كشف مسؤولون عن حملة حماية آثار نهر الكلب ان الحفريات التي بدأت منذ اكثر من عام لبناء المقر المركزي لتيار الوطني الحر فيه شيء من “جنون العظمة”.
واعتبر هؤلاء ان من هو موجود في بعبدا ليس بحاجة الى هكذا مقر ولا حتى من هو طامح للوصول الى بعبدا.
فهل فعلاً يؤثر بناء مركز ضخم للتيار الوطني الحر فوق الآثار التي تركها الغزاة والمستعمرون على صخور نهر الكلب عندما عبروا في لبنان على مدى التاريخ، وهل في هذه المبادرة دلائل على جنون العظمة لدى البعض؟
وهل من ارتباط بين مساعي التسلط والزعامات والسعي الى التحكّم وعقدة العظمة؟ وهل الطاغية في العالم العربي بنوع خاص والعالم بأسره هو من يدفع بمؤيديه لتأليهه، ويفرض بالتالي على مناصريه ان يطيعوه طاعة عمياء؟ وهل يتحول حب الزعيم الحاكم المستبد الى حالة من التأليه، مما يسمح بالكلام عن جنون عظمة جماعي يفقد الناس خلالها حرية الرأي الموضوعية لتقييم اعمال وانجازات الزعيم والحكم عليه بتجرّد وموضوعية، فتخسر الجماعة قدرتها على المساءلة والمحاسبة؟ وفي احسن الحالات تتحول مشاعرهم الى عقدة اخرى هي التماهي مع الزعيم والقائد، حتى ولو جلب لهم الويلات وتسبّب بحدوث النكبات للمجتمع بأسره…!!
– جنون العظمة:
مصطلح «جنون العظمة» مشتق من الكلمة اليونانية «ميغالومانيا» وتعني وسواس العظمة. وهي تصف حالة من وهم الاعتقاد، حيث يبالغ الانسان بوصف تفسه بشكل يخالف الواقع، فيعتقد ان لديه قدرات جبارة او مواهب مميزة او اموال طائلة او علاقات مهمة، او شخصية خارقة…
وتعدى هذا المصطلح استعماله الطبي، فأصبح شائعاً في المجتمعات وامتد استخدامه ليصف حالات تكون للامراض النفسية والاجتماعية دوراً فيها.
فجنون العظمة هو عارض لمرض عقلي صرف، يكون المريض فيه مرتفع المزاج، كثير الحركة. ويعتقد المصاب بجنون العظمة انه يمتلك صفات غير واقعية وعظمة وهمية، ولا يوافق على آراء الآخرين او يقتنع بحججهم والمعطيات التي يقدمونها له، دعماً لآرائهم ومواقفهم.
مع جنون العظمة، يعتقد الانسان وبشكل قاطع بأنه حالة استثنائية فوقية، تختلف عما سواها وتتمايز بقدرات ومواهب قد تكون خارقة بنظره. فقد يتصور نفسه، على سبيل المثال وليس الحصر، بأنه مسؤول سياسي هو الأهم، او قيادي في حزب ما من الدرجة الاولى، او انه حكيم زمانه، او امير الشعراء او من رجال الدين المنزهين. وغالباً ما تقوده مشاعر الهلوسة والضلال الى ان يدعي النبوة او الإمامة، او الزعامة التي يحتاج اليها النظام السياسي والمجتمع بأسره.
– عقدة العظمة تعويض عن مشاعر النقص:
عقدة العظمة، وهي حالة نفسية قد يكون لنشأتها اسباب كثيرة اذكر منها:
1 – عقدة الشعور بالنقص:
وهذه هي ناتجة عن حالة الحرمان والفقر والجهل او المعرفة المحدودة او بلوغ مكانه دنيا يسعى الترقي منها لإثبات الذات.
وغالباً ما تكون عقدة العظمة تعويضاً عن الشعور بالنقص. اضرب مثالاً على ذلك الفقير الذي يسعى الى الاثراء السريع بشتى الوسائل، او المظلوم الذي يريد الانتقام من ظالمه، او المواطن الذي يشعر بظلم النظام ويتصور انه قادر على تغييره او الانقلاب عليه.
فالعقد لدى الانسان هي عديدة، تبدأ منذ الطفولة كفقدان الحنان خلال السنوات الاولى، او المعاناة من مشاعر الاضطهاد والاحتقار وما يعترض الانسان من صدمات خلال حياته. وغالباً ما يسبح الشخص في بحر الاوهام والخيال ويستمتع بلذة الوهم. وقد يقبل المصاب بالمراهنة على كل الثوابت الاجتماعية والمبادئ الدينية والاعراف السياسية لتحقيق طموحاته، بحجة ان السياسة هي «فن الكذب» والمخادعة والقدرة على استغلال الفرص دون اي رادع اخلاقي او معنوي.
2 – تقمص الشخصية:
قد يتقمص الطفل اثناء طفولته او خلال مراحل بلوغه شخصية ابويه او احد افراد العائلة ممن يشكلون مثالاً يحتذى به او حالة اخرى من وهم العظمة. وقد يتقمص الفرد شخصية تاريخية مميزة يتأثر بها وبسلوكياتها او بقدراتها القيادية كشخصية قائد عسكري بارز او سياسي معروف، او شاعر او طبيب او اي شخص آخر يعتبر مثالاً وقدوة يسعى الانسان الى التماهي بها، حسب ميوله وطموحاته. وقد يكون ذلك ايجابياً في الحالات التي يبقى فيها الانسان موضوعياً وعملياً، منسجماً مع قدراته الذاتية ومكانته وموقعه الاجتماعي.
لكن ما عدا ذلك تصبح مساعي التماهي تقارب الحالة المرضية لديه: فيسعى الفرد في مثل هذه الحالات ان يسلك طريق من تأثر بهم سياسياً او دينياً او علمياً او اجتماعياً او فنياً، ويحاول تقليده في حياته العملية بشكل او آخر يقارب الاستنساخ.
3 – الشخصية السيكوبائية:
وهي شخصية تميل الى العنف والتطرف، تستخدم شتى الاساليب في تسخير الآخرين.
هذه الشخصية تستخدم كل الطرق الملتوية والخداع اللفظي واظهار النفس بما ليس فيها من مزايا، من اجل التمويه، تم الانقضاض على الفريسة او المجتمع، حسب وضعية الشخص ومكانته وطموحه.
– الزعامة والاستبداد:
يصح القول ان لكل قائد او زعيم او طاغية مرت عبر التاريخ شخصيتها المميزة وبصمتها الفريدة في الاجرام والتطرف… لكن هناك مجموعة من السمات والاطباع مشتركة عند الجميع، مهما اختلفوا في الزمان والمكان. الاختلاف الوحيد هو ناتج عن نوع النظام. هل هو استبدادي شمولي، او استبدادي ديكتاتوري او انه نظام غلف بالديمقراطية؟ كل نظام شمولي هو حتماً ديكتاتوري، ولكن ليس كل نظام ديكتاتوري هو شمولي بالضرورة.
في الانظمة الديكتاتورية ، مثل نظام حسني مبارك وانظمة اميركا اللاتينية، يوجد نوع من هامش نسبي من الحرية السياسية والنقابية والاجتماعية والتعددية المحدودة. ولا يتغلغل في هذه الانظمة الاستبداد في كل مفاصل الحياة، كما في النظام الشمولي، كالانظمة الشيوعية، وهي لا تترك اي مؤسسة سياسية او عسكرية او مجتمعية او عسكرية او دينية، خارج هيمنتها المطلقة، كما هي الحال في الصين وكوريا الشمالية والاتحاد السوفياتي سابقاً. في هذه الانظمة تغيب التعددية والحرية الدينية وحرية الرأي او التظاهر، ويتحول الحزب الحاكم مع قيادتها مصدر السلطة والقرار، وعلى الجميع الالتزام بتوصيات وتوجيهات الحزب وقراراته السياسية والاقتصادية والعسكرية والتربوية.
في مثل هذه الانظمة، غالباً ما يتحول الزعيم او الرئيس او الملك من ديكتاتور الى ظاغية. وهذه تعتبر اعلى مراحل الاستبداد. فحصر السلطة والصلاحيات بيد الحاكم يمنحه قدرة تتجاوز كل امكانيات التغيير، فتدفع المجتع، عبر وسائل التعليم والاعلام ومن خلال الامساك بالنظام، الى تأليه الحاكم ووضعه في مكانة اعلى من كل المواقع الاخرى.
- حكم «الأنا»
يمكن التأكيد ان كل طاغية هو مصاب بمرض العظمة. ويعتقد انه يختزل الأمة وكل شيء في شخصيته، ويرى العالم من خلالها. فهو المركز والنقطة المحورية لكل ما يدور حوله. وكل شيء يبنى على وجوده واستمرارية. فسوريا الاسد تضحي بالشعب لتبقى في السلطة، وليبيا معمر القذافي تكدس مليارات الدولارات واطنان الذهب وترفض ادراج اي اصلاح في النظام ، وصدام حسين يلجأ الى العنف ويقضي على خصومه واقاربه، حفاظاً على العراق التي يتصور انها بنيت على رؤيته الشخصية. كذلك الأمر بالنسبة لبوكاسا وهتلر وستالين وموسيليني وغيرهم.. فجنون العظمة جعل من هذه القادة، يبدون في الظاهر طبيعيين، لكنهم بالواقع يعانون من عقدة الاضطهاد والتآمر للإطاحة بهم. فبنوا قراراتهم على اوهام وحوادث وطروحات غير واقعية.
وغالباً ما تعيش مثل هذه القيادات في عالمها الخاص وتتقوقع على المجد الذاتي. على سبيل المثال رد الزعيم الروماني نيكولاي تاوشيسكو على سؤال لأحد الصحفيين، عما اذا كانت المظاهرات التي عمت رومانيا ستؤدي الى التغيير وهل يخشى ان تتطور الأمور نحو الأسوأ؟ فقال: لا يوجد شيء مما تقوله، ولن يحدث اي تغيير في رومانيا الا اذا تحولت اشجار البلوط الى تين. بالواقع بعد 4 ايام القي القبض عليه واعدم مع زوجته.
اليوم نفس الانكار يحدث في ايران والعراق ولبنان. فالتظاهرات هي مجرد «جلبوطَين» سيعودون قريباً الى منازلهم.
وتختلف مشاعر العظمة من زعيم الى آخر. بعضهم يكون على الحد الفاصل بين الحالة المرضية والحالة الطبيعية، والبعض الآخر ترتفع لديهم حالات التطرف.
فمثلاً موت ربع اطفال جمهورية «افريقيا الوسطى»، في عام 1976 بسبب سوء التغذية والمرض والفقر لم يمنع حاكمها العسكري جان بوكاسا من انفاق ثلث ميزانية الدولة خلال يوم واحد للاحتفال بتنصيبه امبراطوراً عليها، في العام نفسه.
في العراق، بينما كان أغلبية الشعب العراقي جائعاً ومريضاً والاقتصاد العراقي منهاراً بسبب العقوبات الاقتصادية وفرض قرار الغذاء مقابل النفط، قرر صدام حسين بناء مسجد يحمل اسمه وسط بحيرة اصطناعية في منطقة المنصور في بغداد. وكان من المفترض ان يكون لديه ثمانية منارات وقبة بارتفاع 150 متراً ويتسع لمئة الف مصل. لكن صدام رحل قبل تنفيذ هذا المشروع.
اليوم نشهد في لبنان مشروع بناء اكبر مركز للتيار الوطني الحر فوق صخور نهر الكلب ذات الرمزية التاريخية وبكلفة تقدر بقيمة 15 مليون دولار على اقل تعديل، رغم ان البلاد تعاني من ازمة مالية ومن البطالة والفقر والاحتجاجات الشعبية. وكأن التيار يعيش في حال من الانكار لهذا الواقع ويوحي انه يريد اعادة كتابة التاريخ في لبنان.
ويبدو ان من يعاني من جنون العظمة يسخر كل شيء ويتخطى كل الاعتبارات ويتجاهل كل الوقائع الحياتية في سبيل الوصول الى غايته. فهو دائماً على حق، واي اختلاف معه هو جزء من المؤامرة عليه لذا نسمع البعض يردد: «ما خلونا نشتغل». هذا الخلاف ولو كان بسيطاً يشكل خطراً على سلطته وعلى وجوده، لذا يستوجب التخلص منه بشتى الوسائل، وحتى عن طريق اعداد الملفات والتزوير للحقائق والاحداث . وهذا ما يحدث في اكثر من بلد من بلدان العالم الثالث والدول العربية التي لم تلبغ النضج السياسي ولا تؤمن بالعمل الديمقراطي والارادة الشعبية.
أليس جنوناً بالعظمة ان تطلق الصفة الإلهية على سلاح حزب الله وانتصاراته العسكرية (؟) او ليس جنوناً بالعظمة ان يرضى رئيس مجلس النواب ان يطلق عليه بعض انصاره صفة «النبوة»؟
أليس شعوراً بالعظمة ان يقبل العماد عون ان يوجه اليه بعض مؤيدية كلاماً يطلق على العزة الإلهية:«انت المسيح. انت الانجيل… انت الله… دون ان يردعه ويرفض هذه الاوصاف التي لا يستحقها؟ أليس شعوراً بالعظمة ان يقبل رئيس البلاد المؤتمن على الدستور والمؤسسات ان يجرى استبدال كلام النشيد الوطني وان يحل العماد مكان الوطن؟
أليس شعوراً بالعظمة عندما يردّد جبران باسيل «سوف اجعلكم تنسون بشير الجميل«؟
أليس شعوراً بالعظمة ان تعيش المنظومة السياسية الفاسدة التي نهبت خيرات البلاد وتقاسمت اموال الوطن، حالة من الانكار الجماعية، مدعية ان الامور هي على ما يرام، وان الجمهورية بخير، ولا وجود لأزمة اجتماعية نتيجة لتردي الاوضاع وانهيار الاقتصاد؟
تساؤلات عديدة حول الواقع اللبناني تجعلنا نشك بصوابية وصحة الطبقة الحاكمة في لبنان.
- الهستيريا الجماعية:
باعتقادي ان المجتمع اللبناني يعيش اليوم حالة من الهستيريا الجماعية. فلكل زعيم وقائد جماعته الطائفية او المذهبية او العقائدية او الكل معاً. اللبنانيون المنقسمون على ذاتهم يعيشون حالة عشق مرضية للزعيم، حالة من التعلق غير العقلاني يسبّب لهم مضاعفات نفسية خطيرة. فعشق الزعيم والقائد الذي تحول في اذهانهم الى فكرة مثالية يحتذى بها، لكنها فكرة واهية وغير مفيدة للخير العام. الشعب يسير وراء «وهم» يقارب الألوهية.
فحياة اللبنانيين تنهار يوماً بعد يوم، لكن معظمهم لا يزال يربط مصيره بمصير وسلامة زعيمه. لدرجة ان اللبنانيين اصبحوا يتلذذون بالاذلال والاستغلال، ويتغاضون عن الفساد المستشري من قبل المنظومة الحاكمة. لقد تحولت قياداتنا الى انظمة قمعية يرضخ لها المتزلمون رغم كل مظاهر الاضطهاد المغلف بالحفاظ على التوازنات.
لقد اصبح الزعماء في لبنان اهم من الوطن واغلى من العائلة. لا بل اكتسب الوطن صفاتهم.
لذا يتجاهل اللبنانيون الارث التاريخي والمزايا الحضارية والثقافية التعددية اللبنانية التي جعلت منه “رسالة مميزة” الى العالم..
ان الهستيريا الجماعية التي تهيمن على المجتمع اللبناني اليوم بسبب مشاعر العظمة لدى قادته، رغم كل الفساد والاستغلال، تدفعك للتساؤل حول مصير هذا الوطن الذي يكاد يضيع بين عقد النقص وجنون العظمة لدى حكامه وغباء معظم اللبنانيين الذين يقادون كالقطعان الى الذبح.
فهل نحن نعيش اليوم مرحلة تفتيت لبنان الى دويلات وامارات مذهبية، لأن عقدة العظمة لدى قادة الوطن تدفعهم كي لا يتعاونوا لانقاذ الوطن الرسالة؟
وهل بناء مركز جديد للتيار الوطني الحر هو خطوة استباقية لإقامة الإمارة المسيحية على انقاض دولة لبناني الكبير؟
رحم الله الجنرال شارل ديفول الذي تخلى عن الرئاسة الأولى عندما كشف استطلاع للرأي أن 40 في المئة من الفرنسيين لا يؤيدون بقاءه في الرئاسة، فاستقال واستمرت فرنسا… فهل مَنْ يعتبر؟؟
pierre@eltelegraph.com