بقلم بيار سمعان

احد الطلبة الجامعيين في قسم الكيمياء في جامعة بانسلفانيا يتذكر جيداً رئيس القسم البروفسور شارلز برايس عندما اخبره عام 1960 انه رئيس الاتحاد الفيدرالي في الأمم المتحدة.

وعندما سأل الطالب عن هدف هذا الاتحاد، اجاب البروفسور انهم يؤمنون بضرورة اقامة حكومة عالمية واحدة منبثقة عن الأمم المتحدة.

الانطباع السائد آنذاك ان الأمم المتحدة كانت تسعى للسلام وعمل الخير، من خلال الضغط على المجتمع الدولي ولتثبت الأمن ومساعدة الشعوب الفقيرة ومكافحة العنصرية، وفرض العدالة في العالم…

لكن قبل الانطلاق في تفاصيل الحكومة العالمية واهدافها وآثارها المستقبلية على البشرية، لنبدأ اولاً باستعراض خلفيات انشاء الأمم المتحدة.

– نشأة الأمم المتحدة

في شباط فبراير 1945 عقد للمرة الثانية اجتماعاً ثلاثياً ضمّ رئيس الوزراء البريطاني وينستون  تشرشل ورئيس الاتحاد السوفياتي جوزيف ستالين والرئيس الاميركي فرانكلين روزفيلت. جاء هذا الاجتماع الهام في يالطا بعد ان شارفت الحرب العالمية الثانية، التي دمرت اوروبا، على نهايتها. وقرر القادة الثلاثة الطلب الى المانيا الاستسلام لقوات الحلفاء دون شروط. كما وضع القادة خطة كاملة لمستقبل العالم، في مرحلة ما بعد الحرب، ومن ضمنها، اعادة اعمار اوروبا وانشاء منظمة الأمم المتحدة للاشراف على السياسة العالمية والحؤول دون اندلاع حروب عالمية جديدة، على مدى الخمسين سنة المقبلة.

وتم تشكيل الأمم المتحدة بناءً على رؤية حقوق الانسان المقدمة في «الاعلان العالمي لحقوق الانسان» الذي وضع مفهوم الحقوق كدعامة اساسية لرفع مستوى حرية الانسان وكرامة الفرد. وارتكزت هذه على وثائق سابقة لمكافحة الاقطاع، مثل الاعلان البريطاني، او قانون الحقوق (1689)، واعلان حقوق الانسان في فرنسا، بعد الثورة الفرنسية (1789)، وقانون الحقوق الصادر في الولايات المتحدة بعد استقلالها عن بريطانيا (1791).

وتؤكد هذه الحقوق على حرية التعبير والتجمّع. ومهدت القوانين لتدخل الأمم المتحدة في الحياة اليومية للناس في جميع انحاء العالم. كما اكدت على الحق بالحصول على الغذاء والملبس والرعاية الطبية، والخدمات الاجتماعية واستحقاقات البطال، والاعاقة، ورعاية الطفل، والتعليم المجاني، والحق بالتنمية الكاملة للشخصية، والمشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع.

في عام 2015، اتخذت الأمم المتحدة خطوة متقدمة نحو بناء حكومة عالمية، مع اصدار وثيقة بعنوان «تحويل عالمنا: خطة التنمية المستدامة لعام 2030» هذه الوثيقة تتضمن اقتراحات عملية لـ 91 قضية تحت عناوين خمسة هي : الكرة الارضية، الازدهار، السلام، واهداف التنمية المستدامة  لتحسين الحياة على كوكبنا.

التنمية المستدامة، كما تشرح الوثيقة، هي التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الاجيال المقبلة على تلبية  احتياجاتهم الخاصة.

ويُفهم من تفاصيل هذه الوثيقة التي تلزم الدول الاعضاء ان الامم المتحدة هي المنظم العالمي الجديد المسؤول عن البيئة، رغم ان الوثيقة لا تتطرق الى التلاعب  الهائل بمصير الناس، من قبل بعض القادة الذين يستغلون مناصبهم عن طريق الارهاب والرشوة والعنف، على الرغم من الادلة الكثيرة حول هذه الممارسات، الامر الذي يتناقض مع حقوق الانسان.

وكانت الأمم المتحدة قد اتخذت قرارات في 1950 ومطلع 1960، تخول البلدان القادرة تكنولوجياً، على التحكّم بالتبدلات المناخية، بحجة مكافحة الاحتباسات الحرارية.

– اصلاح العالم بواسطة الأمم المحدة

كثيرون حول العالم يؤيدون الفكرة التي يُروج لها والتي تقضي بتحويل الأمم المتحدة الى جمعية برلمانية منتخبة مباشرة، وهذا يمنحها سلطة مستقلة عن الدول الاعضاء، علىان تعمل هذه الجمعية البرلمانية (او الحكومة العالمية الجديدة) على فرض نظام قانوني عالمي واحد يسمح بمحاكمة اي مواطن في العالم في محاكم دولية مستقلة.

ويعتقد  البعض انه يجب ان يسبق هذه الحكومة العالمية حكومات قارية او اقليمية.. مثل الاتحاد الاوروبي، وتكرار هذا النموذج في مناطق اخرى من العالم. لذا تطرح افكار حول قيام اتحاد دول اميركا اللاتينية، واتحاد الدول العربية، واتحاد دول المحيط الهادئ وغيرها.. لأن اعادة تنظيم العالم في اقاليم واتحادات يعتبر خطوة اولى نحو اقامة نظام عالمي وفرض حكومة عالمية واحدة.

وهناك وجهات نظر اخرى تتوقع تشكيل حكومة عالمية، لكن لا تتطلع الى دعم هذه الفكرة. اذ يعتقد الكثير من المسيحيين انه قبل نهاية العالم، سيتم انشاء حكومة عالمية واحدة تحت حكم «المسيح الدجال». فيما ينظر معظم الاميركيين والاوروبيين على ان الحكومة العالمية الواحدة هي امر جيد، كما اعلن اكثر من مرة الرؤساء الاميركيون، جورج بوش الأب والابن وبيل كلينتون واوباما وغيرهم. وتؤيد هذه الفكرة العديد من الجمعيات السرية والمحافل والرأسمالية العالمية والمفكرين واعلاميين…

وترتبط فكرة اقامة حكومة عالمية واحدة بفكرة قيام دين عالمي واحد. ويزعم اصحاب الفكر التآمري ان تنظيمات سرية من المتآمرين تعمل سراً لفرض نظام عالمي جديد تقوده حكومة عالمية واحدة.

ويعتقد هؤلاء ان مجلس العلاقات الخارجية (CFR) ومؤسسة بيلديبيرغ السرية ونادي روما (Club of Rome) ومنظمة الجمجمة والعظمتين Skull and Bones، واللجنة الثلاثية، والنورانيين،  تقف جميعها وراء تحقيق هذا الحلم. ويعتمد هؤلاء على محاولات تاريخية سابقة. فالبابليون والفرس واسكندر المقدوني والرومان والمغول، في العصور القديمة حاولوا فرض ممالكهم وثقافتهم على دول اخرى كذلك سعت بريطانيا والنازية والشيوعية فرض انظمة ذات طابع ثقافي شمولي له مبادئه واهدافه البعيدة، الثقافية والسياسية والاقتصادية.

لكن فرض نظام عالمي جديد وحكومة عالمية واحدة يبدوان الآن اسهل للتحقيق، كون العالم هو اليوم اكثر تنظيماً وتلاحماً، وكون الكرة الارضية اصبحت «قرية كونية» نتيجة للتطورات التكنولوجية والانترنيت والقدرة على التحكّم بالشعوب والاعلام ووسائل المعرفة. وكون الثروات العالمية اصبحت محصورة بيد مجموعة صغيرة تتحكم بالمال والاقتصاد العالمي.

– الصهيونية العالمية

ويذهب البعض الى اتهام الصهيونية العالمية انها تقف وراء الحكومة العالمية، كما يربطها آخرون باليهودية لاعتبارات دينية محضة، كما تفعل جمعية جون بيرش اليمينية والمناهضة للشيوعية والفكر الالحادي، وتعارض اعادة توزيع الثروات وتؤمن بالتفوّق العرقي.

– المواطن العالمي:

في عام 1953 اعلن المواطن الاميركي غاري ديفيس (Garry Davis)  الناشط في مجالات السلام العالمي، وهو من اصول يهودية ايرلندية، تأسيس وكالة دولية للخدمات العالمية، طارحاً فكرة «المواطن العالمي». وبدأت المؤسسة بتسجيل المواطنين الذين يرفضون الانتماء الى وطن محدد، لأنهم ابناء الكرة الارضية، ولديهم حق المواطنة الأممية. واطلقت المؤسسة مشروع اصدار وثائق سفر عالمية، وبطاقة هوية عالمية وبطاقة زواج عالمية.

واعترفت لاحقاً 6 دول بشرعية هذه المؤسسة وما يصدر عنها من وثائق. وفي عام 2010 اصبح عدد الدول التي تعتمد جواز السفر العالمي 180 بلداً .

وينقسم اليوم العالم الى فريقين. الاول يدعو الى منح الأمم المتحدة الدعم لتصبح فعلاً السلطة القادرة على فرض سياسة عالمية موحدة، فيما يتخوف البعض الآخر ان الأمم المتحدة لم تعد تمثل الفكر والثقافة الغربية، ولا بد من اعادة اصلاحها لكي تقوم بهذا الدور العالمي، رغم تحكم خمسة دول عظمى بالقرارات النهائية التي تتخذها، عن طريق استخدام حق الفيتو.

– الصهيونية العالمية ومساعي حكم العالم

يعتبر كتاب الأمير للمؤلف والمفكر الايطالي مكيافلي من اهم المراجع المؤثرة في الفكر السياسي، كون الكاتب يتطرق الى موضوع كيفية اقامة مملكة يكتب لها الحياة لقرون عديدة. لذا تعتبر طروحات مكيافلي مرجعاً لمعظم السياسيين وللحركات السياسية في العالم.

غير ان الصهيونية العالمية تمتلك بالاضافة الى هذه المراجع، اسساً وخلفيات اخرى، تاريخية وعقائدية، خاصة، بعد ان تبنت الصهيونية الديانة اليهودية اساساً لتحقيق اهدافها البعيدة. ومن اهمها اعادة احياء فكرة «الشعب المختار» الذي عقد معه الله عهداً انه سيمنحه ارضاً ومملكة وسلطاناً على سائر الشعوب. لهذا وجدت دولة اسرائيل بغية جمع «الشعب المختار مجدداً، على امل ان يعيد بناء مملكته، على اسس التراث التوراتي – التلمودي. لا يزال اليهود الصهاينة ينتظرون مجيء المسيح، كونهم لا يعترفون ان المسيح الذي صُلب هو المسيح الموعود. ويعتقد هؤلاء ان وحدة الارض، ووحدة العرق، ووحدة العقيدة الى جانب العهد الالهي المبرم معهم يمنحهم الاولوية على سائر الشعوب، والسلطان لكي تتحول القدس الى عاصمة دين العالم، والىعاصمة حكم العالم، خاصة مع ظهور «المشيا» – المسيح الذي ينتظرونه، والذي سيمنحهم القدرة على التفوّق على سائر الشعوب والتحكّم بمصير «الغويم» اي الشعوب غير اليهودية.

وتتردد هذه الافكار لدى بعض الجماعات الاسلامية الاصولية التي تؤمن ان الاسلام والمسلمين سيصبحون قادرين على السيطرة على العالم، وعلى فرض الشريعة الاسلامية واستبدال الانظمة الديمقراطية بشرع الله.

ويذهب البعض لدى الفريقين الى تعداد الغنائم والاجراء الذين سيعملون في خدمتهم ولاسعادهم، عندما يُحكمون سيطرتهم على العالم.

وفيما يرى البعض ان الصهيونية العالمية تستخدم المسلمين لدمار الانظمة بغية فرض حكومتها ونظامها العالمي، يذهب آخرون الى اعتبار ان ما يحدث في العالم اليوم من نزاعات حادة وحروب في الشرق الاوسط، ومواجهات بين الولايات المتحدة واوروبا من جهة، والصين وروسيا وايران من جهة اخرى، تدخل في نطاق افتعال الحروب، من اجل، ليس فقط ، خفض عدد السكان في العالم، بل لدمار الانظمة السائدة بغية اقامة نظام عالمي جديد.

وكما فعل تشرشل وستالين وايزنهاور خلال مؤتمر يالطا، عندما اقروا تأسيس الأمم المتحدة، ستخرج قوة جديدة بعدئذ لتفرض النظام العالمي الجديد والحكومة العالمية الواحدة.

– الانجيل والحكومة العالمية

هل يتحدث الانجيل عن قيام حكومة عالمية واحدة ونظام نقدي واحد مع نهاية الازمنة؟

لا يستخدم الكتاب المقدس عبارة «حكومة عالمية واحدة» او عملة عالمية موحدة ، لكنه يوفر ادلة كافية تمكننا الاستنتاج ان كليهما سوف يحدثان، خلال حكم «المسيح الدجال» في الأيام الاخيرة.

في رؤيا يوحنا يصف الرسول «الوحش» الذي يدعى ايضاً «المسيح الدجال»، انه يخرج من البحر وله سبعة رؤوس وعشرة قرون (رؤيا يوحنا 1:13) كما تنبأ دانيال في رؤية مشابهة عندما وصف مملكة «مختلفة عن سائر الممالك، تأكل الارض كلها وتدوسها وتسحقها (بمؤازرة ملوك عشرة)، ثم يقوم ملك يخضع الآخرين، وينطق بأقوال ضد الله العلي ويضايق قديسيه، ويظن انه يغير الازمنة والشريعة، وسيسلّم القديسون الى يده ثلاث سنين ونصف السنة…» (دانيال 7: 25 -28).

ويستنتج من النصين ان نوعاً من النظام العالمي سوف يتم انشاؤه بواسطة «الوحش» وهو اقوى «قرن» سيهزم التسعة الآخرين، ويبدأ بشن حملة اضطهاد ضد «المؤمنين».

ويصور دانيال  (2: 41-42) الحكومة العالمية النهائية، انها تتألف من عشرة كيانات تمثلها اصابع التمثال العشرة. والواضح من الكتاب المقدس ان الوحش سوف يدمر المؤمنين ويقلّص من قوتهم.

ويمضي يوحنا الرسول ليصف حاكم هذه الامبراطورية الشاسعة بأنه يملك القوة والسلطة العظيمة التي منحها اياه الشيطان نفسه (رؤيا 13:2)، وسيكون له اتباع كثر ويعبده كل العالم (13:3-4) ويمتلك سلطاناً على كل قبيلة وشعب ولغة وامة (13:7). ومن الطبيعي ان تخضع له الأمم وتعترف الحكومات بسلطته وتخضع له عنوة او عن طيب خاطر.

وهناك العديد من النظريات حول هذا الموضوع.

الاستنتاج المنطقي هو ان الكوارث والأوبئة الموصوفة في سفر الرؤيا ستكون مدمرة للغاية.

وعندما يتمكن الوحش (المسيح الدجال) والقوة الشيطانية التي تقف وراءه من السيطرة على الجميع سيعمل على ارساء نظامه وفرض سلطته على جميع شعوب الارض لتحقيق غاياته الحقيقية، وهي العبادة التي يبحث عنها الشيطان منذ ان أُلقي من السماء (أشعيا 14: 12-14). وستكون التجارة احدى الوسائل، مما يعني فرض عملة عالمية واحدة وفرض «سمة الشيطان» على اليد او الجبين لكي يصبح الفرد قادراً على البيع والشراء. ولا شك ان معظم الناس سوف يستسلمون للعلامة للبقاء على قيد الحياة. وهذا سيكون نظاماً عالمياً يفرض على الجميع ، الفقراء كالأغنياء، الكبار والصغار، الحكام كالأجراء، معظمهم سيحملون «سمة الوحش، من اجل البقاء، ومواجهة الجوع والاضطهاد المروع – القلة يبقون على ايمانهم ويختارون الشهادة والموت على عدم الاستسلام لمشيئة «حكم الشيطان».

– احداث اليوم

ان ما يجري اليوم على الساحة الدولية من ضرب القيم وتفتيت العائلات وتشريع المثلية والاجهاض والقتل الرحيم، وملاحقة رجال الدين، وفرض مثل ومفاهيم تتناقض مع العقائد والشرائع والاخلاقيات ، يمكن فهمها على انها محاولة لاعداد الارضية القابلة لاستقبال «الوحش» ولتعميم الفكر الالحادي الذي ألغى فكرة الله الخالق والمحب والمخلص واستبدله بمفاهيم غيبة متضاربة تزيد من حالة الضياع لدى الناس.

البشرية تقود نفسها نحوالعبودية الشاملة، عبودية هي اسوأ بكثير من عبودية الرومان، والمحرقة النازية واضطهاد الحكم العثماني.

انها عبودية تقضي على الجسد وتقتل الروح معاً.

انها التهديد المباشر للحرية والديمقراطية والازدهار الاقتصادي.

باختصار ، هي ايديولوجية الشر وفرضه على البشرية. اختم مع ما كتبه البابا القديس يوحنا بولس الثاني:

«مع نهاية هذا العقد سوف نكون تحت حكم اول حكومة عالمية، تطبق للمرة الاولى داخل مجتمعات الشعوب… انها حكومة ذات سلطة غير محدودة تقرّر القضايا الاساسية للجنس البشري. هذا امر لا مفر منه.

نصلي ان تقصر تلك الايام، ايام محنة الازمنة.

pierre@eltelegraph.com