تجاهل الأقطاب الذين شاركوا في اجتماع بعبدا لمعالجة الأوضاع بعد احداث قبر شمونة دعوة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، عندما طالب بتأليف “حكومة تكنوقراط”، لأن حكومة “الوحدة الوطنية” فشلت في معالجة القضايا الوطنية الأساسية.
وكرر جعجع في أكثر من مناسبة مطالبته بحكومة تكنوقراط مستقلة في قرارتها، “لأنه إذا أردنا أن نفكر بحاضرنا والتخطيط لمستقبلنا، فالحل الوحيد على المدى المنظور، قبل سنة والآن وبعد سنة أو إثنتين، بانتظار أن نجد حلولاً للإشكالية السياسية الكيانية التي نواجهها، هو حكومة تكنوقراط…”.
لم تمتثل الطبقة الحاكمة لهذه الدعوة إلا بعد نزول مليونين ونصف مواطن لبناني، رفعوا العلم اللبناني، وطالبوا بإسقاط الحكومة والنظام الفاسد في لبنان.
وأرغم رئيس الوزراء سعد الحريري على الاستقالة، رغم “لاءات” سيد المقاومة وتهديداته المبطنة، ورغم مراهنة اهل السلطة أن “الجلبوطين” سيملان من التظاهر، وتهدأ العاصفة، وتعود المياه إلى مجاريها…
لكن هذا الرهان سقط بعد ان شل المتظاهرون الحركة في البلاد طوال ما يقارب شهر كامل، ركزوا بعدها على التظاهر أمام الوزارات والدوائر العامة، باعتبارها الأداة التنفيذية لسياسة “نهب” الوطن على مدى عقود. وأن الشعب الذي يطالب برحيلهم جميعاً، يعي تماماً ما يردده المتظاهرون الثوار: “كلن يعني كلن”.
وهكذا تحول ما يزيد على نصف سكان الوطن إلى قوة شعبية ضاغطة، خاصة بعد نزول طلاب المدارس والجامعيين إلى الشارع للمطالبة بضمان مستقبلهم في الوطن الذي يحبون، خاصة بعد أن بلغت نسبة العاطلين عن العمل في صفوفهم، تقارب 63 في المئة. وأصبح الشباب اللبناني يواجه مصيراً سوداوياً: أما البطالة أو الهجرة وخسارة الوطن، وكل ما تعنيه هذه الكلمة.
فما حقيقة ما جرى ويجري في لبنان.
الجنرال عون وسلاح المقاومة:
خلال سنوات المنفى في باريس، وفي لقاءات مع وسائل الإعلام، طالما كان العماد عون يشدد في بياناته ولقاءاته وتصريحاته على ضرورة نزع سلاح الميليشيات، وفي طليعتها سلاح حزب الله الذي انتهت مهمته بعد تحرير الجنوب وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى الأراضي المحتلة.
وتمسك حزب الله بذريعة تحرير مزارع شبعا “المختلف عليها بين لبنان وسوريا”. ورفضت سوريا تزويد لبنان بخرائط ووثائق تثبت هوية هذه المزارع، ليس لفقدان الأدلة بل لأسباب سياسية تتعلق بمستقبل سلاح حزب الله، فحافظ الحكم السوري على قراره الغامض ولم يساعد الدولة اللبنانية على تحديد هوية الأراضي المتنازع عليها، وبالتالي حصر السلاح بيد الجيش والقوى الامنية.
ونتذكر جيداً أن الكونغرس الأميركي منح العماد عون فرصة لشرح موقفه من الأزمة اللبنانية.
وتقدم بمذكرة تطالب بتجريد حزب الله من سلاحه، وبمؤاذرة المجتمع الدولي لبنان لإعادة إعماره وبناء الدولة التي تسيطر على جميع أراضيها.
وطالما كان العماد عون يوجه رسائل مصورة إلى أنصاره في لبنان وإلى لبنانيي الانتشار، تمحورت بمجملها حول نزع سلاح الميليشيات ومخاطر “فرسنت” لبنان وفرض ولاية الفقيه على المجتمع اللبناني، وضرورة تجريد الجميع من السلاح.
وذكر في احد خطبه الشهيرة أن “الفرس هاجمين. ولاية الفقيه رح بتسيطرعلى لبنان. بحلفكم تسألوا شو معناتا “ولاية الفقيه”؟
فجاءه الرد على لسان سيد المقاومة: “ولاية الفقيه” هي أن نأتي ونقول: قيادتنا وإدارتنا وولاية أمرنا، وقرار حربنا، وقرار سلمنا، هو بيد الولي الفقيه…”
ورغم هذا الإعلان الصريح حول سعي قادة المقاومة لتغيير النظام وإقامة نظام إسلامي في الجمهورية اللبنانية، لم يتردد العماد عون من إجراء صفقة مع النظام السوري وحزب الله للوصول إلى سدة الرئاسة. فلا ضيم في ذلك، طالما الغاية تبرر الوسيلة، كما يروج له محفل الشرق الأعظم الذي دعم الثورة الفرنسية وساهم في نجاح الثورة الشيوعية، والمعروف بعدائه للإكليروس.
وهكذا تزاوجت طموحات الجنرال عون مع أهداف الحزب البعيدة. والحزب يدرك جيداً أن شخصاً، مهما علا شأنه هو عاجز عن مواجهة أي حزب عقائدي، مدعوم دون شرط بالمال والسلاح والعقيدة الموجهة، وينتمي إلى مجموعة مذهبية واحدة، تناقض بتوجهاتها التركيبة الاجتماعية التعددية في لبنان.
فالغطاء المسيحي الذي كان يبحث عنه حزب الله، قدمه له الجنرال عون مقابل وصوله إلى الرئاسة. فشكل هذا التاريخ مرحلة هامة في مخطط حزب الله للاستيلاء على الحكم. لذا قرر حزب الله، إلى جانب نشاطه العسكري في لبنان وسوريا والعراق واليمن، التوجه أكثر فأكثر نحو العمل السياسي.
فأصبح السلاح في خدمة السياسة والعكس صحيح.
لذا تجاهل حزب الله “ثقافة الفساد” والطبقة الحاكمة الفاسدة التي تنهب خيرات الوطن، لا بل استفاد من ثقافة نهب المال العام، ليتحكم بالقرار السياسي، كون أهدافه البعيدة ستطيح يوماً بهذه المنظومة السياسية، عندما يقيم “جمهوريته الإسلامية” في لبنان.
جبران وريث عون:
من يراقب السلوك السياسي لحزب الله يدرك أن هذا الحزب لديه رؤية بعيدة «ونفس طويل» وهو يراهن على الوقت الملائم لتعديل مواقف اللبنانيين من طروحاته السياسية وأهدافه العقائدية.
لكن مع وجود رئيس كهل يعاني من أكثر من مرض، حاول حزب الله تبني “الصهر المدلل”، وراهن على إيصاله إلى بعبدا، بعد تحجيم وليد جنبلاط واقصاء القوات اللبنانية وتقزيم رئيس مجلس النواب وحركة أمل.
وتشير تقارير سرية أن الاجتماع الأخير بين السيد نصر الله وجبران باسيل، ناقش خلاله الرجلان، وعلى مدى سبع ساعات، كيفية الانقلاب على الحكم وعلى التركيبة السياسية، لضمان وصول جبران باسيل إلى سدة الرئاسة، بعد استقالة الرئيس المفترضة، “لأسباب صحية”. لكن ردود فعل الشارع اللبناني والانتفاضة الشعبية السلمية، وحكمة قيادة الجيش والقوى الأمنية ساهمت معاً بضرب هذا المخطط. ووصل لبنان إلى الحالة التي هو عليها الآن: شعب تأثر وغاضب لا يثق بالمنظومة السياسية التي حكمت لبنان على مدى 30 عاماً، واكتفت بتقاسم خيرات البلاد ونهب المال العام، عملاً بمبدأ المحاصصة باسم الطوائف والمذاهب. وبدأنا نسمع يومياً ادق التفاصيل لنهب الوطن من قبل كامل المنظومة السياسية.
لكن هل الفساد وحده هو ما اوصل لبنان إلى حالة الانهيار؟؟
جوهر المشكلة:
لا تزال السلطة في لبنان تتجاهل مطالب المتظاهرين، وتغض النظر عن جوهر المشكلة. هذه السلطة تعيش للأسف الشديد حالة من الإنكار، رغم أنها تدرك أن جوهر المشكلة لا يكمن فقط في أداء وزير فاشل أو فساد آخر.
فأركان السلطة يدركون أن لبنان لن يحصل على أية مساعدات دولية أو عربية، قبل معالجة سلاح حزب الله. لهذه الأسباب تتأخر الاستشارات الوزارية الملزمة، لأن اهل السلطة يدركون هذه الحقيقة، ويتحايلون لتطويقها، قبل أن تصبح مطلباً شعبياً، وقد تصبح كذلك.
ويدرك فريق 8 آذار أنه عاجز عن تأليف حكومة من لون واحد أو اختيار رئيس حكومة تابع له.
كما يدرك أنه أوصل البلاد إلى حالة من العزلة الدولية والعربية خانقه زادت من حدة الأزمة الاقتصادية، وأن تأليف حكومة من لون واحد سوف تفرض عقوبات قاسية على لبنان، تطال التركيبة السياسية بكاملها، انطلاقاً من رئيس الجمهورية، وصولاً إلى أصغر حاجب في الدولة اللبنانية. كما ستعرض القطاع المصرفي إلى عقوبات قاسية، وصولاً إلى أصغر مؤسسة مالية في لبنان.
وفي تأكيد غير مباشر على صحة هذه النظرية، فقد نشرت صحيفة النهار اللبنانية أن مصادر رفيعة المستوى كشفت ل “رويترز” نقلاً عن البنوك السويسرية حول ارصدة أودعت في البنوك بأسماء مسؤولين ومقربين من التيار الوطني الحر هي كالآتي:
جبران باسيل 1.5 مليار دولار.
ميشال عون 1.2 مليار دولار.
شانتال باسيل (زوجة جبران باسيل) 750 مليون دولار.
إبراهيم كنعان 415 مليون دولار.
داني الخوري 350 مليون دولار (وهو صاحب شركة مقرب من جبران باسيل).
إيلي وفادي حنا 300 مليون دولار، وهما شركاء جبران باسيل في شركة Geotechnical Export.
ان نشر مثل هذه المعلومات فيه تحذير مبطن ان العهد والمستفيدين منه غير محصنين، وقد تشملهم العقوبات.
لقد ابلغ الاميركيون قرارهم لرئيس الوزراء سعد الحريري بكل وضوح وصراحة ان العقوبات ستطال الجميع دون استثناء. ويدرك عامة الناس كما يدرك المجتمع الدولي ان لدى جميع السياسيين في لبنان مقاولين ورجال اعمال يتعاونون معهم على نهب خيرات البلد، ويوفرون لهم غطاءاً معنوياً وسياسياً، مقابل “خوات” ونسبة معينة من الارباح.
فلا احد من كبار المستثمرين يحصل على مشروع ضخم في لبنان، دون موافقة المنظومة السياسية التي تتقاسم فيما بينها عمليات نهب البلاد بشكل منظم يحفظ المحاصصة المتوازية بين اعضاء المنظومة الفاسدة.
فما هو المطلوب الآن؟
بين الدولة والدويلة.
تطالب الولايات المتحدة والدول الحليفة السلطة في لبنان ان تحدد خياراتها: هل هي قريبة من ومتعاونة مع الولايات المتحدة ام انها مصممة ان تكون إيرانية “الهوى” وداعمت للمحور الايراني.
كما يطالب المجتمع الدولي ان تلتزم السلطة اللبنانية بتطبيق القرارات الدولية، خاصة 1559 و1701.
ولم تتردد الولايات المتحدة من الاعلان صراحة انها ستفرض حصاراً اقتصادياً على البلدان التابعة للمحور الايراني. وبالنسبة للبنان تحديداً، اما ان يسلم الحزب سلاحه للدولة او ان البلاد ذاهبة الى الافلاس، دون اي شك في ذلك.
فأهل الحكم اليوم يقفون امام خيارين: إما ان يواجهوا الولايات المتحدة، وتتعرض البلاد للانهيار واعمال الشغب، او ان يطالبوا حزب الله بتسليم سلاحه. وهذا ما يفسر تمسك الرئيس الحريري بتأليف حكومة تكنوقراط، يغيب عنها جبران باسيل وحزب الله وسياسيون يميلون الى المحور الايراني.
ويبدو من سلسلة الاجتماعات التي تتراوح مكانها، ومن التسريبات الى وسائل الاعلام ان فريق 8 آذار هو غير قابل للتنازل عن مطالبه، كما يبدو الرئيس الحريري حتى الآن عاجزاً عن اقناع الطرف الآخر بضرورة تقديم التضحيات من اجل انقاذ الوطن، وهو عاجز بالتالي عن تأليف الحكومة المحايدة من خارج المنظومة السياسية، التي يعتقد بعضها ان وجودهم في الحكم يوفر حماية لمصيرهم، ولا يوحي لشباب لبنان الثائر انهم مُنيو بخسارة جديدة، قد تكون قاضية لهم.
وفي محاولة منه لإلتقاط النفس دعا السيد نصر الله في كلمته الاخيرة الا الاحتكام الى القضاء لملاحقة الفاسدين، كما طالب، في رد غير مباشر على الشروط الاميركية، لإفساح المجال للصين لكي تستثمر 100 مليار دولار لإعادة بناء البنى التحتية في لبنان.
فهل تصر الطبقة السياسية على تشكيل حكومة مواجهة الولايات المتحدة التي تتحكم بالنظام النقدي العالمي؟ او ان الرئيس الحريري سينصاع للضغوطات التي يمارسها العهد وحزب الله، ويؤلف حكومة وحدة وطنية مطعمة ببعض التكنوقراط، وهي مرفوضة من الشعب ولا يؤيدها المجتمع الدولي.
ان دعم معالجة “جوهر المشكلة”، اي سلاح حزب الله، سوف يزيد من حدة العقوبات، ويدفع المزيد من المواطنين نحو الشارع. فلبنان اليوم يواجه منعطفاً خطيراً، على السلطة ان تحسن قراءته والتعامل معه.