تبدو الأوضاع هادئة بشكل مخيف فى «سينك وورلد»، وهي واحدة من أشهر مناطق الجذب السياحي في أستراليا التى تقع بالجبال الزرقاء، حيث أغلقت الشركة المالكة للموقع أبوابها وأجبرت على منح 180 موظفاً إجازة غير مدفوعة منذ تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي فى 23 مارس آذار الماضي.
وتعتبر شركة «سينيك وورلد» واحدة من آلاف الشركات السياحية التى أغلقت أبوابها فى قطاع ساهم بـ61 مليار دولار أسترالي في الاقتصاد الأسترالي خلال العام الماضي.
وحتى الآن، فقد بالفعل ثلث الأشخاص العاملين في خدمات الإقامة والطعام وظائفهم بسبب سياسة الحكومة المتمثلة فى وضع الشركات في حالة سبات بعد تفشي جائحة فيروس كورونا، وحتى عندما تبدأ «كانبيرا» فى رفع الإغلاق، ستكافح بعض الشركات لإعادة فتح أبوابها، حيث يهدد حظر السفر السياحى بقتل الطلب لأشهر وربما سنوات قادمة.
وسجلت أستراليا، التي يطلق عليها «البلد المحظوظ»، رقماً قياسياً من النمو الاقتصادي المتواصل الذي لم يسبق له مثيل بين الدول المتقدمة، لكن الاقتصاديين يتوقعون أن تفعل الجائحة ما لم تستطع أي أزمة فعله فى الثلاثة عقود الأخيرة، وهو دفع الاقتصاد الأسترالي نحو الركود.
وذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن أستراليا تواجه مزيداً من التعقيدات، حيث تتصاعد فرص الركود في الوقت الذي تتدهور فيه العلاقات مع الصين، التى تعرف بأنها سوق تصدير سلع أساسية خلال العقد الماضي، مما يحد من قدرتها على الهروب من الركود.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد أكثر من مليون شخص وظائفهم خلال الأسابيع الستة الماضية، ويتوقع أن تتضاعف معدلات البطالة إلى 10% بحلول نهاية يونيو حزيران طبقاً لتوقعات الحكومة، كما توقفت الهجرة الدولية، التي تشمل الطلاب والعمال المهرة والمؤقتين، ويتوقع انخفاض الاستثمار في الإسكان بنسبة 9.6% خلال عام 2020.
وبشكل عام، من المتوقع انكماش الاقتصاد الأسترالي، البالغ قيمته 2 تريليون دولار أسترالى، بنسبة 10% فى الربع الثانى من العام الجاري، مما يقود البلاد إلى ركود يتوقع الإعلان عنه رسمياً في الأرقام الاقتصادية المنتظر نشرها في شهر سبتمبرأيلول المقبل.
ودخلت أستراليا الأزمة وهي تتمتع بوضع أفضل من معظم الدول المتقدمة، حيث تنخفض نسبة صافي الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في البلاد عن 20%، مما مكنها من الإعلان عن حزمة إنقاذ مباشرة بقيمة 200 مليار دولار أسترالي لصالح الشركات والعمال ممن يعانون من اضطراب أوضاعهم.
ومع ذلك، تركت طفرة أسعار المنازل المستمرة منذ عقد الكثير من الأفراد مقيدين برهون عقارية باهظة الثمن، ويبلغ معدل ديون الأسر على الدخل أكثر من 200%، وهى واحدة من أعلى المستويات فى العالم المتقدم، وهي نقطة ضعف رئيسية فى وقت تواجه فيه البلاد أسوأ أزمة اقتصادية منذ نحو قرن.
وتراجعت العلاقات الدبلوماسية مع الصين، أكبر شريك تجاري لأستراليا، إلى أدنى مستوياتها في العصر الحديث بعد دعوة «كانبيرا» لإجراء تحقيق مستقل فى أصول «كوفيد-19?، الذي اكتشف للمرة الأولى في مدينة ووهان الصينية، وردت بكين باتهام حكومة حزب المحافظين بالتعاون مع واشنطن فى حملة سياسية ضد الصين، ثم فرضت حظرا على استيراد لحوم البقر وطبقت تعريفات جمركية انتقامية على الشعير.
وقال ساول إسليك، الاقتصادي والزميل في جامعة تسمانيا: «تعتمد أستراليا بشكل كبير على الصين واستفادت بشكل كبير بعد الأزمة المالية العالمية من تحفيز بكين، الذي أدى إلى ارتفاع أسعار السلع، ولكننا لن نتمتع بهذا الارتفاع هذه المرة وربما نعاني حتى من رد فعل اقتصادي عنيف».
تكلفة التدخل
يعتبر التحدي الذي تواجهه أستراليا هائل الحجم، فعندما بدأ الفيروس في الانتشار في نهاية ينايركانون الثاني، كانت البلاد تواجه المئات من حرائق الغابات، التي أودت بحياة 34 شخصاً ودمرت آلاف المنازل وكلفت الاقتصاد 5 مليارات دولار أسترالي على الأقل.
وتركت هذه الكارثة، التي أعقبت جفافا منهكا أصاب البلاد لثلاثة أعوام، ندوبا نفسية عميقة فى المجتمعات المتضررة، كما أنها قوضت ثقة الجمهور فى رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، رغم أن تعامله مع الوباء ساعده في استعادة شعبيته.
وفي غضون أسابيع من إخماد حرائق الغابات، واجهت السلطات الأسترالية تهديدا جديدا عندما بدأ «كوفيد-19» الانتشار سريعا فى بداية مارس اذار، حيث أغلقت الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات الحدود وأجزاء كبيرة من الاقتصاد وأنشأت أنظمة اختبار وتتبع فعالة.
وأثبتت الاستجابة الصحية فعاليتها حتى الآن، ولكن التدخل الصحي الحاسم له تكاليف اقتصادية باهظة، فهناك جيل من العمال الذين يفتقرون للخبرة في البطالة الجماعية يواجهون إما من خسارة وظائفهم أو منحهم إجازة غير مدفوعة من أرباب عملهم، كما أن الشباب كانت الفئة الأكثر تضررا، فقد تم تسريح واحدا تقريبا من كل خمسة أفراد تقل أعمارهم عن 20 عاما.
وأشارت الصحيفة إلى أن المذبحة الاقتصادية قد تكون أسوأ لولا مخطط الاحتفاظ بالوظائف، الذي تموله الحكومة بقيمة 70 مليار دولار أسترالى، والذي يدفع أجوراً أكثر من 3.5 مليون عامل مُنح إجازة دون أجر، أي ربع القوى العاملة في البلاد، حتى نهاية سبتمبر أيلول المقبل.
وأفادت أن المرة الأخيرة التي عانى فيها الاقتصاد الأسترالي من ركود كانت فى عام 1991، ومنذ ذلك الحين أصبح يتمتع بمرونة ساعدته في تجنب العديد من حالات الركود العالمي نظراً لارتفاع مستويات الهجرة، التي تضيف نحو 1% فيالمتوسط للنمو السنوي، فضلا عن السياسة الاقتصادية السليمة وازدهار التصدير المدعوم من صعود الصين كقوة اقتصادية عظمى.
ويحذر النقاد من أن سلسلة الانتصارات أدت إلى شعور بالتهاون، الذى ترك بدوره أستراليا عرضة لهذا النوع من الصدمات الخارجية.
ويقول ريتشارد ييتسينجا، كبير الاقتصاديين في مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية المحدودة: «كلما زاد الوقت منذ الانكماش الخطير الأخير، قل التركيز على ما يمكن أن يتعرض للاختلال».
وفي محاولة لتعزيز بيانات العمالة والتضخم الضعيفة، خفض البنك الاحتياطي الأسترالي أسعار الفائدة إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 0.75% فى أكتوبر، قبل حدوث أزمتى حرائق الغابات وفيروس «كورونا»، ثم أجرى البنك المركزى خفضين آخرين لأسعار الفائدة وبدأ بشراء السندات الحكومية، فى مارس الماضي، في الوقت الذي تسبب فيه الوباء باضطراب مالي وتقلبات شديدة فى العملة المحلية.
ومن المؤكد أن تدخل البنك المركزي هدأ الأسواق، لكنه لم يحل مشاكل الديون العقارية التي تواجه العمال الذين يفقدون وظائفهم، لذا لجأت البنوك الأسترالية إلى تأجيل مدفوعات 429 ألف قرض عقاري، بموجب مخطط يمنح الأشخاص مهلة تصل إلى ستة أشهر على القروض المنزلية.
وبشكل إجمالي، أجلت البنوك 703 ألف قرض عقاري وتجاري بقيمة 200 مليار دولار أسترالي لمدة 6 أشهر بسبب تفشي الوباء، ولكنهم حذروا من وجود حدود لهذا السخاء.
وفي الوقت نفسه، توقع بنك «مورغان ستانلي» إمكانية وصول خسائر قروض القطاع المصرفي إلى 35 مليار دولار أسترالي خلال الثلاثة أعوام المقبلة.
رحلة وعرة
فى الجبال الزرقاء، كافحت شركات عديدة بالفعل بسبب حرائق الغابات المدمرة، التي ألحقت أضرارا بقيمة 650 مليون دولار أسترالي إلى اقتصاد المنطقة القائم على السياحة، ولكن تأثير «كوفيد-19» سيكون أكبر بكثير وربما أطول مما يصعب على بعض الشركات تحقيق أرباح حتى عند إعادة فتح أبوابها مرة أخرى.
ويعتقد الاقتصاديون أن رحلة العودة إلى العمل والانتعاش الاقتصايى قد تكون رحلة وعرة، وتعتمد على السيطرة على انتشار الفيروس.