فـ”الحزب” الذي كان يحاذر الدخول إلى عالم السياسة اللبنانية من بوابتي مجلس النواب ومجلس الوزراء بات اليوم يحدّد مساحة بيته الداخلية في العمارة اللبنانية المتعددة الطوابق. هذه دولته ضمن الدولة وهو يريد أن يختار لها ما يناسبه ومن يناسبه. يرسم الحدود السياسية الآمنة في دولة لم يعد يعتبر أنّها آمنة. يريد ضمانات لنفسه؟ ولكن لماذا يخاف بينما يمتلك من القدرات العسكرية والأمنية التي يمكنه من خلالها أن يخيف كل البيوت الأخرى في هذه العمارة؟ “الحزب” حدد على الأرض عملياً حدود بيته الجغرافية وحدود بيئته الشعبية وحدود حصّته السياسية. ربّما يتحرّك اليوم على قاعدة أنّه إذا لم تستطع أن تسيطر على كل الدولة فلا بد من أن تحمي ناسك ونفسك وسلاحك في منطقك ومناطقك. “الحزب” يعتبر أنّ هذا الأمر يخصه وحده وأنه يقرّر فيه، وهو ليس إلا تأكيداً على منطق أن أهل البيت أدرى بشعابه وأنّهم أولى بحفظ أسراره وحماية أسواره.