شوقي بزيع

لطالما كان الشعر فناً ملتبساً مثيراً للجدل عصياً على التعريف. ولأنه كذلك، فقد انبنت حوله -وما تزال- عشرات المذاهب والمدارس والمقاربات المختلفة التي تناولته بالدراسة والتأويل والتحليل النقدي. لكن تلك المقاربات، على وجاهتها، لم تكن لتظفر منه إلا ببعض وجوهه وتمظهراته وأنساقه التعبيرية، دون أن يقبض أي منها على ناصيته وجوهره ومعدنه المشع. ولعل ذلك ما يفسر الازدهار المؤقت للمدارس الشعرية والنقدية التي ولدت على ضفافه، بدءاً من الكلاسيكية والرومانسية والواقعية، وصولاً إلى الرمزية والسوريالية، ومن ثم تراجعها وخفوتها بعد حين من الزمن، ليظل الشعر وحده دائم التوهج مغضياً على طبيعته الملغزة. إن من الظلم وقصر النظر، تبعاً لذلك، أن نحدد للشعر أطراً محددة وقوالب جاهزة، أو أن نحكم عليه من خلال أشكاله وأوزانه، دون النفاذ إلى ما يتجاوز ذلك من قوة التخييل وعمق الرؤية وسعة الكشف، وهو ما حاول بعضهم أن يفعلوه على امتداد قرون من الزمن. ولأن الشعر الحقيقي أبعد من شكله وأوزانه وألفاظه المفردة، فقد آلت محاولات طمسه وتهميشه إلى نسيان محقق، فيما ظلت نصوصه الأكثر علواً تلمع كالبروق الخاطفة في الظلام الدامس لليل العالم.

ولما كان الشعر ينبع من المكان نفسه الذي تنبع منه الحرية، فإن أي محاولة لتقييده وتدجينه ووضعه في شكل نهائي لن يكتب لها النجاح. فالأشكال الشعرية لا تخضع لمنطق الآيات التي ينسخ بعضها بعضاً، ولا لمنطق الآيديولوجيا الوثوقية التي تفرض رؤيتها بشكل أحادي على البشر، كما على التاريخ. وما الفرق في هذه الحالة بين الذين يذهبون جازمين إلى القول إن هذا النمط الأسلوبي أو ذاك هو مسك ختام الشعر ومآله النهائي الوحيد، وبين تأكيد العقيدة الماركسية أن العصر الشيوعي هو وحده الذي يرث العصور كلها، أو ذهاب فوكوياما إلى القول -على العكس من ذلك- إن الرأسمالية في طورها الحالي هي التي تشكل نهاية التاريخ؟ ثم ما الفرق -تبعاً لذلك- بين المتعصبين لقصيدة النثر والمتعصبين لقصيدة التفعيلة أو لأوزان الخليل، ما دام الجميع يدخل في منطق التحزب، والإصرار على امتلاك الحقيقة الإبداعية، ونبذ الآخر المختلف؟

الحداثة والوزن
ليست قصيدة النثر من هذه الزاوية سوى خيار إضافي ونمط جديد يضاف إلى خيارات الشعر العربي وأساليبه. وإذا كان من حق كتابها أن يجدوا مواطئ لأقلامهم ومخيلاتهم على أرض الشعر، فليس من حق بعضهم أن يتنكر لكل الخيارات الأخرى، لأنه يبدو بذلك وكأنه يقع في الخطأ ذاته الذي نهى الآخرين عن ارتكابه، فاستبدل نمطاً أحادياً بنمط مشابه، ويقيناً موزوناً بيقين غير موزون. وإذا كان أحد من كتاب قصيدة النثر لا يشك بدور أنسي الحاج الريادي في كتابتها، والدعوة إليها، فإن كثيرين من هؤلاء يتجاهلون، عن عمد أو غير عمد، قول صاحب «لن»، في حوار معه نشرته مجلة «الآداب» في مطلع الألفية الثالثة: «لعله من المفيد القول إني لم أرد لقصيدة النثر أن تحل محل الأوزان المعروفة؛ فقط أردت لها أن تأخذ مكانها إلى جانب الأشكال الأخرى للتعبير. ومع ذلك، فقد ووجهت وأصدقاء لي بأسوأ مما ووجه به المجددون العرب في العصور القديمة، لا لشيء إلا لأنني أضفت نوعاً جديداً إلى الشعر العربي».

وللمفارقة، فإن أدونيس يتبنى رأياً مماثلاً لرأي أنسي، في حوار آخر نشرته المجلة في العدد ذاته، إذ يقول: «إن قصيدة النثر، كما تبنيناها، لم تكن ضداً لقصيدة الوزن، ولم تكن إلغاءً أو نفياً لها، وإنما كانت تجريباً جديداً في حقل اللغة، إلى جانب الوزن. والدليل هو أنني، فيما كنا ننشر نصوصاً نثرية، كنت أعد كتابي (ديوان الشعر العربي)، وكنا ننشر مختارات منه في المجلة».
وما يؤكد هذين الرأيين أن «شعر»، رغم حماسها المفرط لحركة التجديد، لم تربط الحداثة بالوزن أو عدمه، بل باللغة المغايرة والمغامرة التعبيرية والرؤيوية، وهي التي فتحت صفحاتها لقصائد بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وأحمد الصافي النجفي، وغيرهم من شعراء الوزن الخليلي في عصور العرب المختلفة. أما مجلة «الآداب»، فغني عن القول أن حماسها لقصيدة الشعر الحر لم يمنعها من إفراد مساحات واسعة للقصيدة الخليلية، خاصة أن الفروق الإيقاعية بين المدرستين تنحصر في طبيعة التشكيل الموسيقي المعتمد لبناء القصيدة، لا في اعتماد الأوزان بحد ذاتها.
ولو كان الصراع بين القديم والجديد يقتصر على الأشكال وحدها، لما كان لأبي تمام أن يتهم بالخروج على «عمود الشعر العربي»، في حين أنه لم يخرج أبداً على بحور الخليل، وظل ملتزماً بنظام الشطرين. وهو ما ينسحب على شعراء آخرين، من مثل أبي نواس وبشار بن برد وابن الرومي والمتنبي وغيرهم، ممن لم تمنعهم بحور الخليل من خلق علاقات جديدة غير مألوفة بين الدال والمدلول، ومن اختراق مفهوم الاستعارة والمجازات القديم، وابتكار تصور مختلف للوجود واللغة والأشياء. ولو كان وجود الوزن أو انعدامه هما المعياران الأبرز لحداثة النصوص أو قِدمها، فكيف نحكم في هذه الحالة على الشعراء الذين لم تقتصر نصوصهم على نمط إيقاعي واحد، بل توزعت على الأنماط الثلاثة: النثري والتفعيلي والخليلي؟ وهو ما نجده عند كثير من شعراء الحداثة المعاصرين، بل إن أنسي الحاج الذي كان أحد أكثر أبناء جيله نزوعاً إلى التمرد على الشعرية السائدة، لم يتوانَ في أحد حواراته الصحافية عن الإعلان أن عدم كتابته لقصيدة الوزن لم يكن بدافع العداء المسبق لها، بل لجهله التام بالأوزان. ويضيف الحاج بأنه لو امتلك موهبة الوزن، لتغير مسار كتابته بالكامل.

إلا أن كل ما تقدم لم يحل دون التقهقر المتواصل لقصيدة الخليل، في حين كان الشكلان الآخران يحتلان باطراد واجهة المشهد الشعري العربي. ولم يكن الأمر ناجماً عن غياب العمالقة الكبار من شعراء الوزن الخليلي فحسب، بل لأن موجة الحداثة الثانية التي بدأت في ستينيات القرن المنصرم ما لبثت أن تصاعدت وتيرتها في السبعينيات وما بعدها، لتتحول إلى نوع من الحمى الجمعية التي تعصف بالمجتمعات، وتدفعها إلى الهوس الطقوسي بكل ما هو غريب وجديد ومغاير. واللافت في الأمر أن المجلات الأدبية المتخصصة بدت أكثر تساهلاً إزاء قصيدة الخليل من الملاحق الأسبوعية للصحف، أو من صفحاتها الثقافية اليومية، إذ قل أن سمح المسؤولون عن هذه الملاحق والصفحات، إلا فيما ندر، بنشر نصوص عمودية، حتى لو كانت رفيعة المستوى، بدعوى أن هذا النموذج الشعري لم يعد قادراً على التعبير عن روح العصر وأسئلته المعقدة، كما لم يعد يتلاءم مع ذائقة القارئ الجديد المتطلب. ولسنوات قليلة خلت، وعلى الأخص بعد رحيل الكلاسيكيين الكبار، من أمثال الجواهري والبردوني وعمر أبو ريشة وسعيد عقل، بدا أن قصيدة الشطرين تسير إلى انقراض محقق، قبل أن يتغير كل شيء، وينقلب المشهد رأساً على عقب، وتعود إلى الواجهة أرتال لا حصر لها من مبايعي الخليل بن أحمد، والممسكين بناصية الوزن التقليدي. فما الذي حدث على وجه التحديد؟ وهل هو انقلاب غير معلن على الحداثة الشعرية، ومؤشر على فشلها ونكوصها؟

بلبلة وخلط أوراق
لا أعتقد، من جهتي، أن ما يحدث على هذا الصعيد هو من الخطورة بما يكفي لتقويض الحداثة الشعرية العربية، والعودة عما راكمته من إنجازات رائدة خلال العقود السبعة المنصرمة من الزمن. فالحداثة لم تكن وليدة الصدفة المجردة، لتقودها صدفة مماثلة إلى حتفها النهائي، بل هي ثمرة تحولات دراماتيكية عدة على مستويات الاجتماع والفكر ونظام القيم، وهي بالتالي حقيقة واقعة كرسها عشرات المبدعين والشعراء والمفكرين العرب، ورسخ حضورها في الأذهان عدد لا يحصى من الأعمال الإبداعية والدراسات النقدية والبحوث المتخصصة. والتجارب الشعرية الحديثة لم تعد مجرد جملة اعتراضية داخل النص الشعري التقليدي، ولا فصلاً مهمشاً من ديوان العرب، بل باتت جزءاً لا يتجزأ من المتن الشعري، وواقعة في صلبه تماماً. ومع ذلك، فلا سبيل إلى إنكار أن فشل المشروع العربي النهضوي، وهزيمة النخب المثقفة، وتعطيل دورها الريادي، عن طريق الاضطهاد والتهميش أو التدجين، إضافة إلى المآل المأساوي للربيع العربي، واستشراء قوى التكفير والردة الظلامية، ما لبث أن أدى إلى نوع من البلبلة والفوضى، وخلط الأوراق على مستويات الفكر والثقافة والإبداع. والأدل على ذلك هو المستوى الهابط السطحي لمعظم الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية شعراء الثورة والانتفاضات الشعبية والميادين المفتوحة، ليتحولوا فيما بعد إلى مهرجين وجباة للأموال. ولا سبيل إلى إنكار -من جهة ثانية- أن أزمة الصحافة المكتوبة، وما رافقها من غياب للصفحات الثقافية اليومية، فضلاً عن احتجاب معظم المجلات والدوريات الثقافية، فتح الباب واسعاً أمام الآلاف من النظامين عديمي الموهبة الذين رأوا في غياب النقد وانكفائه فرصتهم الثمينة للانتشار وإثبات الوجود، والتعويض عما خسروه في السنين الماضية. ثم جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتزيل بشكل غير مسبوق الفوارق الفاصلة بين الحقيقي والزائف في مجال الإبداع، ولتمنح الأسماء الغفل من المهمشين وذوي المواهب الشحيحة الفرصة الملائمة للانتقام من «الاستعلاء» التاريخي للنخب المثقفة. كما نستطيع أن نضيف إلى كل ذلك دخول بعض الجوائز الشعرية والأدبية التي تُمنح في الغالب لأسباب غير إبداعية، على خط الانتصار للقصيدة العمودية، وإعادتها إلى صدارة المشهد الشعري. وإذا كانت المسابقات الشعرية المتلفزة قد أسهمت في كشف النقاب عن بعض المواهب العالية والاستثنائية على الصعيد الشعري، فإن كثيراً من هؤلاء، وبتأثير من الشهرة المبكرة، فقدوا قدرتهم على التطور، وتحولوا إلى «وجهاء» شعريين، وإلى جوقات متنقلة بين مهرجانات الحماس والتطريب الجماهيري.

ومع ذلك، فإنه من الظلم بمكان أن نضع العائدين على صهوة بحور الخليل في خانة واحدة. فإذا كان بعض النظامين من ذوي الثقافة الضحلة والمواهب البائسة يخوضون من خلال بحور الخليل نوعاً من «حروب الردة» ضد الحداثة المهيمنة، فإن ما يخوضه شعراء آخرون، ممن يرفدون قصيدة الشطرين برؤى مبتكرة وأفق لغوي ودلالي حداثي، ليس حرباً مع الحداثة، بقدر ما هو محاولة مضنية لاسترداد حقهم في الوجود، عبر اختيار الشكل الوحيد الذي يبرعون عن طريقه في التعبير عن مكابداتهم ومكنونات أعماقهم. مع الإشارة إلى أن بعض هؤلاء، ممن لن أذكرهم بالاسم مخافة أن أغفل أحداً منهم، يكتبون قصيدة الشعر الحر بالمستوى نفسه لقصيدة الوزن التقليدي، إن لم يكن بمستوى أفضل وأكثر حيوية وتلقائية.