انطوان القزي

 

 

رئيس تحرير التلغراف الاسترالية

 

 

خبّأوا مزاميرهم خلف أغنية الغَسَق،

 

أوصدوا المسافة دون وجهها السافر، لعقوا من زبَدها وَهَناً يغزو صباحاتِها الرمضاء.

 

يا غنجَ البلابل وشبّاك الهزارات، وأيقونة النوارس.

 

سرقوا مدينتي، ألهبوا ريقها، أسكروا عنادلها وبُحَّ الهديل.

 

مَن يرسم لي رذاذها، انداءَها، من يقرأ قواميسها العتيقة،

 

من يطعمني رغيفها، مَن ينعشني بضوضائها بسَحَرها وسِحْرِها،

 

من يسرق من شرفاتها بيتاً لقصيدة، من يستمطر غمامَها دروباً لأجنحة الضوء وأسرجةً تنازل المنارات؟!

 

 

أعرف ان دخانها ليس بخوراً، وان ضوءَها ليس نهاراً،

 

أعرف ان المرايا تكسّرت خلف الأسلاك وأن الشوارع تخشى الشوارع،

 

واعرف للحبّ جفوناً أذبُلت وربوعاً شُرّدت وان للشوقِ مدخنةً تخشى ان تبوح بدخانها الابيض.

 

 

أعيدوا ارصفتي، ملامحي، ظلالَ الجنون التائه على أرصفتها،

 

أعيدوا رفوفها العائشة على نهم القراءة، وحوانيتها الراقصة على شروقٍ  ثائر، وأنفاسَها التي تستبيح مسامَ الحرية في اللامكان.

 

 

مدينتي، كم تذكرةٍ اضاعتني دون الرحيل، واليوم يرحلون بلا تذاكر،

 

كم كأسٍ ملأوها في الحواني، واليوم يسرجون بقايا الغبار،

 

كم سها الليل عنكِ، كم نساكِ الخريف، كم كبرتِ وكبرتِ ولكن..

 

مدينتي، أيتها الحبلى بالشوق والهتاف ومراويل الفصول،

 

ايتها الساكنة في الولوع وفي شرود القبطان العائد،

 

ايتها المسكونة وهجاً وحبوراً لغلالات النجوم.

 

 

اين شالكِ ومساكبُ اللازورد، اين صيادُك الأسمر وحورياتُك الولهى؟

 

أين بطاقةُ هويتي، ايتها الأنا؟

 

.. لماذا زوّدوني بجواز سفر؟

 

لماذا منحوني جنسياتِ العالم؟

 

لماذا حمّلوني منديلاً ابيض وسيارةً عرجاء ومظلّة للسفر؟

 

لماذا تسكتين، تصمتين، تتنازلين.. وانتِ هويتي؟

 

 

أعرف ان الصلاة أمست جداراً بين القلوب، وان الدعاء صار غلافاً للخطيئة، وأن الحبَّ كلمةً مكتوبة على خزانة أبي، وأن الوقت أخفى عقاربه في تعويذة أمي،

 

وأنتِ، أنتِ ما زلتِ هويتي وحبّي وقلمي..

 

لا، لا تصيري بندقيتَهم، سيفهم، صوتهم.. فكلّهم سيعودون، سيشربون من غديرك المدفون في ثغر العروس..

 

كلّهم سيشهرون حبّهم وتسامحَهم ونبلهم.. لأنهم، كلهم، أخوتي..

 

 

ردّيهم الى صدركِ، عانقيهم، قبّليهم واغفري لهم، ولو كانوا يدرون ما يفعلون.

 

انهضي الآن، لأننا، لا نريد ان يأتي السامري، فلدَينا من البلسم ما يشفي جراح الكون ويطيّبُ خواطر اليائسين.

 

لدينا من دمعِك ما يفتّت الجبال.

 

لا، لن نسمح للسامري ان يمرّ، أقفلي بواباتِك السمحاء، حاصرينا، حاصرينا.

 

فنحن اشتقنا، اشتقنا يا بيروت.. الى العناق.

 

 

*رئيس تحرير “التلغراف” الأسترالية

 

tkazzi@eltelegraph.com