وجيه رافع – سدني
عميد متقاعد في الجيش اللبناني
لا تزال الحكومة اللبنانية تسعى يوميا في دراسة فذلكة موازنتها للعام 2019،بالرغم من تأخيرها لأكثر من سبعة أشهر تقريبا في إقرارها دستوريا، وإذا ما حسبنا الفترة الزمنية المطلوبة لإقرارها في المجلس النيابي وتحويلها إلى صك تشريعي نهائي،سيكون قد انقضى مدة طويلة من العام 2019 دون موازنة لها، دون ان ننسى قرار وزير المالية القاضي بوقف كافة النفقات الاستثمارية في البلاد وتجميد العمل بالقاعدة الإثناعشرية،بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها البلاد،نكون في كلتا الحالتين،من تأخير وتجميد ،أمام جمود وشلل كبيرين في مهام الدولة وقدرتها على تأدية وظائفها وواجباتها الوطنية المطلوبة.
تم تقسيم هذه الموازنة إلى أربعة أبواب رئيسية وهي:
1-الأجور والرواتب والتعويضات وهي تشكل 35%من الموازنة العامة.
2-خدمة الدين وتشكل 35 % منها.
3-عجز الكهرباء وهي تشكل 11% منها.
4-الإنفاق التشغيلي الإنتاجي والإستثماري للدولة وهو يشكل 19% منها.
في قراءة معمقة لتلك الأبواب الأربعة نجد ان الباب الأول يتعلق بموظفي القطاع العام في الدولة من مدنيين وعسكريين أي بمعنى آخر يتعلق بفقراء لبنان وصولا إلى طبقته الوسطى المتعثرة.
أما الباب الثاني منها، فهو يتعلق بخدمة دين الدولة لمصارف البلاد،ولمؤسسات مالية وطنية ودولية،أي بمعنى آخر لأثرياء البلاد وحيتان الرأسمال المتوحش في لبنان والعالم.
البند الثالث،كهرباء لبنان،تلك الاحجية التي أرهقت عقول اللبنانيين والعالم،تاريخ طويل من الأخذ والرد والضياع والمراوحة وما بينها من اتهامات واتهامات متبادلة،وصفقات وتنفيعات وصولا إلى بواخر الهدر ومافيات الفيول اويل وأخواتها.
أما رابعا وأخيرا،أي الإنتاج الإستثماري التشغيلي للدولة، والعاجز في نسبته المتدنية عن تحقيق أي نمو إقتصادي حقيقي،أي ان مؤشر النمو سيستمر في ملامسة الصفر، كما هو عليه سابقا، يضاف اليه التراجع الكبير في كافة قطاعات الدولة وبناها التحتية المحفزة للنمو،والضرورية في آن من أجل دفع عجلة الإقتصاد إلى الإمام.
في خضم ذلك،يشهد لبنان حاليا،حراكا وإضرابات ومظاهرات في كافة أنحاء البلاد لمتقاعدي القطاع العام وخاصة العسكريين منهم،بسبب إصرار السلطة على مقاربة الباب الأول من الموازنة،المرتبط بهم،بكيدية واستغلال، في محاولة منها لتخفيض عجز الموازنة، مدعية، وهي على حق،بالنسبة المرتفعة لهذا الباب(35% من مجمل الموازنة) لكنها متناسية قصدا،ان المسؤولية هنا تقع عليها وليس على الموظف في الخدمة أو في التقاعد، فالسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى تكبير الوعاء الوظيفي في الدولة ،بسبب قيام السلطة نفسها بتحويل الوظيفة العامة إلى عملية زبائنية قذرة للأنصار والمحازبين على حساب مصلحة الدولة العليا، الأمر الذي أدى إلى تعاظم حجم نسبة هذا الباب تحديدا.
لكن أكثر ما يؤلم مما يجري حاليا، ويدمى له الجبين،هم أولئك العسكريين المتقاعدين الذين خدموا بلادهم لردح طويل من الزمن،وخرجوا من الخدمة براتب تقاعدي بالكاد يلامس قدرتهم على مواجهة أعباء الحياة ومتطلباتها، وهم أصلا غادروا حياتهم العسكرية،بصعوباتها ومشقاتها،أغلبهم مصابون أو مرهقون أو معوقون أو شهداء، لم تجد السلطة أمامها أي حائل في الانقضاض عليهم واقتطاع جزءا مهما من راتبهم التقاعدي.
أما المضحك المبكي في آن، فهو ان هذه السلطة نفسها، ومنذ أقل من سنتين تقريبا،قامت بإقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة لموظفيها بعد سنوات طويلة من الغبن والحرمان،لتعود وبسرعة البرق،وبطرق ملتوية،بإعادة أخذ حقوقهم منهم،في أكبر عملية ضياع واستهتار وتشتت تعاني منها سلطة ما في كافة ارجاء المعمورة، نعم،تنقض السلطة على فقراء لبنان،لا ضيم عندهم في ضرب استقرارهم الإجتماعي والمعيشي،ولما لا ما داموا هم متكاتفتين متحدين،مدعين الخلاف احيانا,يجنون ثروات طائلة في باقي أبواب الموازنة وصولا إلى أبواب الهدر الكبيرة التي تتجنب موازنتهم من الاقتراب منها،فلقد أوصلوا البلاد ولثلاثين سنة خلت،إلى انهيار اقتصادي ومالي قائم ومستمر،دون ان يحاسبهم احد،فما الذي يمنعهم من اضطهاد الطبقات الفقيرة والشبه متوسطة في حياتهم واستقرارهم وحقوقهم المكتسبة بعرق جبينهم وبدماءهم الذي سكبوها خلال خدمتهم من أجل بلادهم وعزتها وكرامتها.