بقلم بيار سمعان

عبارة «التماهي مع المعتدي» والتشبه به، صاغها «ساندور فارانزي» ثم استخدمتها أنا فرويد.

والاثنان محللان نفسيان حاولا استخدام هذه العبارة لتوصيف سلوك ضحية الاعتداء عندما يتصرف كالمعتدي، ويحاكيه في سلوكه وردود فعله. فيصبح موقف الضحية تجاه المعتدي حالة مَرضية، قد تتطور الى مشاعر الاعجاب والامتنان تجاه المعتدي، فينظر اليه كشخص يلبي احتياجاته الاساسية.

فالمعتدي يطعمه، يسمح له بالذهاب الى هنا او هنالك ليحقق بعض رغباته الاساسية. فلا تشعر الضحية سوى بالامتنان تجاه المعتدي الذي يسمح لها بالبقاء على قيد الحياة. وغالباً ما تنسى الضحية ان المعتدي هو اصل المعاناة ومصدر الاستغلال، وسبب الاضطهاد.

– العرب وعقدة التماهي مع المعتدي

التماهي مع المعتدي، يعكس حالة من الضعف وعدم القدرة على مواجهة المعتدي، وتتحول مع استمرارها الى حالات مرضية مزمنة تنطبق على العنف الأسري وعلاقة ارباب العمل بعمالهم.كما يمكن ان نصف من خلالها حالات التحكّم بالشعوب واستعمارها واستغلال قدراتها البشرية او المادية، وخضوع هذه الشعوب للمحتل او المتسلط، والقبول بما يقدمه من «فتات موائده» وسرقاته لخيرات البلدان المستعمرة…

وقد عانى العرب على مدى قرون من مشاعر الاضطهاد وعقد النقص والضعف من الغزوات والاستعمار والاحتلال. نظرة سريعة على تاريخ المنطقة نجد ان منطقة الشرق الاوسط، نادراً ما نعمت بالاستقلال والحكم الذاتي، وغالباً ما كانت تحت الاحتلال. من اليونان الى الرومان، فالفرس والبابليين، الى الحكم العثماني (500 عام) ثم الفرنسي والبريطاني، حتى قيام دولة اسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني (1948) وقضمها للمزيد من الاراضي العربية على مرأى من اعين الدول ومنظمة الأمم المتحدة، ثم هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة والتحكم بمصيرها.

وخلال مرحلة ما بعد الاحتلال، وهي مرحلة المحميات المستقلة كدول تحكمها عائلات، يتغير فيها النظام نتيجة للانقلابات العسكرية، استبدلت الطبقة الحاكمة «المستعمر» ومارست الحكم بقساوة، مكرسة بذلك  حالات عدم الاستقرار «الجماعي» .وعملت على تجذير عقد النقص وتعميق الهوة بين الحاكم والمحكوم، ففرضت مناخاً ثقافياً قائماً على مفهوم «التماهي مع المعتدي» ورفع شأنه حتى الألوهية.

– عقد النقص عند العرب هي نقطة ضعفهم

لا شك ان عقد النقص المتراكمة والمتوارثة من جيل الى جيل تشل حركة بناء الانظمة الديمقراطية، وتقيّد مستوى التحرر السياسي والمقاربة الموضوعية للقضايا والاحداث.

وعقد النقص عند العرب تدفعهم للتماهي بالآخرين، خاصة مَن يطلقون عليهم مختلف التسميات العدائية والتكفيرية،  ويصفونهم بأقبح الأوصاف ، ثم يسارعون للعيش بينهم، والاستفادة من تطورهم ومن ثرواتهم، وتقليد نمط حياتهم، حتى ولو بدت ظاهرياً مناهضة لها وتتعارض معها في الشكل، وليس في المضمون.

لقد بالغ العرب في تقليد الاعداء والمغتصبين والمتسلطين على حكمهم بالقوة والعنف، لدرجة ان الثقافة العربية اصبحت منبع التناقضات، وهي تحفل بالامثلة الشعبية والممارسات والاقاويل  التي تعكس هذا الواقع.

فالشعر العربي والادب الخطابي على سبيل المثال، ما عدا بعض الحالات النادرة، تحول بمجمله الى شعر وادب بلاطي، يمتدح الطبقة الحاكمة والمجموعات المتسلطة والاثرياء داخل المجتمعات، حتى ولو دون حق او جدارة. وكأن عامة الشعب يقولون لهؤلاء: خذوا ما شئتم من التمجيد والمديح، لكن كفوا عن الاساءة الينا والاستخفاف بعقولنا ودفعنا الى اللجوء او الهجرة الى بلدان تضمن لنا الحريات الانسانية..!؟
ألا نكرر في ثقافتنا الشعبية اقوالاً مثل: «الإيد لما فيك عليها، بوسها وادعي لها بالقطع…» ألا نواجه تحدياتنا اليومية وواقعنا المأساوي بشكل انبطاحي عندما نكرر «من يتزوج امي، ادعوه عمي»؟؟

ألم نشرع الفساد عندما اعتمدنا مقولة كررها العميد ريمون اده، عندما وصف النظام اللبناني انه «نظام كول وشكور»؟

ورغم كل هذه الشواذات والواقع الأليم، نتباهى اننا «خير امة» ونتهم الآخرين بالفساد والإنحلال الخلقي، وقلة الوفاء والوطنية.. سلسلة من النعوت تكفي لتأليف معجم من الألقاب الرديئة نطلقها على الآخرين… ايضاً وايضاً من باب التعويض عن النواقص والعقد التاريخية لدينا.

فنحن، كما ندعي، مجتمعات محافظة، تولي الاخلاقيات افضل المراتب. مجتمعات «تخشى الله» وتعمل حسب شرائعه ووصاياه. لدينا مجتمعات قائمة على العدل واحترام الانسان وحماية حقوقه، نحمي الضعيف ونحاكم الظالم، ندافع عن المظلومين والمضطهدين، ونساوي بين الشعوب داخل مجتمعاتنا… شعارات ومفاهيم نادراً ما تنطبق على الواقع المعيوش.

في انظمتنا يتساوى المواطنون فيها، جميع الطوائف والمذاهب، الناس كلهم متساوون… امام الظلم. لكن المشكلة تكمن في تجاهلنا للواقع المأساوي الذي نعيشه، وفي رفضنا لمحاولات تغيير هذا الواقع.

– فساد الطبقة الحاكمة هو قمة الاضطهاد

يعيش الشرق اوسطيون عدداً من التناقضات: الاول هو الشعور بالتفوّق، الثاني هو فساد الطبقات الحاكمة، وثالثها العالم الحقيقي الذي يجب ان يعيشوا فيه. تناقضات تدفعهم للإصابة بمرض السكيزوفرانيا، انفصام الشخصية.

بالأمس امرت محكمة في اسرائيل ، سارة نتنياهو زوجة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بدفع غرامة قدرها 55 الف شيكلز، اي  ما يوازي 21 الف دولار بسبب سوء استخدامها اموال الدولة العبرية، وتعتبر هذه القضية واحدة من قضايا الفساد البارزة التي تلاحق عائلة رئيس الوزراء الاسرائيلي.

في لبنان، على سبيل المثال، مضى حوالي عام طالب خلاله المسؤولون قبل عامة الشعب بضرورة مكافحة الفساد وملاحقة المفسدين. لكن منذ عام حتى اليوم لم نر ملاحقة سوى صغار القوم الذين لا علاقة لهم بالمليارات من الدولارات المنهوبة،  والتي تحولت الى ديون على الشعب ان يسددها.

في لبنان، الناس يدركون من هم الفاسدون والمفسدون الذين نهبوا المال العام على مدى عقود من الزمن، واغرقوا البلاد في ديون لم يستفد منها الوطن ولا المواطن.

لكن نظرية التماهي مع المعتدي والسارق والفاسد… يدخل في اطار النظرية التي ذكرت. فالشعب اللبناني بمختلف مكوناته لديه مرجعيات تسيء استغلاله، باسمه تسرق المال العام، لكن عليه ألا يعترض او ينتقد او يسعى للمطالبة بحقوقه المدنية وملاحقة الجناة. فالزعامات الفاسدة هي «خط احمر» يُحظر المساس به او الاعتداء عليه او ملاحقته قانونياً.

فالسنيورة والحريري وميقاتي وغيرهم هم خط احمر بالنسبة للسنّة. وبري وحزب الله والمقربين منهما، هم خط احمر لدى الشيعة. كذلك جبران باسيل وتياره والقوات والمردة وغيرهم، هم خط احمر بالنسبة للمسيحيين والموارنة ، لا يمكن تجاوزهم او اتهامهم وخاصة محاسبتهم.

فالعهد والمسؤولون ورجالات السياسة والقانون في بلادي يبحثون اليوم عن ضحية ما، عن «راجح» خيالي يتحمل مسؤولية الفساد. فلا الضغوطات الدولية تنفع ولا المطالب الشعبية تجدي او تثمر خيراً للوطن. لأن حماية القائمين على ادارة شؤونهم هم من  يتقاسمون خيراته، والشعب راضِ ببضعة دولارات تلقى اليه في موسم الانتخابات او بواسطة ارضاء اسياد العشائر والمنتفعين في القرى والمناطق، المحسوبين على الطبقة  الحاكمة، يدورون في فلكها، وينفذون اوامرها.

لقد تماهينا مع الغرب بثقافته ولغاته وابتكاراته. حاولنا ان نقلده في سلوكنا اليومي. امتدحنا تطوره وابتكاراته، وتماهينا باختراعاته ونمط الحياة لديه… امور عديدة تلقفناها وحولناها جزءاً من تراثنا الخارجي. لكننا لم نتعلم كيف نحترم الانسان ونحفظ حقوقه. لم ندرك او نقتنع ان المسؤول السياسي هو خادم الشعب، ينوب عنه ويحقق مطالبه، بل جعلناها في مرتبة الآلهة وطبعناها بطابع المحرمات.

لم نتعلم من دول العالم المتحضر ان المسؤول يجب ان يُسأل ويُحاسب ويُعاقب، وانه بحكم موقعه يتحمل مسؤوليات اكثر من اي مواطن عادي.

للأسف في بلاد الشرق الاوسط، المسؤول والحاكم هو «فعل إلغاء للآخرين». هو مَن يحاسب المواطنين ويعاقبهم ويحملهم مسؤولية الفساد والفوضى والثورات. فالتهم هي جاهزة مسبقاً وتلقى حسب كل حالة.

فأنت يساري مشاغب ان طالبت بحقوق المواطنين.

وانت عميل مدسوس، ان نظمت المظاهرات، وتبدأ الاجهزة المسخرة لحماية الطبقة الحاكمة بالتحري عنك وفتح ملفات لك، ولو زوراً. وانت عميل ان طالبت بحقوق المواطنين، وسعيت لمحاسبة الفاسدين.

والمؤسف ان قطعان الشعوب التابعة هي دائماً على استعداد للنزول الى الشارع ولمواجهة مَن يشكلون تحدياً للزعامات الفاسدة. ومن السهولة تحويل العدالة الى فوضى امنية ومشاغبات في الشارع وحتى اندلاع حروب.. ألم تبدأ الحرب السورية بمطالب شعبية ومظاهرات تدعو الى اصلاح النظام واعتماد الديمقراطية؟ حتى اليوم، لا احد يعلم ما سيكون مصير سوريا ومستقبلها.

فلا بأس ان تدمر سوريا، حفاظاً على الطبقة الحاكمة، ولا مانع ان يبقي لبنان دون حكومة، اذا اختلف القوادون على توزيع الحصص والمغانم.. هكذا تساس الدول في عالمنا العربي، وهكذا تدار امور الشعب.

فالوطن يبدأ مع الحكام وقادة القبائل والطوائف، وتنتهي ازماته عند التفاهم على توزيع الفساد بالمحاصصة.

فمن سوف يحاسب الفاسدين؟

الشعب المغفل والمقيّد والمكبوت والمغلوب على امره، والعاجز عن التخلص من عقده المتوارثة ، ربط مصيره بمصير قادته.

الانسان الواعي اصبح يفضل الابتعاد عنهم والاهتمام «بخبزه اليومي» . القلة المسيسة والمجردة من الالتزامات الضيقة تتظاهر في الشارع لتعود الى مواجهة الواقع المؤلم، بعد يوم او اكثر من الاستعراضات في الشوارع والبيانات المكررة والظهور عبر وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.

اغلبية الناس يئسوا وسئموا وفقدوا الأمل باصلاح الاوضاع، طالما ان «حاميها  حراميها» ولأن  الفاسد يعجز عن مكافحة الفساد.

ما يزيد على 33 الف لبناني غادروا لبنان باتجاه واحد. والآلف ينتظرون على ابواب السفارات، وغامر بعضهم بالسفر بواسطة القوارب التي نقلت افواج اللاجئين السوريين الى اوروبا.

هكذا تبدو الاوضاع في بلادي، كما هي الحال في معظم الوطن العربي. وبانتظار احداث كبرى او حدوث اعاجيب، تكتفي الشعوب في الوطن العربي، بالتماهي بالمعتدي والمغتصب والسارق والفاسد والمحتكر… لكن لم يتجرأ مواطن واحد في عالمنا العربي على التشبّه فعلاً بالبلد «العدو» الذي لاحق زوجة رئيس الوزراء نتنياهو وسألها وعاقبها.

فمتى نتشبّه فعلاً بما هو صالح ومفيد وعادل ومنطقي لدى الدول التي استعمرتنا، ومتى نتعلم دروساً في المحاسبة والمساءلة من الدولة التي اغتصبت ارضنا وتهدّد وجودنا؟

ربما معظم قادة وطننا العربي، يعملون عن ادراك او غير معرفة لتبقى شعوبنا في حال من  التخلف، قابعة في عقدة كثيرة، اقلها اننا نتماهى مع المعتدي ونعجز عن محاسبته ومعاقبته؟؟

اختم مذكراً ان الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة ايام الهيمنة السورية على لبنان كانت تقبل بالاذلال مقابل سكوت السوري عن سرقاتها ونهبها لخيرات البلد. كانوا يقفون امام ضابط سوري امني يقول لكل منهم «سكوت ولاه… كول هوا ولاه.. روح انقلع ولاه…»

هذه الطبقة السياسية هي نفسها لا تزال تحكم بعد الخروج السوري لقد أذلت الشعب اللبناني بأسره.

سوريا المهيمنة على لبنان لم تواجه بوطنيين اشراف، الاشراف جرى اغتيالهم والتخلص منهم، مَن تعامل مع السوريين هم رجالات قبلوا بهيمنتها مقابل نهب خيرات الوطن… هؤلاء يحكمون اليوم لبنان.

pierre@eltelegraph.com