بقلم بيار سمعان

نادراً ما تجري مظاهرات في استراليا، كون النظام المعتمد فيها يوفر معظم الضمانات  التي تساعد على الاستقرار الاجتماعي. من مساعدات البطالة عن العمل الى اعالات الاطفال والطلاب، ومساعدة النساء المنفردات، وتعويضات التقاعد او الاصابة خلال العمل، الى جانب توفير الخدمات الصحية ورعاية الاطفال وذوي الحاجات الخاصة، والاسكان المخفض لذوي الدخل المحدود، وغيرها من الخدمات الاجتماعية، جميعها تقدم للمواطن الاسترالي الحد الادنى من الاستقرار لكي لا يتجه الى الشارع ويتظاهر للمطالبة بحقوق يفتقر اليها.

معظم المظاهرات التي شهدتها شوارع العواصم الاسترالية، غالباً ما تكون بدعوة من نقابات العمال للمطالبة برفع الأجور، او تلبية لنداءات الاحزاب اليسارية والمجموعات المتطرفة، كان آخرها، تظاهر مجموعات “النباتيين” الذين يطالبون بوقف ذبح المواشي، لأن هذه الممارسات حسب اعتقادهم، هي وحشية وغير انسانية، ويريدون ان يصبح المجتمع الاسترالي “نباتياً” في نمط غذائه، وان يتوقف عن استهلاك اللحوم. وهذا مطالب، بنظر الاغلبية الساحقة، متطرفة وغير معقولة، وتؤذي الاقتصاد العام في البلاد، مما دفع حكومة سكوت موريسون الى سن قوانين جديد لمواجهة هذه المجموعات الاصولية التي هاجمت بعض المزارع، واعتدت على المزارعين وعائلاتهم، وقطعت الطرقات العامة في كوينزلاند، بحجة ان القانون يحفظ حرية التظاهر.

  • مظاهرة دعماً للحياة

مجموعات “النباتيين” لم يعترضوا بالمقابل  او يتظاهروا ويقطعوا الطرقات ضد القوانين التي تبيح الاجهاض وتسمح بقتل الجنين، حتى قبل ولادته بساعات اوعلى اساس اختيار جنس الطفل.

لكن، وللمرة الاولى في استراليا، اجتمع الاحد الماضي الآلاف من المواطنين في حديقة الهايد بارك، في وسط مدينة سدني ليعبروا عن معارضتهم لقانون “عدم تجريم الاجهاض” الذي اقره برلمان ولاية نيو ساوث ويلز، وينتظر ان يبت به المجلس التشريعي في الولاية، يوافق عليه او يعدله؟

اللافت في مظاهرة امس انها جمعت عشرات الآلاف من المواطنين وعدد ضخم من رجال الدين والسياسة والناشطين المناهضين للإجهاض. متظاهرون من مختلف مناطق سدني، ينتمون الى طبقات اجتماعية متعددة، والى ديانات ومذاهب مختلفة، اتحدوا بعد ان جمعتهم قضية واحدة، لا علاقة لها بالوضع الاقتصادي، او برفع الأجور، او بالطروحات العقائدية المتطرفة…

  • مظاهرة من نوع جديد

يمكن بالواقع تصنيف هذه المظاهرة المناهضة للاجهاض انها ضربت الكثير من المفاهيم السائدة التي تدعي ان المجتمع الاسترالي خمول ويرفض  النزول الى الشارع.

فمظاهرة يوم الأحد لم تأت صدفة. فلها جذور اعمق واكثر دلالة مما يروج له “انهم مجموعة من المحافظين التقليديين ذات الطابع اليميني المتطرفة. الأصح ان ما جرى خلال نهاية الاسبوع يكرس فكراً يمثل الاغلبية الصامتة في البلاد، والتي تشعر ان رجال السياسة والقائمين على ادارة الشأن العام قد تخطوا الخطوط الحمر.

ولكي نفهم اكثر ما جرى امس، يجب العودة الى الاستفتاء البريدي الذي نفذه رئيس الوزراء السابق مالكولم تيرنبل، بالتعاون مع حزب العمال وحزب الخضر وانصار المثليين داخل حزب الاحرار.

خلال هذا الاستفتاء المشبوه والمشكوك بموضوعيته ومصداقيته، احس العديد من الاستراليين ان قادة البلاد يأخذون المجتمع الاسترالي باتجاهات تتعارض مع توجهات وقناعات المواطنين بشكل عام.

ومع مرور الوقت، منذ العام الماضي حتى اليوم، اصبح لدى “الاغلبية الساحقة” ومن ضمنهم اناس أيدوا زواج المثليين، تحت شعار المساواة وحرية العلاقات الجنسية، قناعات شبه مؤكدة، ان تشريع زواج المثليين هو مجرّد حلقة من خطة متكاملة، لإحداث تبدلات اجتماعية اساسية داخل المجتمع، تطال الحريات الدينية، والنظام التعليمي، وتحديد هوية المواطن وتبيح “القتل الرحيم”، وتختلق الملفات والإتهامات للأشخاص الذين يعترضون على هذه التغييرات غير الطبيعية، كما حدث مع الكاردينال جورج پيل وسواه من القادة المتمسكين بالمبادئ الدينية والقيم الاخلاقية.

الأمر الآخر اللافت هو الالتزام الجدي لدى المجموعات التي تظاهرت يوم الأحد الماضي. فخلال المظاهرة الاولى منذ شهر تقريباً. شارك حوالي عشرة آلاف شخص فيها، لكن بالأمس ، تضاعف العدد. وتعهد الحاضرون، كما ردد برنابي جويس في كلمته وكرّر الحاضرون معه، انهم لن ينسوا موقف نواب وحكومة الولاية الذين اقروا في البرلمان قانون “قتل الأطفال” في استراليا.

الصفة الاخرى اللافتة هو التنوّع لدى المشاركين. انهم مواطنون من مختلف المناطق في سيدني، ينتمون الى كل الطوائف والمكونات الاجتماعية. امهات ورجال، اطفال واخصائيين، رجال سياسة ومسؤولين… تنوع يعكس التعددية الثقافية والدينية والاغلبية الصامتة التي تجاهل قراراتها وميولها والتزاماتها رجال السياسة في استراليا، وفي اكثر من مناسبة.

جاؤوا بالأمس ليقولوا لهؤلاء : كفى.. نحن نقرّر ما نريد، ولا يمكنكم تشريع ما لا نرغب به. وان الحياة هي اهم من التشريعات التي لا تحترم علة وجود الانسان، منذ المراحل الاولى للتكوين الجنيني، حتى الشيخوخة فكرامة الانسان هي اولوية بالنسبة لنا، ولن نسمح لكم بعد اليوم ان تفرضوا توجهاتكم المشبوهة علينا وعلى ابنائنا.

لذا تعتبر مظاهرة الأحد برأيي، انطلاقة لمرحلة جديدة من الوعي السياسي، والتي لعب فيها الموارنة وسائر الكنائس المشرقية بالتعاون مع المسلمين اللبنانيين دوراً لافتاً، قد يؤسس لمرحلة هامة في تاريخ العمل السياسي في استراليا.

وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء السابق طوني آبوت عندما اعلن في كلمته للمتظاهرين، انتقاده لسياسة حكومة غلاديس بريجيكليان الاحرارية بسبب دعمها لمشروع قانون الاجهاض.

وقال آبوت ان مشروع قانون عدم تجريم الاجهاض في نيو ساوث ويلز سيؤدي الى قتل الاطفال عند الطلب، وان رخصة الاجهاض الاختياري على اساس الجنس هو رخصة لقتل الجنين في مراحل متأخرة من الحمل… انه قتل فعلي عند الطلب.

وذكر آبوت انه “رجل حر” منذ خسارته لمقعده في انتخابات ايار الماضي. وباعتقادي، جاء التصفيق الحاد له ليعكس مشاعر المواطنين انهم هم ايضاً احرار في قراراتهم، ولم يعودوا مرغمين على الالتزام بقرارات الاحزاب ورجال السياسة، ولهم كل الحق ان يرفعوا اصواتهم عالياً للاعتراض على اي قرار سياسي لا يتلاءم مع تمنياتهم ووجهة نظرهم للقضايا والتشريعات المطروحة.

فالمطلوب رعاية الاطفال وحماية النساء وليس قتل الأجنة والمخاطرة بحياة الحوامل. لذا قال آبوت: لم يكن احد اكثر فرحاً مما كنت عليه عندما اعيد انتخاب حكومة بريجيكليان . لكن ما يتوقعه هو ان تقوم الحكومة ببناء الطرقات وايجاد مدارس جيدة، ومستشفيات تلبي حاجات المواطنين، ودعم الشرطة وتوفير ادارة جيدة للولاية.

لكن اسوأ ما قامت به الحكومة في مطلع عهدها هو اقرار مشروع قانون اجهاض، هو الأكثر تطرفاً في البلد، على غرار قانون كوينزلاند وفيكتوريا، مع حد ادنى هو 24 شهراً في الولايتين. وهذا امر معيب من حكومة احرارية.

بدوره، شبه زعيم الحزب الوطني السابق برنابي جويس هذا القانون بتجارة العبيد في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة. وقال: أُفضل ان اقف في صفوف المعترضين معكم، بدل ان اعيش في الهوة كإنسان جبان وان اكون اقل انسانية.

وبدوره تعهد زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي فريد نايل، وهو عضو فاعل في المجلس التشريعي، العمل على إلغاء مشروع القانون كونه رخصة للقتل، الشعار الذي كرره النائب الاحراري كيفن كونولي الذي وصف مشروع القانون بالوحشي وغير الانساني، ويجب التراجع عنه. واكد ان افضل رد صحيح للبرلمان هو بالتخلي عنه بالكامل.

  • حكومة بريجيكليان في مأزق

منذ اقرار  مشروع قانون عدم تجريم الاجهاض في برلمان الولاية، واجهت غلاديس بريجيكليان موجة انتقادات من داخل الحزب ومن خارجه، كما واجهت ضغوطات ضخمة من مسؤولين وقيادات دينية، جرى ترجمتها في مظاهرتين حاشدتين. وهذا ما دفع رئيسة الحكومة الطلب الى المجلس التشريعي بضرورة التمهّل في اصدار قراره النهائي حول القوانين الجديدة. لذا تعتبر مظاهرة يوم الأحد تهديداً اخيراً للحكومة وللبرلمانيين في الولاية. كما تعتبر رسالة غير مباشرة للمجموعات الالحادية التي عملت ما في وسعها لتشريع زواج المثليين ولتعديل البرامج التعليمية، بحجة خلق مدارس آمنة للأقليات ذات الميول المثلية، الحاضرة والمستقبلة. انها رسالة صارخة في وجه مَن يسعون الى تغيير الوجه الثقافي والاخلاقي والإرث الديني الذي يقوم عليه النظام في استراليا.

نتيجة لهذه المعطيات  مجتمعة، يستبعد ان يقر المجلس التشيعي مشروع القانون كما هو معروض عليه الآن.

ومن المحتمل ادراج 10 تعديلات عليه يجري مناقشتها في البرلمان، ومن ضمنها خفض مدة السماح بالاجهاض من 22 اسبوعاً الى 20 اسبوعاً اذا كان الأمر ضرورياً لانقاذ حياة الأم او حياة طفل آخر لم يولد بعد ( في حال وجود توأم) على ان يبني الطبيب قراره على ادلة مقنعة وعقلانية.

كما يجب ان يكون مستوى المخاطر على سلامة الوالدة اكبر من المخاطر التي قد تواجهها نتيجة لعملية الاجهاض.

  • التشريع الحالي هو تشريع الرعب

ان مشروع القانون الذي وافق عليه البرلمان بأكثرية 59 مقابل 31 معارضاً، لا يرتبط النص القانوني فيه بأية معايير صحية، رغم انه اطلق عليه تسمية مضللة هي: مشروع قانون اصلاح الرعاية الصحية الانجابية.

فهناك سلسلة من الفظائع الاخرى التي تنتج عن هذه التشريعات الفرضية، واهمها:

– عدم وجود اية ضمانات ان يترك الطفل المجهض ليموت في حال انزل حياً.

– لا يوجد اي حظر على بيع اعضاء جسم الأجنة او الانسجة البشرية، بعد الاجهاض.

– لا يوجد اي قيد لأي نوع ضد تحسين النسل، اي الاجهاض بسبب الاعاقة، او اية خصائص اخرى مزعومة.

– ولا يوجد حظر على استخدام الاجهاض لاختيار جنس الجنين.

ويتجاهل مشروع القانون وصحة المرأة او الفتاة خلال عملية الاجهاض وآثارها  النفسية عليها في مراحل لاحقة. كما انه يتجاهل رأيها وقرارها النهائي في هذه المسألة الحيوية. والقانون يذكر  كلمة “الشخص الحامل” ويتجاهل ذكر “المرأة”، وكأنها تحولت الى مجرد آداة للإنجاب او الاجهاض.

ان مظاهرة الأحد قد تضع حداً للاستهتار بمشاعر الناس وللطروحات الفاشية التي تفرض على المواطنين.

فهل ستتحول مناطق غرب سيدني التي اعترضت على تشريع زواج المثليين  الى قوة سياسية ستؤثر ليس فقط على القرارات السياسية مستقبلاً، بل في المعايير التي يجب على المجتمع الاسترالي ان يعتمدها لاختيار ممثليه في البرلمان الفيدرالي، كما في برلمان الولاية.

واذا نجحت نيو ساوث ويلز في اعادة هندسة قوانين الاجهاض، فهل ستنتقل العدوى الى الولايات الاخرى؟

لننتظر ونر

مَن يدري؟ ربما ستؤدي هذه المظاهرة الى الإطاحة بحكومة بريجيكليان التي اظهرت استخفافاً في قراءة ردود فعل المواطنين؟

pierre@eltelegraph.com