العميد وجيه رافع

هل كان يعلم المؤتمرون في قمة الدار البيضاء عام ١٩٨٩،ان حلهم السحري لأزمة لبنان المستعصية والذي تمخض لاحقاً عن اتفاق الطائف، ان هذا الاتفاق سيصل الى هذا الجمود الخطير واليباس القاتل

هل كانوا على اطلاع قبل ولادة هذا الاتفاق،ان قطار الطائف سيتوقف في دمشق قبل متابعة رحلته الى بيروت ليتأكد الرئيس الراحل حافظ الاسد بنفسه،من عمل جهوزية كابينة القيادة وفقاً لما تشتهيه اللعبة الاقليمية والدولية التي برع الراحل في صوغ دقائقها وسبر اغوارها واسرارها بدقة وحنكة كبيرتين، وان قطارهم هذا سينطلق لفترة زمنية قصيرة ليعود ويتوقف في محطة انتظار قاتلة

نعم،طالت محطة الانتظار لقطار الطائف لفترة طويلة من الزمن، وما زالت، نبُت العشب الاخضر على جدرانيها ويبُس،يمكن تسميتهاحالياً بالمحطة الخضراء اليابسة، قطار لم يعد بمقدوره ان يتقدم خطوة صغيرة الى الامام،تقدمه اضحى شبه مستحيل،دخل في غياهب الصراعات الطائفية التي مزقت الهوية اللبنانية الوطنية، اين منها تمزقات الحرب الاهلية

تَوقُف الطائف في هذه المحطة،لم يكن صدفة،ولم يحصل بصورة تلقائية او طبيعية، بالعكس تماماً،اذ ان لهذا التوقف مدلولات عميقة جداً وقد تشكل خطراً كبيراً على مستقبل هذا الكيان المريض، محطة الانتظار هذه ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمستقبل منطقة المشرق العربي والتموضع الجيوبوليتيكي للطوائف التي تتشكل منه،وتزداد تعقيداً في الوقت الراهن بعدما غاصت علاقات طوائف لبنان العلنية والسرية بالاقليم وبالقوى الدولية المؤثرة

قبل اتفاق الطائف، تعرّف اللبنانيون على صيغة ٤٣، ومن خلالها على امتيازات الطائفة المارونية التي سميت حينها بالطائفة الطبقة،والتي كانت تسيطر على كافة المؤسسات الدستورية في البلاد وعلى كامل القرار السياسي فيه،وقد جاء الطائف بهدف تذويب هذه الطائفة الطبقة في المواطنة العادلة،وما ان انطلق هذا الاتفاق حتى عاد وتوقف عن الحراك،كما ذكرنا،وليتمخض عن تعرّف اللبنانيين على ثلاثة طوائف وثلاثة طبقات، سنية وشيعية ومارونية، كل طائفة منهم اصبحت طبقة،لديها مؤسساتها الدستورية الخاصة،التي تقارب طبيعتها الملكية الخاصة، تتصرف فيها هذه الطوائف كنطاق عمل خاص بها، ترافقها اطلالة حذرة وقلقة من نوافذها، على رحاب الوطن وعلى مجمل العملية السياسية القائمة فيه،من دون ان ننسى طبعاً، الطوائف الصغيرة التي لم تتحول الى طوائف طبقية بفعل صغر عددها ولعدم تخصيصها  بمؤسسة دستورية معينة، ولكن يُسجل في هذا الاطار حضور سياسي لافت للطائفة الدرزية التي بالرغم من قلة عددها وبسبب خصوصية تموضعها الجغراسي ووظيفتها التاريخية، تحولت الى لاعبة حاضرة ومؤثرة في مؤسسات الطبقات الثلاث الكبرى وفي مجمل العملية السياسية التائهة والمعقدة في البلاد على رصيف المحطة الخضراء اليابسة

حالياً، عادت الافكار والتحليلات والادوار تنفض الغبار عن الطائف، لكن عن اي طائف،لم يعد الجميع يقرأ في الكتاب نفسه، كل فريق اصبحت لديه قراءة خاصة بهذا الاتفاق،بعضهم طالب باستكماله شريطة جعل المادة ٩٥ قاعدة نهائية له،ليس احتراماً للمادة نفسها انما خوفاً من المجهول المعلوم،وبعضهم الآخر ينام مساءً على رأي ويطالب بتحرير الطائف من اي قيدٍ طائفي،ليعود ويصحو  على رأي مختلف  في اليوم التالي، ومنهم ايضاً من أعجبته محطة الانتظار هذه،ولم يعد يأبه بالخروج منها بتاتاً،اذ ان ما يشتهيه من هذا الاتفاق قد تم وتعززت صلاحياته بصورة مضطردة، فلما الاستعجال، وبعض آخر ايضاً يحاول التأثير والتغيير في قواعد اللعبة علّه يعيد بضعة فتات من الصلاحيات المفقودة،اما البعض الأهم فيهم والاقوى، تراه لا يأبه جدياً بكل هذه الافكار،اذ انه خلال جمود الطائف، تحول الى لاعب اقليمي كبير، وباتت تطلعاته استراتيجية وبعيدة الافق،وسياساته الكبرى تتجاوز البلاد وحتى الاقليم نفسه،لتصل الى ما يمكن ان تستقر عليه اوراسيا الشرقية بكاملها،وما يعنيه من لبنان تحديداً هو دور  وموقع هذه البلاد في المسار  الاقليمي العام

ويبقى اخيراً، المضحك المبكي بأحدى تصدعات الطائف وبالموضوع بشكل عام ،هو الخلاف  الدرزي- الاورثوذكسي حول احقية ترؤس مجلس الشيوخ المزعوم،التي نصت  المادة ٢٢ من الدستور على تشكيله عند انتخاب اول مجلس نيابي خارج القيد الطائفي في الوقت الذي يجب ان تتشكل رئاسته وفقاً لجوهر الطائف،اما مداورة بين الطوائف او عبر مجلس رئاسي طوائفي،وقد واكبتُ في فترة معينة بعض الاقتراحات حول صلاحيات هذا المجلس ووظيفته الدستورية ،لأخرج بانطباع تام عن حتمية سقوط اتفاق الطائف بالكامل

وهكذا تدرجت طوائف لبنان في وظيفتها السياسية،من طائفة طبقة الى طوائف من ثلاث طبقات،ولتتحول البلاد حالياً وشعوب هذه البلاد الى طبقتين خالصتين، اهم ما فيهما انهما يتشكلان من كافة طوائف لبنان،في كل طبقة منهما لا وجود للطائفية او للطائفيين بتاتاً، طبقتان منفصلتان تماما، انما كل منهما منصهرة ومتكاتفة مع نفس طبقتها تحديداً، وهما طبقة من الاثرياء ومن كل مذاهب لبنان، اضحى ثراءها فاحش، اين منه كبار اثرياء العالم، بعدما برعوا في سرقة البلاد ونهب ثرواته الوطنية،راكموا ثرواتهم وهم يبحثون عن حقوق طوائفهم السياسية،وطبقة من اليائسين وهي ايضاً من كل مذاهبه،غلبها الظلم والفقر واليأس،بعدما طالت مدة لا وعيها في التصفيق العصبي لانتمائها،ظنت في لحظة من تاريخها انها طبقة،وعت مؤخراً جداً على خراب بيوتها وعلى ضياع  مستقبل ابناءها، لتجد نفسها امام ابواب سفارات العالم هرباً من جحيم الطبقة الاولى ومن هول ارتكاباتها

بكل أسف، وبسبب خبرتي في البلاد ومعرفتي بنوعية الصفائح التحتية لمؤسساته، استطيع القول،لا با التأكيد، ان الطائف لن يتقدم خطوة واحدة الى الامام،وسيبقى معطلاً لا بل سيزداد اهتراءً، ولكن خوفي الكبير فعلاً هو ان تتحول محطة الانتظار الخضراء اليابسة للطائف، الى محطة وصول نهائية، انما…حمراء، دموية وقاتلة …حمى الله لبنان