“إحذروا خروج التنين من القمقم” عبارة رافقت أدبيات العلاقات الدولية منذ أواخر سبعينات القرن الماضي،حدث انه في ذلك الوقت، أعلن التنين الصيني انتصاره على أزمة غذاءه الداخلية،الأزمة التي أرهقته لعقود طويلة بسبب التكاثر السكاني الهائل، وأضحى حينها جاهزاً للدخول بقوة وتصميم في لعبة الهيمنة الكونية من أبوابها المتعددة.الكثير من العمل والقليل من الكلام،صفات طبعت النهضة الصينية منذ بدايتها ،فلسفة أعادت إحياء ثقافة معلم الصين التاريخي بعد غياب قسري لفترة طويلة من الزمن، سبّبته الماوية اللينينة التي هاجمته باستمرار وأقفلت مدارسه واعتبرت أفكاره فلسفة رجعية تعيد الانسان الى الخلف وفكراً نمطياً متخلفاً وُجب استئصاله والقضاء عليه.
في أقل من عشر سنوات، منذ إعلان دينغ ،بدأت ملامح القوة المتعاظمة للصين تُقلق اللاعبين الدوليين على اختلاف مشاربهم،واستطاعت البلاد دخول لعبة النفوذ والهيمنة، مستفيدة من مقعد دائم لها في مجلس الأمن سمح لها بممارسة التأثير الكبير في مجريات الاحداث الدولية، وكذلك من قوة عسكرية هائلة تدعمها أسلحة فتاكة تتقدم وتتطور بقوة وصمت كبيرين.
لقد تنبّه دينغ منذ البداية الى ضرورة امتلاك القوة العسكرية الجبارة لمواكبة مشروع التحول الكبير،ولحماية الصين العظمى من أي اعتداء محتمل في المستقبل،وقد تعزز هذا المفهوم بالتحديد ،عندما وقف الرئيس الاميركي الراحل نيكسون،معلناً بالأحرف الاولى مشروع الهيمنة الاميركي الجديد عندما قال” ان الدولار الاميركي يساوي دولاراً” ونقطة حاسمة على سطر الهيمنة الاميركية القادمة على العالم
لقد قرأ دينغ جوانب الصورة بامتياز، فدولار نيكسون الجديد لم يعد خاضعاً للنظام المالي العالمي ، إنما ارتبط مباشرة بالآلة العسكرية الاميركية الجبارة ولوبيّات صنّاع الاسلحة فيها، انها فائض القوة المَهولة، والناظمة للأمن العالمي في كل مكان من العالم
ومع مرور الوقت، تمكنت الصين من امتلاك قدرات إقتصادية جبارة أوصلتها رويداً رويداً الى تبوء ثاني أقوى اقتصاد عالمي، واذا استمرت وتيرة نموها على هذا المنوال ،فلن يَمضي أكثر من عشر سنوات حتى تتبوأ موقع أعظم اقتصاد عالمي على الاطلاق، الأمر الذي وتّر علاقاتها مع الولايات المتحدة، فاندلعت الحرب
الاقتصادية الباردة بينهما ،والتي كانت تدور رحاها في أسواق العالم قاطبة وحتى داخل أسواق البلدين نفسيهما ، كانت تخبو أحيانا ومن ثم تعود لتظهر أحياناً اخرى،كان آخرها منذ اقل من سنتين، انتهت بتوقيع اتفاق كانون الثاني ٢٠٢٠، لكن الأمور عادت الى توترها من جديد مع جائحة كورونا التي أغلقت أسواق العالم المالية وهزت أسواق النفط وزعزعت الاستقرار العالمي ووضعت كافة اقتصاديات الدول تحت ركود اقتصادي طويل الأمد ،ستشعل مع انتهائها التوترات والقلاقل بأشكال متعددة مع استبعاد نظرية الحرب النارية المباشرةقامت الحرب الاقتصادية الباردة بوتيرة تعتمد على قوة التغلغل الإقتصادي الإبتكاري لكل منهما في كافة أرجاء العالم، يصاحب هذه الوتيرة مقاربتين متشابهتين في اهدافهما مختلفتين في اسلوبهما، فالمقاربة الصينية إعتمدت السياسة الهادئة والتبادلية النفعية، او هكذا ظهرت لتاريخه، وأصرت على إحاطة سياستها مع الآخرين بجدران من الثقة والصراحة، ولم يظهر أنها استخدمت التهديد والوعيد، وقد اعتبرت هذه الثقة ممراً إجبارياً وأساسيا لتعاظم نفوذها وتقدمه،ويُرجّح ان هذا الهدوء وهذه الفكرة بالتحديد ،هي إحدى تعاليم الرئيس الراحل دينغ ،فهل كانت هذه التعاليم عبارة عن استراتيجية تخفي وراءها ما تخفيه، وهل الاسلوب الصيني المعتمد أثناء صعوده سيكون مختلفاً ليشابه نظيره الاميركي عند الوصول
بينما في المقلب الآخر، نجد ان المقاربة الاميركية، إعتمدت رأسمالية هجومية كاسرة، أثّرت تأثيراً كبيراً على مصداقيتها بين شعوب العالم، بعض النظر عن رأي الأنظمة المعلن ،وقد تجد هذا الشعور عند شعوب أكثر الدول إلتصاقا بها، لقد بانت مقاربتها إنتهازية ،نفعية وحتى عنصرية أيضاً ، وقد انكشف وجهها الحقيقي مع اجتياح العراق وفي سوريا وفي اكثر من منطقة في العالم، ولم يكن ينقصها لاكتمال صورتها هذه ، إلا رئيسا كالرئيس ترامب ،الذي أظهر سياساته بلغة تهديدية فجة وفوقية جارحة ،مستعملاً مفردات علنية وقحة ركيزتها “ثروتكم مقابل حمايتكم “في مشهدية لم تستخدمها الدبلوماسية العلنية سابقاً، الأمر الذي زاد نسبة التوترات والتعقيدات الدولية، لقد كان على صنّاع القرار في الولايات المتحدة او ما يُعرف بالانتلجنسيا فيها، تجنب الوقوع في مثل هذه الممارسات الخاطئة والدفع بها بغير هذا الاتجاه
الجدير ذكره ايضاً، فكما توقع تشرشل بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما قال ” ان إمبراطوريات الغد هي إمبراطوريات الفكر بالتحديد”، فلقد أدخلت الحرب الباردة الجديدة بين الصين وأميركا مصطلحاً جديداً على مصطلحات العلاقات الدولية ،فالجغرافيا السياسية (Geopolitics) مع زميلتها الجغرافيا الاقتصادية (Geoeconomy) لم يعودا وحدهما من يحدد ظروف الحرب ومكانها، فعالم اليوم أمام جغرافيا ثالثة تلعب دوراً رائداً في مجريات الاحداث الدولية، ألا وهي الجغرافيا الابتكارية (Geoinnovations) وأضحت معها الفوارق المعرفية وصراع الإختراعات والتقنيات بين الدول تشكل التحدي الكبير والمؤثر في نسبية ومصادر قوة الدولة وعظمتها، والملاحظ هنا ان مسألة التكاثر السكاني لدى بعض الدول لم يعد يشكل هاجساً غذائياً كبيراً لديها،بل اصبح يشكل أمرا حيوياً لرفد الجغرافيا المعرفية-الإبتكارية بأدوات نفوذ جديدة ورأسمال بشري قادر على الإبتكار والتطور في سبيل زيادة القدرة الإنتاجية الرائدة للدول
لكن وبالرغم مما تقدم ,لا بد من التأكيد ان مركز العولمة لن ينتقل الى الصين بعد أزمة كورورنا الحالية كما يُروّج بعض منظري العلاقات الدولية، فالليبرالية العالمية ما برحت تتمتع بقوة وحضور كبيرتين ،وهي ستبقى قائمة الى حين الوصول الى فكرة أخرى كاملة متكاملة تنهيها، فلم يسبق للأوبئة ان غيرت قواعد نُظمٍ عالمية ، وانه من المبكر إعلان نهاية النفوذ الاميركي ومباشرة الدخول في نظام عالمي جديد ،فالمسألة ما زالت بحاجة الى زمن ليس بقليل،وعلى هذا الأساس سيبقى النظام الحالي قائماً بأدبياته وديناميته وسلوكياته وحسناته وسيئاته وعثراته، أقله في السنوات العشر القادمة
قال كونفوشيوس ان الرجل الأعلى لا يرتقي سلّم الحكمة والريادة قبل بلوغه الخمسين من العمر، وللمفارقة فان دينغ نفسه أعلن في العام ١٩٧٨ بان الصين العظمى لن ترى النور قبل خمسين عاماً، فهل من فكرة ام من صدفة قد جمعت هذه الخمسينية المشتركة،ولكن يبقى السؤال الواجب طرحه:
هل كان سينجح المشروع الدنغوي بهذه القوة من دون التأطير الماوي الشيوعي للمجتمع الصيني،ام ان دينغ صالح فقط معلمه ماو مع نبي بلادهما القديم بعد هذه الحقبة الطويلة من الزمنسننتقل في الاسبوع القادم الى إجراء قراءة هادئة لواقع العولمة الحالي والنفق الذي
دخل الجميع اليه
العميد وجيه رافع