شوقي بزيع
لم يكن الناس في حاجة إلى تفشي وباء «كورونا»، لكي يتوجسوا خيفةً من الشيخوخة، ويعملوا جاهدين على تأجيل استحقاقات أعراضها المؤلمة. وإذا كانت العلوم المعاصرة قد نجحت إلى حد بعيد في إطالة معدلات الأعمار وتوفير أوسع الضمانات الصحية والاجتماعية والنفسية للمسنين، فإن ذلك كله لا يبدل كثيراً من حقيقة كون الشيخوخة هي خاتمة الرحلة، كما هي خط التماس المباشر مع الموت. ولعل ما عمّق شعور المسنين، في الآونة الأخيرة، بوطأة الزمن، هو تأكيد الأطباء وأهل الاختصاص على كون أجسادهم الهشة قد باتت أهدافاً مثلى لوباء «كورونا» الممعن في استشرائه. في حين أن الأجيال الأصغر سناً تستطيع، بما لديها من حيوية ومناعة عالية، أن تتجنب بنسبة أكبر تبعات الوباء ونتائجه الكارثية. ومع أن الكثير من الدراسات والبحوث المعاصرة، كانت قد غيرت الكثير من الصور النمطية للشيخوخة، وخلصت إلى الاستنتاج بأن سعادة الإنسان الحقيقية تبدأ مع بلوغه الستين، إلا أن مثل تلك الاستنتاجات ظلت مشروطة بالوضع الصحي والمادي للشخص المسن، وبما توفره المجتمعات لكهولها المتقاعدين من أسباب الراحة والأمان والعيش الكريم. كما أن السعادة المشار إليها هي سعادة مثلومة بالمأساة؛ لأنها ناجمة عن جنوح الإنسان إلى الاستكانة والتسليم، بعد أن زالت الفوارق الفاصلة بين المتاح والمتخيل، كما بين الوقائع والأحلام.
وإذا كنا لا نملك مقاربة واحدة لهذه الحقبة الحرجة من العمر، فلأن الحقيقة دائماً ملتبسة وحمالة أوجه، ولأن الرؤية إلى الشيخوخة تتفاوت بتفاوت الوضع الصحي والنفسي والذهني لأولئك الذين يخوضون هذه التجربة على أرض الواقع. فلا يمكن أن يرى إلى هذه المرحلة بعين الأمل، من يكون مقعداً وعاجزاً عن الحركة وعالة على الآخرين. أو ذلك الذي تتقهقر حواسه ويضمر جسده وتشحب ذاكرته، بحيث يصح فيه قول الآية الكريمة «ومِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ»، بما يحول المسنين إلى عمال مياومين لدى الزمن، والشيخوخة إلى مجرد مناسبة للتدرب على الموت. والأدهى من كل ذلك أن نعمة التقدم في السن لا بد أن تتحول إلى نقمة، حين ينظر المرء حواليه ليتبين له أن أحداً من الذين شاطروه رحلة العمر لم يعد على قيد الحياة، وأن القمة الزمنية التي يتربع فوقها، ليست سوى مكان للوحشة والصقيع والوساوس المتلاطمة. لكننا لن نُعدم، في الجانب الآخر من الصورة، من يرى في الشيخوخة فرصته الملائمة لاستعادة تلك الوداعة الهانئة التي سلبتها منه سنوات العراك الضاري مع الحياة، أو من يرى فيها «طفولة ثانية»، وحدائق لرغد العيش شبيهة بتلك التي أحاطت بنا في مطالع العمر. أما الكتّاب والمشتغلون بالأدب والفن، فإنهم يرون إلى المسألة من زاوية مختلفة تتعلق بنضوبهم الإبداعي أو بقدرتهم على الخلق، حيث يمكن للشيخوخة في الحالة الأولى أن تداهمهم في سن مبكرة، بينما يتمكنون في الحالة الثانية من الاحتفاظ بجذوة الشباب عصية على الانطفاء.
من الطبيعي إذن أن تشكل الشيخوخة والتقدم في السن مادة دسمة للرواية، كما للشعر وسائر الفنون الأخرى. ذلك أن الفن في جوهره لا يعمل على مقارعة فكرة الموت فحسب، بل يعمل أيضاً على تشتيت المخاوف المتصلة بالشيخوخة وتصدع الحياة وفقدان الأمل. وإذا كان من المتعذر على مقالة واحدة أن تتعقب انعكاسات الشيخوخة في الرواية والشعر، فإن هذه المقالة ستكتفي بالحديث عن الأولى، في حين سيكون الثاني محوراً لمقالة لاحقة. والحقيقة أن الرواية باعتمادها على التذكر وتتبع تفاصيل الحياة المنقضية، تمتلك مساحة أوسع مما يمتلكه الشعر، لتتبع أحوال الناس في كهولتهم وشيخوختهم المتأخرة. على أن صوَر المسنين في الروايات كانت متباينة تماماً، بحيث بدوا في بعضها كائنات ضعيفة ويائسة يتحكم به هاجس الموت، فيما بدوا في بعضها الآخر مفعمين بالحيوية ومتشبثين بأهداب الأمل ومتنكبين لكل أشكال المصاعب والمغامرات. ففي بعض الأعمال الروائية شكّل الأبطال المسنون نماذج للعيش ولمجابهة الصعاب، عمل الكثير من القراء على التماهي معها أو الاقتداء بها، كما هو حال سانتياغو، بطل همنغواي العجوز في رواية «الشيخ والبحر»، الذي يبدو لشدة مراسه وعناده شبيهاً بأبطال الأساطير والملاحم القديمة. إذ هو يلح على انتزاع رزقه من جوف المياه العمياء، ويخوض مع البحر صراعاً لا هوادة فيه. وهو إذ تتقاسم أسماك القرش لحم سمكته العملاقة، يجهد في جرّ هيكلها العظمي إلى الشاطئ، لكي يقدم للوافدين أمثولة التحدي والإصرار على المجازفة، بصرف النظر عن النتائج. وفي روايته «ناراياما» يقارب الكاتب الياباني فوكازاوا مسألة الشيخوخة من زاوية مختلفة لا تشيع فيها مناخات العزلة وأحزانها فحسب، بل هي تظهر أيضاً روح القبول القدري بالصيرورة، وبتسليم راية العيش من جيل إلى جيل. فالأرض في مناطق الأرياف الفقيرة والنائية لا تستطيع التخلي، وفق فوكازاوا، عن شبابها المفعمين بالنشاط والقادرين على حراثتها وتجديد عهدها مع الخصوبة. لكن لا يضيرها بشيء التخلص من أعدادها الزائدة الممثلة بعجائزها وشيوخها المسنين. وحيث تشحّ المحاصيل في «القرية المقابلة» ولا تكفي لسد رمق الجميع، تصبح رحلة الحج إلى جبل ناراياما المقدس بمثابة ذريعة مثلى للتخلص من هؤلاء العجائز الذين ينافسون الأبناء والأحفاد على لقمة العيش.
لكن المعتقدات البوذية الشعبية التي تلجأ إلى المقدس الديني لحل أزمة الجوع، تبتكر طريقة مثلى لحث المسنين على الصعود، حيث إن الخيرين منهم هم وحدهم الذين يتمكنون من بلوغ القمة، ليُدفنوا تحت الثلوج ويتحولوا إلى زهرة لوتس، كما حدث لأورن، الأم الطيبة والحنون. أما اللص البخيل تامايان، الذي يصطحبه ابنه الأكبر قسراً إلى رحلة الموت، فهو ما يلبث أن يسقط في منتصف الطريق ليتحول إلى وجبة دسمة للغربان الجائعة.
وقد ظهر التباين نفسه جلياً وواضحاً في الروايات التي اتخذت من قضيتي الحب والشغف محوراً لها. ولعل الرواية الأشهر التي انتصرت للحب وحولته إلى تعويذة ناجعة لقهر الزمن، هي رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة «الحب في زمن الكوليرا»، التي يُقبل الآلاف على قراءتها في هذه الفترة، ليس فقط لأن بطلها فلورنتينو يصر على انتظار المرأة التي أحبها فتياً وحُرم منها بسبب فقره، لستة عقود من الزمن، وليس فقط لأن ذلك الغرام المشبوب تكلل أخيراً بالزواج، بل لبعدها الرمزي العميق الذي يُظهر بأن الحب ليس جريمة يعاقب عليها القانون، لكي يسقط لاحقاً بمرور الزمن، بل هو الترياق الأنجع الذي نواجه به نكوص الجسد، ونهزم بواسطته تلوث الأرض واستشراء أوبئتها. وفي «ذاكرة غانياتي الحزينات» لا يتردد ماركيز في جعل بطله التسعيني يقع في غرام مراهقة دون العشرين، كطريقة وحيدة لمراوغة الموت وتضليله. لكن المسألة هي بخلاف ذلك في نظر الياباني ياسوناري كاواباتا، الذي يرسم في رائعته الروائية «الجميلات النائمات» صورة أكثر قتامة عن حال الإنسان في شيخوخته. فالنزل الذي أنشأه البعض للتسرية عن العجائز المسنين عبر السماح لهم، لقاء أجر محدد، بتأمل الشابات العاريات والمنومات بفعل التخدير، ليس سوى طريقة كاواباتا المبتكرة لرثاء الحياة الآفلة، بعد أن فقد أصحابها أهلية المشاركة في صنعها أو تذوق ثمارها. ولأن قوانين النزل لم تكن لتسمح للمسنين بأكثر من الملامسة العابرة للأجساد المنومة، بغية استرجاع فراديس الماضي، فإن تخطي تلك القوانين الصارمة من قبل الكهل إيغوشي، كان كافياً لنسف التجربة من أساسها وتحويلها إلى مسرح كابوسي ودموي .
لم تكن الرواية العربية من جهتها بمنأى عن قضية الشيخوخة، وما يصاحبها من تغيرات جسدية ونفسية. وإذا كان ثمة الكثير من الأعمال التي جعلت من قضية الزمن محورها الأساسي، كما في روايات نجيب محفوظ على سبيل المثال لا الحصر، فقد كانت رواية الكاتب اللبناني حسن داود «أيام زائدة» إحدى أكثر الأعمال الأدبية تجسيداً لمعاناة الإنسان المسن مع المرض والعزلة وهاجس الموت. وإذ يبرع الكاتب في تصوير تقهقر الجسد وافتضاحه أمام الفتاتين اللتين تتوليان العناية به، فإن الرجل العجوز الذي يتخلى عنه أولاده، يرفض القبول بهزيمته، ويصارع حتى النهاية وحش الموت وأنيابه القاتلة. أما الكاتب التونسي الحبيب السالمي، فيحول روايته «عشاق بية» إلى مرثية للصبا الآفل، تتقاطع فيها فنون السرد والتصوير والسينما والشعر. وهو باختياره طريق المقبرة كمكان يومي للقاء الكهول الأربعة الذين يلحون في أحاديثهم على استعادة أطياف الماضي، يبدو وكأنه يعطي للمكان دلالات رمزية قاتمة، ويسهّل على العجائز سبيل الوصول إلى حتفهم الأخير. على أن إدخال الفتاة المغوية بية على خط السرد، وافتتان اثنين من العجائز بجمالها الآسر، هو الذي أعطى للعمل بعده التراجيدي، حيث ما يلبث العجائز أن يقضوا نحبهم واحداً بعد الآخر، في حين يتمكن الابن الشاب لأحد الأربعة المتولهين بالفتاة، أن يظفر بها لنفسه.
قد تكون الثورات والحروب على أنواعها، أخيراً، أشبه بمناسبات دورية لتظهير الهوة القائمة بين أجيال الشبان، الذين يتصدرونها ويخوضون غمارها، وبين الأجيال السابقة التي لا تكاد تجد موطئاً لها في ظل الاحتكام إلى قوة الجسد واندفاعته الهوجاء. كما عمل وباء «كورونا» بوقاحة قلّ نظيرها، على تذكير المسنين بحقيقة كونهم الكائنات الأكثر هشاشة وضعفاً أمام هجماته الضارية. وقد لا يكون الأدب، بوجه عام، أرفق بالمسنين من الواقع، إلا أن الأمر يختلف تماماً مع غابرييل غارسيا ماركيز الذي انتصر للحياة، وللمتقدمين في السن على نحو خاص، كما لم ينتصر أحد. فقد ارتجل صاحب «الحب في زمن الكوليرا» سفينةً من بنات خياله، أمكنه بواسطتها أن يُخرج بطليه العاشقين من دائرة الخطر، بينما لم تفلح السفينة اليابانية المنكوبة في زمن «كورونا»، أن تخلص قبل أسابيع عجوزيها المماثلين من براثن الوباء القاتل.