ابراهيم بيرم
غليان الشارع وسط التخبُّط السياسيّ، من أحداث وسط بيروت، تعبيرية، نبيل إسماعيل.
لم يكن رئيس الكتلة البرلمانية لـ حزب الله (كتلة الوفاء للمقاومة) محمد رعد ينطق عن هوى أو عن تهور، لحظة بعث في تصريح نوعي مباغت صدر عنه ، برسالة عالية اللهجة، لكل الذين يجاهرون بما وصفه هو هروباً متعمداً «من تحمل المسؤولية» والعزوف عن المشاركة في الحكومة العتيدة المنتظر ولادتها بين ساعة وأخرى، متوعّداً إياهم بأننا «لن ندعكم وشأنكم» حتى وإن أدرتم ظهركم وتحضّرتم للانتقال الى ضفة المعارضة قريباً قائلين للناس: «دبروا حالكم».
فمن المعلوم أن هذا الرجل (اي النائب رعد) مفرط في التحفظ والتعقل لا يطلق المواقف جزافاً بل بعد تبصر وتكون مواقفه في العادة رسالة الفصل من الحزب، ما بعدها ليس كما قبلها.
وعليه، فإن من هم على تواصل بدوائر الحل والربط في الحزب لا يستبعدون إطلاقاً بأن الحزب تعمد توجيه محتوى هذه الرسالة لشركائه الثلاثة السابقين في تجربة الشراكة السياسية في حكومة الرئيس سعد الحريري المستقيلة، ليرسم لهم في مرحلة ما بعد التوليفة الحكومية التي هي على وشك ابصار النور، الخطوط الحمر ومساحة الإقدام والإحجام المباح لهم اللعب بين جنباتها في قابل الأيام ما داموا هم اختاروا عن سابق تصور وحساب العزف منفردين ومعارضين سياسياً.
من يرصد بدقة مواقف «حزب الله» المتتالية منذ انطلاق الحراك الشعبي في الشارع قبيل أكثر من ثلاثة شهور، يخرج باستنتاج فحواه أن النائب رعد ليس اول قيادي من الحزب يلوح بخيار محاسبة المستعدين لإدارة الظهر ومغادرة متن سفينة الحكم ساعة ولجت دائرة التأزم. فبعد أقل من 36 ساعة على زحف الناس للمشاركة في التعبير عن استيائهم من مآلات الاوضاع ظهر الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في اطلالة اعلامية كانت مقررة سابقاً لينبّه الذين يعتزمون المغادرة المشهد السياسي تاركين السفينة تحت رحمة رياح الغرق العاتية، قائلاً لهم إنه ممنوع ذلك عليكم واننا في وارد إخضاعكم للمساءلة والمحاسبة خصوصاً وانتم من استفدتم من مغانم الحكم منذ الشروع بالعمل بنظام اتفاق الطائف».
في هاتيك الأيام الواعدة باحتمالات الاضطراب والفوضى والمضي نحو المجهول، حمل هذا الكلام على أكثر من محمل وتفسير، لكن استقر رأي غالبية المحللين بأن المقصود الاول بمضمون الكلام الصادر عن سيد الحزب هو رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي كان أعلن في ذلك الحين ان وزراء كتلته النيابية باتوا على وشك الاستقالة من حكومة الرئيس سعد الحريري «تضامناً مع حراك الشارع وتبنياً لمطالب السائرين في موكبه المتعاظم». ولاحقاً عمّم على بعض مواقع التواصل الاجتماعي المحسوبة على قواعد الحزب نص مكالمة هاتفية أجراها احد الاشخاص الجنوبيين مع جنبلاط اعتبر فيها الاخير أن كلام السيد نصرالله إياه فسّره على اساس أنه بمثابة تهديد موجه له.
وعليه، أيضاً، فإن ثمة من فسر هذا السلوك الخشن من جانب «حزب الله» هو بمثابة «دفاع كفائي ليس الا»، فهو قد أتى بعنوان الحد من تدحرج الامور نحو الأسوأ وقفل الابواب أمام الاحتمالات السلبية، اذ كان الحزب قد قرأ في اندلاع الحراك على هذا النحو المتسع والمفاجىء انزياحاً نحو محاكاة تجارب ربيع الساحات حيث النتيجة الغالبة تتجلى في انهيار كل قواعد اللعبة المعروفة وتدخلات تسمح بوضع الأمور تحت إمرة شارع لا يلبث ان يعلن ولاءه للغرب عموماً، وللنموذج الاميركي خصوصاً. لذا، كان إطلاق هذا التهديد هو من قبيل ضبط وقائي صارم وحاسم للأمور والمسارات وإعلان صريح بانه (الحزب) على أتم الاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات إذا ما اقتضت الحاجة وحتّمت الضرورة.
في ذاك الحين أيضاً ظهر في فضاءات الحزب من يتبنى نظرية جوهرها أن «رسالة السيد تلك» ما لبثت أن أعطت أكلها وظهرت ثمارها وقد تجلى ذلك في انضباط جنبلاط ضمن قواعد لعبة هادئة حالت دون جنوحه نحو التصعيد المستفز ضد الحزب والتيار البرتقالي، إذ بقي خطابه يتسم بالسلاسة ومقيداً بحدود المعقول، على نحو بدد لاحقاً من مخاوف نبتت في جو الحزب هجست بدور مخبوء لجنبلاط في انقلاب يدبّر في ليل لذا كان الاستنتاج السائد لدى انصار الحزب أن زعيم المختارة انكفاء الى دوره المفضل وهو الجلوس على التل مترقباً مسار رياح الأمور، وهذا يريح الحزب ويخفف من تعاظم مخاوفه فالحزب عموماً لا ينتظر منه أفضل من ذلك عموماً.
وبناء على كل ما تقدم، فإن السؤال المطروح حالياً هو، اذا كانت رسالة الحزب قبل ثلاثة شهور كانت خيار الضرورة والحاجة وقد أينعت ثمارها فما الذي حدا بالحزب مجدداً إلى توجيه مضمون الرسالة عينها تقريباً ولكن على لسان النائب رعد؟
الإجابات الصادرة عن من هم على صلة بالحزب تستبعد فرضية أن تكون الرسالة إياها موجهة هذه المرة الى جنبلاط حصراً، فهو قد صار خارج دائرة كل الهواجس مذ أصدر مؤشرات تبرهن على انضباطه وعدم رغبته بالجنوح نحو التصادم والاستفزاز. وعليه، فإن هذا الكلام الوعيدي للحزب موجه في هذه المرة الى أكثر من اتجاه وليس من الضرورة أن جنبلاط في عدادها بل يتصل بمرحلة ما بعد تأليف الحكومة والاحتمالات التالية الاول.
فالحزب يرقب ولا شك التصعيد العنفي غير المسبوق للحراك الشعبي منذ السبت الماضي في وسط العاصمة ويقرأ بعمق أبعاده ومن يقف وراءه مباشرة. لذا، ليس مستبعداً أن يكون الحزب يجد في التصعيد المنظم بعناية إياه نموذجاً من تصعيد سيستمر متواصلاً في مرحلة ما بعد التأليف بغية استنزاف الوضع والمضي قدماً نحو ابقاء الفوضى المضبوطة سائدة الى اجل غير مسمى لكي تظل قوى السلطة الثلاث («التيار الوطني» و»حركة أمل» و «حزب الله») محاصرة بشبهة العجز والقصور عن إدارة الموقف والخروج من عنق زجاجة الأزمة الخانقة.
ولا يكتم هؤلاء أن يكون الحزب يسلك ضمناً من خلال هذا الأداء ومن خلال هذه الرسالة وما سبقها سلوك الراغب بالقول إنه هو عماد اللعبة السياسية وقطبها الأعظم وانه ليس في وارد التهاون والمهاودة وإغماض العين عن كثير من الامور بعد استيلاد الحكومة، لذا ليس مستبعداً ان يكون في عمق تصور الحزب أن المقصود تأمين حماية مسبقة للحكومة التي هي على وشك الولادة.