وديع شامخ / رئيس تحرير مجلة ‘النجوم’
يرتبط الشعر بضمير الشعوب الجمعي،ويحظى الشاعر بتكريم مجتمعه .
فقد أخذ الشاعر مكانة الساحر في العصور القديمة ، حيث كان السحر بضاعة الساحر لإستشعار مصائرهم ووجودهم .
هاتان فرضيتان أفرزهما الظرف التاريخي لوجود الشاعر وحاجة المجتمع الى شعر .
لقد توارث العرب هذه الثنائية وبنوا عليها صروح أمجادهم في الحرب والسلم معا.
ومن مدونة الشعر/ الشفاهية / ولدت تراجم وسير وتعاريف وأهم فكرة أوقدت في قلب الشاعر شعلة الغيرة، أن يكون راية جمعية ، والشعر أن يكون خيمة الشاعر وتاجه .
نشأ الشاعر في حضن القبيلة « وعن قبليتي احدثكم ، كما يكتب غازي القصيبي»
وصارت فكرة الشاعر وولادته فكرة خلاصية
أذا بلغ الفطام لنا صبياً
تخر له الجبابرة ساجدينا
ينشأ الشاعر ومعه المجد الشخصي والجمعي ، ويبقى النص الشعري عاريا يحتاج الى مجد آخر.
البيئة العربية قبل الإسلام وما يصطلح عليها جزافاً « العصر الجاهلي»، وفرت للشاعر حاضنة ذهبية، لا لأنه فردا مقدساً بل لأنه اللسان الجمعي للقبيلة ووزير إعلامها.
ومع وجود الشعر كديوان للعرب ظهرت وبشكل محايث الأسماء النقدية والمهرجانات الشعرية وعلم العروض وما جادت به المكتبة العربية من أمهات الكتب في النثر والنقد .
ومع توسع تخوم الإمبراطوريات العربية الإسلامية وتشبه الخلفاء بالملوك صار للشعراء حاجة وحظوة خاصة ، فكانت مراحل التطور الشعري ولودة ، رغم اني أزعم أن الشعراء الذين برزوا كمداحين للخلفاء والحكام قد ساهموا بشكل كبير في تهميش وإقصاء طاقات شعرية كبيرة كانت لا تحتمل مركز السلطة وبقيت في هامشها الحر كشعراء الخمريات والصعاليك مثلا .
كما ظهرت بوادر التجديد الشعري وتهديد عمود الشعر وهيمنته، كما حصل مع بشار بن برد و ابي نواس وسلمه الخاسر والوليد وغيرهم، في التهكم من الطلّليات وابتداع معانٍ جديدة وتراكيب شعرية مبتكرة وتوجت بالمواضيع الفلسفية لأبي العلاء المعري والحكمة والصنعة عند البحتري والمتنبي .
هذه الهزات وغيرها في الأندلس وما أبدعه الشعراء هناك ، جعلت من الشعر مساحة للتجريب والصنعة واللعب معاً .
لم يعد الشعر ذلك المقدس الذي يُعلق بأحرف ذهبية على أستار الكعبة ، ولا الشاعر هو القديس الأوحد في قبيلته .
ولقد جاءت النظريات النقدية كما عند الجاحظ والجرجاني والقيرواني على سبيل المثال ، لتكسر هيبة الشعر وتصفه بمقام آخر لا يرتبط فقط في الوزن والقافية ،وانما ينتصر الى الفكرة والصورة والصياغة وقدرة الشاعر موهبة وصنعة .
وبدأت أهمية الشاعر تنسحب من غطاء القبلية لتأخذ فضائها الجمالي والدلالي من قيمته كنص شعري خارج القداسات . وبرزت في العصر العباسي أغراض أخرى غير ماكان متداولاً كشعر المتصوفة والزهد والفلسفة والخمريات والأباحيات .
في العصر الحديث صار الشعر حقلا مفتوحا لولادة اشكال شعرية كسرت العمود وازالت الصورة الضبابية عن دور الشاعر ، وظهر للشاعر دور الرائي المتفرد المستقل ، الخارج من منظومات القبيلة وديوان سيف الدولة ، مع بقاء هذه الاصداء في الأنساق الرسمية في حدودها السلطوية .
لم تأتِ الأشكال الجديدة بمقصلة لما سبقها ولا شعراء الرؤيا سفاحون لأسلافهم
لكن الأنساق الإبداعية تطورت وهي حركة مفتوحة وليس دائرة مغلقة يدور حولها العدائون لتتمة مسافاتهم في سباق العصا والبريد .
المتنبي لا علاقة له بسركون بولص ،ولكن سركون على صلات سرية مع إبي العلاء المعري .
بدر شاكر السياب له علاقة رحم مع العمود الشعري ، رضعه حتى نزف شكلاً جديداً ولكنه ليس أبن زنى .
الشعر متوالية إبداعية وسبورة بوح .. لا أستذة ولا كهنة ..
الشعر رسالة يكتبها مبدع يعرف شروط الصنعة واللعبة والإرسال .