الأب لويس الفرخ:  على الكنيسة تفعيل دور العلمانيين بعد ان تلاشى دور الجمعيات وتفعيل دور الاكاديميين ورجال الاختصاص

– العالم اليوم هو مهيأ للبدء بتنفيذ مخططات العولمة.

– اليوم  استراليا تقود الانتشار اللبناني لأنها تمتلك مقومات لم تكن متوفرة في بلدان الاغتراب الاخرى

حاوره بيار سمعان

 

الأب لويس الفرخ الرئيس السابق لدير مار شربل والمدير الحالي لمعهد نورث ليبانون كوليدج في شمال لبنان، هو من الشخصيات المميزة التي مرّت على الجالية المارونية في استراليا. قد يعجب المرء بهذا الراهب، او قد يكون له مآخذ عليه!!

لا بأس في كلا الحالتين. فالأب لويس الفرخ يعترف بخطئه عندما يخطئ ويقر بفشله عندما يفشل. وهنا تكمن قوته ومصداقيته وتواضعه وموضوعيته في مقاربة الأمور.

الأمر الآخر والهام لدى الأب الدكتور لويس الفرخ انه، الى جانب ثقافته العالية وخبرته الطويلة وقدراته التحليلية، فهو يتمتع برؤية واضحة ومتكاملة للتطورات العالمية والمحلية، في استراليا ولبنان، ولديه طروحات عملية لمواجهة العولمة ولحسن التعامل مع برنامج الحكومة العالمية التي، حسب اعتقاده، سيبدأ تطبيقه انطلاقاً من عام 2020، بعد ان اوصلت «الحكومة الالكترونية» في الأمم المتحدة، والتي تتحكّم بالمال والاعلام، واوصلت القادة العالميين الى مواقع النفوذ.

فالعالم اليوم هو مهيأ للبدء بتنفيذ مخططات العولمة.

حيال هذه التغيرات الجذرية، يطرح الأب لويس الفرخ استراتيجية مواجهة هذه التحديات ليس فقط للحفاظ على الهوية في استراليا، بل للعب دور نافذ في اتخاذ القرارات، ولحماية المجتمع المسيحي في لبنان، في وجه التبدلات الديموغرافية ومخطّط ترحيل المسيحيين الذي لا يزال ساري المفعول ولو بأساليب غير مباشرة.

التقيت الأب الدكتور لويس الفرخ قبل ساعات من مغادرته استراليا، عائداً الى لبنان واجريت معه الحوار التالي:

– الأب لويس الفرخ، لديك خبرة طويلة في استراليا منذ مطلع الثمانينات. ما هي باعتقادك اهم التبدلات التي شهدتها الجالية منذ ذلك الحين حتى اليوم؟ وما هو تعليقك على هذه التغيرات الاجتماعية؟

– برأيي ان الجالية اللبنانية في استراليا تتزعم اليوم الانتشار. فهي تملك مقومات فعالة غير متوفرة لدى الجاليات الاخرى.

في البداية لعبت الجالية اللبنانية في البرازيل دوراً رائداً، ان كان على مستوى التواصل مع لبنان او على المستوى الثقافي والانتاج الفكري، من اعلام واذاعات وشعراء.

ثم تلت المكسيك البرازيل في القيام بدور طليعي رائد واطلق اللبنانيون منها  الجامعة اللبنانية الثقافية وطرحوا افكاراً عديدة.

اليوم اعتقد ان استراليا تقود الانتشار اللبناني لأنها تمتلك مقومات لم تكن متوفرة في تلك البلدان او سواها.

للجالية الاسترالية الكنائس، والمدارس معظم اللبنانيين في استراليا هم من شمال لبنان من ابناء القرى، ولديهم تعلّق لافت بالكنيسة، وتمسّك بالعادات اللبنانية وبالعائلة، وهذه مزايا معظم ابناء القرى اللبنانية، على عكس ابناء المدن، بشكل عام.

ولعبت الكنيسة في تعزيز هذه العلاقات الاجتماعية من خلال حضورهم ولقاءاتهم في الكنيسة.

الميزة الاخرى الهامة هي قلة المسافات، اذ يمكن خلال وقت قصير البقاء على تواصل مع الكنيسة او المدرسة او لقاء من ترغب بلقائهم من ابناء الجالية. هذه الميزة يفتقدها اللبنانيون في بلاد الانتشار في معظم البلدان حول العالم.

ويجب ان اذكر هنا ان اللبنانيين في دول اميركا اللاتينية استعاضوا عن الكنيسة بفعل الانظمة اليسارية او الشيوعية التي كانت تدير معظم البلدان ولا تدعم بناء الكنائس، ببناء وانشاء نوادِ لبنانية . ففي دول اميركا اللاتينية نجد مئات النوادي اللبنانية والراقية، بينما نجح اللبنانيون الموارنة والمسيحيون عامة ببناء الكنائس والمدارس في استراليا لأن النظام التعددي المعتمد فيها شجع على ذلك.

فالمطلوب هو الحفاظ على الوجود والمؤسسات لأنها قيمة مضافة في النظام المتعدد الثقافات وتساعد على استمرار الروابط مع الوطن الأم.

وعودة الى سؤالنا الأساسي حول التطورات. اود ان اشير ان الجالية في الثمانينات كان لديها قضية هامة خلال الحرب اللبنانية تتعلق بالوجود والتهجير والحماية الذاتية.

كل اللبنانيين كانوا معنيين بما يجري على ارض الوطن، وكان لدينا الحماس والالتزام. كما كان لدينا جمعيات ناشطة وفاعلة تمكنت من تنظيم اوضاع ابناء القرى والبلدات، اشتروا مراكز لهم وساهموا بمساعدة اهاليهم واقاربهم والمحتاجين في الوطن.

اليوم يبدو ان هذه القضية قد اضمحلت او تعدلت. وهذا انعكس على عمل الجمعيات الفعالة سابقاً. هناك احزاب، لكنها فقدت بريقها بعد ان غابت القضية الوطنية الاساسية.

اليوم الكنيسة هي من يلعب دور القائد وامتلكت الادوار التي كانت تقوم بها المؤسسات والجمعيات الاخرى.

وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً حول دور الكنيسة في استراليا، الى اين وما هي التوجهات الكبرى التي تقود الكنيسة الموارنة من خلالها؟

على الكنيسة ان تعيد تفعيل دور العلمانيين، بعد ان تلاشى دور الجمعيات الى حدٍ كبير، على ان يتم ذلك من خلال تفعيل دور الأكاديميين ورجال الاختصاص، ومن منطلقات جديدة مبنية على الثقافة والخبرة والمهارات المتخصصة.

– لكن ابونا، كما تعلم نحن كجالية محافظة ومتماسكة نواجه تحديات عديدة وكبيرة، تحديات داخلية، كما نشهد من تعديل القوانين، وخارجية من جراء محاولة فرض نظام عالمي جديد!!

– كما تعلم، العولمة اصبحت امراً واقعاً، وفي سنة 2020 سيبدأ تنفيذ القرارات لفرض العولمة (حكومة عالمية) بعد ان فرض قادة ملتزمين بهذا البرنامج في مواقع القيادة وعلى رأس الحكومات المحلية.

وهذا امر متفق عليه، حتى ان قداسة البابا لديه مسؤولين وممثلين يعقدون اجتماعات مع المئات من المسؤولين الدوليين لوضع القوانين والقرارات الملائمة لتطبيقها في العالم. لأن هذه الجماعة التي يطلق عليها تسمية «الحكومة الالكترونية» تعمل تحت غطاء الأمم المتحدة. هذه المجموعة تسيطر على المال في العالم، وعلى القرار السياسي بعد ان اوصلوا رؤساء الجمهوريات والوزارات وغيرهم… كما يمتلك هؤلاء وسائل الاعلام في العالم.

من خلال هذا الاقنوم الثلاثي، بمقدورهم السيطرة على العالم مع دعم واضح من وسائل الاعلام. فبالمال والاعلام والقيادات والتعليم، لن يقدر احد على مواجهتهم وتعطيل استراتيجياتهم الأممية قطعاً.

فالعولمة تشكل بالواقع تحدٍ كبير للعالم بأسره، كما انها تشكّل تحدياً لنا نحن الشرقيين، لأننا لا نزال شعب محافظ، متعصب لقيمنا الدينية والثقافية اكثر من الآخرين.

لذا فرضت علينا اعلامياً وسياسياً صفات التعصب والتطرف الديني.

لمواجهة هذا التعصب الديني لدى المسلمين، جرى خلق داعش (ISIS) لتهجير وقتل  المسلمين والأقليات، لهذا فتحت اوروبا ابوابها لللاجئين الشرق اوسطيين، لأن اوروبا تحتاج الى اليد العاملة وللمزيد من المستهلكين. انها بحاجة الى ثقافة تنجب المزيد من الاطفال، بعد ان انخفضت مستويات الولادة لديها.

هذه الامواج من اللاجئين سوف تشجع رويداً الاقتصاد الاوروبي من خلال الانتاج والاستهلاك. وآخر ما يهتم به القادة الاوروبيون هو الأصول العرقية او الانتماءات الدينية. هذا غير مهم في سلم اولوياتهم، لأن الجميع، في آخر المطاف، سوف يتأقلمون ويرغمون على التكيّف والتماهي بالثقافة السائدة  وبالآخرين.. «مين ما كنت تكون، بدك تمشي بالصف».

– لكن الديمغرافية هي هامة بالنسبة للبنان والشرق الاوسط؟

– هذا صحيح، في لبنان، انشغل المسيحيون بمسألة المواطنة والانتماء الى وطن نهائي اسمه لبنان. بينما الصراع السني – الشيعي كان يعمل سراً على الديمغرافيا، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة. لأن كل فريق سعى الى تثبيت وجوده السياسي من خلال الديمغرافيا.

ولا ينكر احد ان السنّة في لبنان استفادوا من تهجير الفلسطينيين والسوريين للحفاظ على التفوّق العددي لديهم.

اما المجموعات المسيحية، فلم تبال للديمغرافيا ولم نعمل بجد للحفاظ على الوجود العددي. عدم الاستقرار والازمات الاقتصادية المستمرة لم تشجع الشبيبة على الزواج، وان فعلوا ذلك، فهم يحددون مسبقاً عدد الاطفال وحجم العائلة لديهم.

وهنا تكمن الخطورة. هناك الهجرة الداخلية (من القرى الى المدن، بحثاً عن العمل)، والهجرة الخارجية المتفاقمة. وهذا سينعكس على الدعوات الكهنوتية والرهبانية.

الكنيسة الكاثوليكية في العالم تعاني اليوم من قلة الدعوات. معظم الكهنة الذين يخدمون المؤمنين في اوروبا والولايات المتحدة واستراليا هم اصلاً من الفيليبين او الهند او افريقيا او من الصين… هؤلاء هم في آخر المطاف اغراب عن الحضارة الغربية، ويعجزون عن حسن التواصل مع المؤمنين، وتبقى علاقتهم محدودة ومبدئية.

– ما الذي يجعل الكنيسة المارونية في استراليا، وبالتحديد رعية مار شربل اكثر حيوية وفعالية؟

– استتباعاً لما ذكرت ، يجب الا نلقى نفس المصير كالكنيسة الكاثوليكية وان يكون لدينا خطة مسبقة، ابتداءً من العمل على الديمغرافية قدر المستطاع لكي نحافظ على الدعوات الكهنوتية داخل كنيستنا.

فالمطلوبة من الكنيسة ورجال الدين وضع استراتيجية لمساعدة العائلات في قطاعات التعليم والطبابة.اننا نخشى ان نفتقر يوماً ما للدعوات الكهنوتية، ونرغم للتفتيش عن التدابير والاستعانة بالدعوات الخارجية او اعتماد انماط عمل جديدة لخدمة المؤمنين.

دعنى اشرح لماذا رعية مار شربل في سدني هي من انشط الرعايا في سدني وبلاد الانتشار وربما في العالم؟

يعود اولاً الفضل الى مار شربل الذي تحمل هذه الرعية اسمه. انه قديس لبنان في العالم. وهو يجذب المؤمنين المشرقيين وغير المشرقيين. ويتبلور ذلك خلال المناسبات وكل 22 من الشهر، على مدار السنة.

– العامل الآخر هو وجود الدير على مقربة من الكنيسة مع حضور رهباني على مدار ساعات النهار.

ونحن كرهبان نعيش حالة من الاستنفار الدائم للخدمة والقداديس ولجميع الالتزامات الدينية، بالاضافة الى زيارة المرضى والتواصل مع الناس في مشاكلهم.

العامل الثالث والمهم هو ان اغلبية الرهبان هم من لبنان وعلى معرفة مباشرة باللبنانيين: نعرف عائلاتهم وقراهم ونتفاعل مباشرةً معهم. فمن يأتي الى كنيسة او الى دير مار شربل، يشعر انه يدخل منزله. روح التواصل مع المؤمنين هي من الأمور الهامة، لذا نعتبر، كما يعتبر الموارنة ان «هذا البيت هو بيتهم».

هذه الدينامية يفتقر اليها سائر الرعايا في استراليا، رغم ضخامة عدد المؤمنين فيها.

– حسناً لنعد الآن الى سؤالنا الجوهري حول مواجهة التطورات والتغييرات . كيف واجهت او ستواجه الكنيسة هذه التبدلات؟ خاصة انها لن تأخذ بعين الاعتبار الفروقات الدينية او الثقافية، خاصة لدى الأقليات.

فالمساواة بين الناس قد تلغي الفروقات وتنهي التعددية الثقافية.. فنحن كموارنة في استراليا ولبنان، هل نجحنا في مواجهة هذه التبدلات؟ وما يجب علينا الالتزام به كتدابير وقائية؟

– تطرقت في بداية حديثي الى الدور الذي لعبناه مع بداية الحرب. وكيف ساعدنا على تعزيز دور الجمعيات لمساعدة لبنان واللبنانيين، بعد ان جمعتنا القضية اللبنانية، وساعدتنا لتعزيز وجودنا في هذا البلد.

للأسف، مع غياب القضية المشتركة تناقص دور الجمعيات، خاصة بعد ان تسلم الجيل الثاني ادارتها، رغم ان بعضها يمتلك بيتاً اومراكز.

وانا سعيت في الثمانينات الىانشاء نادي لبناني يجمع كل الجمعيات ويتحول بيتاً للجميع. واقترحت ان تبيع الجمعيات ما تملكه من منازل وعقارات وتشتري اسهماً في «النادي اللبناني»، ويكون لها مكتباً او قاعة لاجتماع اعضائها.

فالنادي اللبناني يمنح الجالية حضوراً حقيقياً معنوياً ومادياً.

واتذكر جيداً ان رئيس الحكومة آنذاك باري انزوورث قدم لنا 500 الف دولار وقطعة ارض لبناء النادي اللبناني في منطقة غرينايكر، لكن بعض المسؤولين في الطائفة مانعوا هذا الطرح «وفرط المشروع».

الآن، وبعد ان غابت القضية، فرطت معظم الجمعيات، اخذت الكنيسة مجدداً دورها الريادي في قيادة الجالية.

هذا الواقع الجديد يضع الكنيسة امام التحديات المذكورة سابقاً.

الكنيسة، بموجب التغييرات التي ستطبق ابتداءً من عام 2020 فهي مستهدفة من قبل مشاريع القوانين المطروحة على مستوى الولايات وعلى المستوى الفيدرالي.

المفوضية الملكية للتحقيق في الفساد تفرض علينا رسوماً لتقوم بحملات تفتيش وتحقيق في الادارة المالية لمؤسساتنا، على سبيل المثال. وفي حال وجود اي خلل  نرغم على دفع الغرامات بالمقابل.

يعني ذلك ان الكنيسة اصبحت اليوم عاجزة عن لعب دورها القيادي، لأنها مستهدفة مباشرة. ويجب عليها بالتالي ان تمنح العلمانيين دوراً متقدماً، لأن لديهم فسحة واسعة من الحرية ليقولوا ما يشاؤون ويعلنوا ما يرغبون به، عملاً بمبدأ حرية الرأي والحرية الاعلامية وحرية التحرّك، وهذه امور مشروعة يضمنها القانون، بينما الكنيسة اليوم قد تكون شبه عاجزة عن القيام بذلك. لذا اتمنى على المسؤولين ان يمنحوادوراً اكبر ومساحة اوسع للعلمانيين، لأن لديهم فسحة اوسع من حرية التحرّك.

– كما ذكرتم لدينا العديد من المؤسسات من كنائس ومدارس ومراكز خدمات اجتماعية، وغيرها. كيف يمكن تفعيل هذه المؤسسات لخدمة المواطنين ولمواجهة التحديات المستقبلية؟

– اقترحت العام الماضي على سيادة المطران طربيه ان يكون لدينا في كل رعية مركزاً لحضانة الاطفال، لأن السنوات الاولى في حياة اي طفل هي مصيرية وترسم معالم شخصيته المستقبلية. على ان يلي ذلك مدرسة. لأن قوة الجالية تقوم على ثلاث ركائز: الكنيسة، المدرسة والعائلة وهي من ركائز قوة الجالية في استراليا.

وهذا ما خططت شخصياً لتحقيقه في رعية مار شربل. اضف الى ذلك انني اعددت دراسات مطولة لانشاء جامعة مارونية، لأنه عملاً بالقوانين الاسترالية يحق لنا اقامة جامعة مارونية، نظراً لحجم الموارنة في استراليا.

وضعت تصاميم لبناء مكاتب الجامعة فوق ساحة موقف السيارات، على ان تتحول قاعات المدرسة، بعد ساعات الدوام، الى قاعات الدراسة الجامعية.

هكذا يبدأ ابناء الرعية لدينا في مركز رعاية الاطفال، ثم ينتقلوا الى المدرسة، فالجامعة. وبعد مرور حوالي 23 عاماً من الدراسة، يمكننا تخريج جيل جديد موصوم بمارونيته ومبادئه الاخلاقية جيل يتقن الانكليزية والعربية، محافظ على هويته، متمايز في شخصيته وثقافته. جيل من المثقفين المتخصصين لديهم القدرة علىان يتركوا بصماتهم في المجتمع الاسترالي. على سبيل المثال سيكون هناك فريق  من المحامين، يتحدثون العربية، مطلعون على تاريخ وتقاليد مجتمعنا. فأي مشكلة سيواجهها مواطن لبناني او عربي، سيكون لهم الافضلية، بسبب فهم اللغة ومعرفة العادات. وهذه قيمة مضافة.

العنصر الايجابي الآخر، هو هذه الجامعة ستصبح قادرة على اجراء ابحاث ودراسات علمية وموضوعية، وتفرض آراءها وتوصياتها على صانعي القرار في البلاد.

هكذا نحافظ على هويتنا المتمايزة وعلى وجودنا العريق، رغم تهديدات العولمة التي قد تفاجئ الجميع، لأننا غير مهيئين للتعامل معها. سنلتزم بالقوانين دون ان نخسر هويتنا المميزة ولوننا الخاص.

– استراتيجيات مواجهة التحديات. بنظرك ما هي الاستراتيجية المثالية للتعامل مع التبدلات الكبرى؟

– هذا هو العنوان الرئيسي الذي يجب ان يكون عنوان تحركنا مستقبلاً : استراتيجيات مواجهة التحديات. الأمر الاول الضروري هو خلق حالة من الوعي لما يحدث في العالم. بالتعليم نحافظ على الميزات الثقافية والصورة الفريدة للجالية. وهذا يتطلب ان تقوم الكنيسة باطلاق وقيادة حملة التوعية. الوعي السياسي، والوعي الاجتماعي والوعي الايماني. الوعي على مختلف الاصعدة. التبشير والوعظ هما ضروريات، لكن يجب مرافقتهما بزيادة الوعي لمكامن الخطورة ولكيفية التعامل مع مختلف الظروف والصعوبات.

يجب علينا ان نحدث تغييراً في مواقفنا، بناءً على زيادة الوعي لدينا. لذا تحتاج الكنيسة الىالمزيد من المرشدين الاختصاصيين. فالروحانية ليست ناتجة فقط عن الصلوات، بل عن المواقف البناءة والصالحة: كيف نحب ونغفر ونساعد ونضحي… الوعظ يخلق المناخ الايجابي لكن ان نقوم بذلك فهو نتاج الوعي والمواقف الملائمة.

هذا ما حاولت تحقيقه في رعية مار شربل، خاصة مع الشبيبة، لكنني فشلت للأسف . لأن شبيبتنا تولي الأهمية القصوى للروحانيات والصلوات والزياحات، وهذه امور مستحسنة، لكن يجب الا نتناسى اننا نعيش في مجتمع متعدد وملحد. وعلينا التعامل معه بإيجابية. وهذا يعيدنا الى الوصفة الأساسية اي الوعي والمعرفة وتغيير  المواقف حيال ما يجري معنا او يدور حولنا، وهذا يجعلنا كاملين اكثر.

حاولت ان ابعد شبيبتنا عن شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الأباحية، عن طريق تعليمهم مهارات اضافية ترافقهم مدى الحياة.

– دعني اكون سلبياً في سؤالي. اين قصّرت الكنيسة المارونية في واجباتها؟

– يجب ان اؤكد اولاً ان الكنيسة المارونية في استراليا ككهنة ومرسلين، هم الأكثر انشغالاً في العالم. ليس لدينا الوقت ان نفكر ونخطط لكثرة انشغالاتنا. قداديس، وجنازات، وعمادات، ودفن بالاضافة الى زيارة المرضى ومشحهم ومتابعة بعض الحالات الاجتماعية الطارئة.

بصراحة الكهنة يعيشون حالة من الاستنفار العام والاستعداد الدائم لتلبية الطلبات الطارئة. ولا انكر انه عندما جرى تعييني رئيساً للدير، كنت مصمماً على احداث تغيير ما في استراتيجية عملنا كرعية وكطائفة. كنت مهيئاً للقيام بذلك نظراً لخبرتي السابقة ولثقافتي والدراسات العديدة الملائمة. وكان لديّ القناعة انني قادر على احداث فروقات، لأنني اعرف جيداً الجالية ولديّ خبرة دولية في العلاقات الاجتماعية، كما لديّ تواصل ومعرفة بأصحاب القرار.

لكني لم انجح في هذه المهمة بسبب التضارب في المواقف ومستويات المعرفة. لكنني استفدت من وجود المدرسة لأدعم فكرة هامة لدى الطلاب تقوم على عدم الاكتفاء بحفظ البرامج الدراسية والالتزام بالمناهج التعليمية، بل شجعتهم على اكتساب مهارات اضافية، خارج المنهج، وهي مهارات تبقى معهم مدى الحياة. وافضل مثال على ذلك النظام التعليمي في اليابان المبني على حسن التواصل مع الآخرين وحسن التدبير والاكتفاء الذاتي.

فالنظام الياباني والسويسري مبنيان على متطلبات الحياة اليومية، وحسن التكيّف معها. وهذا ما يدوم لدى الانسان، الى جانب تكديس المعرفة والعلوم.

للأسف فشلت مع الشبيبة، ولم انجح ما فيه الكفاية في المدرسة. كذلك عجزت عن تمرير هذه الافكار الى الرعايا الاخرى، بسبب انشغالات الكهنة الفائقة لقدراتهم الشخصية، ولغياب الاهتمام بالطروحات الاستراتيجية لمعالجة التحديات المستقبلية وحسن التعامل معها.

– اذا كانت الكنيسة منهكة بالواجبات اليومية والالتزامات الرعوية، فلماذا لا يعمد الكهنة الى منح العلمانية بعض الصلاحيات لمؤازرتهم في المسؤوليات الرعوية والاجتماعية؟

– هذا صحيح. وسعيت خلال مدة تولي مسؤولية رعية مار شربل ان امنح العلمانيين دوراً يلعبونه لمؤازرة الرهبان، خاصة في الأمور العامة، المواطن العلماني الاخصائي ليس لديه نفس المخاوف، فإن كان محامياً، يقول انني اقوم بعملي، كذلك الطبيب والمهندس وغيرهما…

لذا اتمنى اليوم ان يمنح العلمانيين. كل حسب اختصاصه، المزيد من الصلاحيات القيادية لمؤازرة الكنيسة «المكبلة» والمستهدفة.

رجال الاختصاص بمقدورهم تحقيق الكثير لصالح الكنيسة ونيابة عنها، ويبقون بمنأى من اية ملاحقة قانونية وهذا يمنحهم القدرة ليكونوا منظمين اكثر وفعالين ومثقفين ملتزمين بهويتهم المارونية.

انهم ينتمون الى نفس المجالات والقطاعات التخصصية، مما يؤهلهم للتعاون والتفاهم فيما بينهم بسهولة لمعالجة اية مشكلة تواجهها الكنيسة.

يجب ان نخرج من منطق الضيع والجمعيات الى منطق الاحتراف والكفاءة والتواصل المبني على الانسجام في مجالات التخصص، وهذا يؤهلنا للتواصل مع مجموعات اخرى من الاخصائيين داخل المجتمع الاسترالي.

فالقرارات التي يتخذها على سبيل المثال المحامون  الموارنة، يمكن ان يعملوا على تدعيمها اصدقاءهم في القطاع القانوني. بذلك نتحول الى طاقة مؤثرة في القرار السياسي.

باعتقادي علينا ان نفسح المجال امام رجال الاختصاص ان يلعبوا دوراً نافذاً في الكنيسة تحت اشراف المسؤولين، دون وضع حدود لاختصاصاتهم او تحويلها الى الاستفادة الشخصية. هكذا ننتقل من مفهوم الجالية الى مفهوم القوى المتخصصة المؤثرة والفاعلة في المجتمع ككل. والمشاركة في القرار السياسي.

– ذكرت في بداية الحديث ان الجمعيات كانت ناشطة خلال الحرب لأنه كان لدينا قضية.. ما هي قضية الموارنة الآن برأيك؟ وهل ما زال لدينا قضية توحدنا؟

– قضيتنا اليوم هي في القدرة على حفاظنا على تراثنا العريق رغم موجة «الأممية». استراليا ترغب وتشجع ان تحافظ الجاليات على ثقافتها وتنوعها.

ويجب علينا ان نتمتع بالوعي لنتمكن من حماية انفسنا وتمايزنا عبر التأثير على القرار السياسي. ان لم نكن موجودين في القرار، سوف تسن قوانين ليست لصالحنا، ابتداءً من دق الجرس الى الحريات الدينية.

الجميع يدرك اننا شعب مجاهد ونشيط ويسعى للإثراء، دون ان نهتم بالقرار السياسي. تصوروا عندما يصدر فيه قرار يحول المجتمع الاسترالي الى مجتمع غير نقدي (Casheless Society) فماذا سيكون مصير اثرياء الجالية ؟ قرار واحد هو قادر على إلغاء العديد من المؤثرين مالياً داخل الجالية.

لذا علينا ان نساهم في وضع القرارات من اجل حماية انفسنا.

والى جانب رجال الاختصاص علينا ان نشجع ابناءنا للإنخراط في العمل السياسي والاحزاب الكبرى.

ونحن كجالية لدينا العديد من المقومات  التعليمية والاخلاقية والثقافية ان نفيد المجتمع الاسترالي دون ان نفرط بتمايزنا ومعتقداتنا. وان نجحنا هنا، بمقدور رجال الاختصاص الانطلاق الى الخارج والتواصل مع الانتشار اللبناني حول العالم، مثل اقامة اتحاد المحامين اللبنانيين في العالم، او اتحاد الاطباء اللبنانيين.

والانتشار اللبناني يساعد على تحقيق ذلك ونكون قد خلقنا تيارات داخلية قادرة على مواجهة التحديات الخارجية وتحافظ على الارتباط بالوطن الأم بشكل عقلاني وليس عاطفي تقضي عليه الازمات والمحن.

هذا غيض من فيض  نتمنى للأب لويس الفرخ نجاحه في ادارة مدرسة نورث ليبانون كوليدج، على امل التواصل معه لخير الجالية ولبنان.