خلال لقائه مع الجالية اللبنانية في نيويورك، حاول الرئيس اللبناني ميشال عون ان يبدو متفائلاً بالنسبة للأوضاع الشائكة السائدة في لبنان.
لذا امتدح الرئيس عون الانتشار اللبناني حول العالم مطلقاً عبارة: «لبنان البلد الكوني».
بالطبع الرئيس عون ليس مخطئاً، وهو من اعتاد على اطلاق او تبني الشعارات الكبيرة. مثل «شعب لبنان العظيم»، والاصلاح والتغيير، وحرب التحرير… واللائحة تطول. وكان آخرها «لبنان البلد الكوني».
لكن لم يسأل فخامة الرئيس وسواه من سياسيي لبنان : «لماذا يتبعثّر اللبنانيون في العالم وما هي اسباب هجرتهم الى الخارج؟
وهل الهجرة اللبنانية هي ظاهرة صحية للوطن، ام انها ناتجة عن معاناة كثيرة وطويلة وتاريخية؟
وماذا فعل سياسيو لبنان على مدى السنوات لوضع حد للنزيف الشعبي لمعالجة اسباب إقتلاع اللبنانيين من ارضهم وجذورهم، ومن الوطن الذي يحملونه في قلوبهم وفي جينات كوينهم. لقد برعوا في الخارج، وحققوا نجاحات في بلدان الانتشار التي منحتهم فرصاً افتقدوها في وطنهم الأم. بلدان تتعامل انظمتها مع المواطنين على اساس الكفاءات، لا المحسوبية والواسطة او «كارت من زعيم…» يوظف أناس فاسدين في مواقع المسؤولية ليحموا ظهورهم كلما اساؤوا الى المال العام والى خزينة الدولة، ويحرموا الأكّفاء والصالحين، دافعين إياهم الى اليأس والهجر. ولا ننسى النزاعات الداخلية على السلطة والولاء الى الخارج وحالات عدم الاستقرار، والثورات المتكررة والطبقية المفروضة على الناس نتيجة لنظام يكرّس الزعامات ويحميها.
يتناسى فخامة الرئيس، ومعه سائر السياسيين ان لبنانيي الانتشار مستاؤون، يتألمون ويهانون بسبب تكريس الفساد وتعطيل الدولة ومؤسساتها، ويخجلون من صور «الزبالة» المكدسة في شوارع بيروت والعواصم الاخرى، والموزعة على ضفاف الأنهر واودية المصايف.
لقد شوهتم صورة لبنان الجميلة، ومسحتم كل ما روّج له لبنانيو الانتشار عن لبنان الحضارة والجمال والتاريخ، وضاعفتم آلام غربتهم ورفعتم من معايير الخجل لديهم. فالدولة العاجزة عن تنظيف ومعالجة «القمامة» المزروعة عشوائياً في المدن، والمبعثرة على ما تبقى من شواطئ لبنان، المطل على الغرب، هي عاجزة ان تتسلم ادارة شؤون البلاد وتنقل لبنان الى مستويات افضل، ليس فقط بالمقارنة مع اوضاعه الحالية الرديئة بل مع الدول الراقية التي تحترم شعبها وقوانينها.
لقد تناسيت، فخامة الرئيس ان تقول للبنانيين في الانتشار ان لبنان تحول الى امارات محمية، وان سياسييه اعادوه الى عصر الحكم التركي، وان الخلافات بين الزعماء لا تمت بأية صلة بالمصلحة الوطنية، لأنها خلافات على توزيع المغانم وسرقة البلد، والهيمنة على مصير الناس وازلالهم. انه خلاف على الامارات، وتناحر على السرقة، بعد ان رفضت الأقلية الحاكمة ادراج قوانين المساءلة والمحاسبة ومعاقبة كبار السارقين، لا بل حمايتهم، لأن فضح احدهم سوف يؤدي الى فضح الجميع وكشف الوجه القبيح ورفع اقنعة الفساد عن وجوه السياسيين في لبنان.
تناسيت، فخامة الرئيس ان تقول للبنانيي الانتشار ان احلامهم الكبيرة وطموحاتهم في دول الانتشار، يواجهها في لبنان سلسلة طويلة من الاحباطات ومشاعر الذل واليأس والتجويع، وهي حالات تولد كل الرذائل.
تناسيت ان تذكرهم ان الوطنية المجردة فقدت لدى العديد من كبار المسؤولين وجرى استبدالها بشعارات فارغة، تستر جشعهم وان استغلال السلطة لتحقيق الإثراء غير المشروع اصبح عرفاً و«شطارة» .. وليمت من يمت، او يرحل مَن يرحل. ولا مانع من استبدال المعترضين والمشككين والمعترضين والمتنورين والوطنيين. فأفواج اللاجئين ينتظرون في مخيماتهم، وقوانين التجنيس جاهزة في «ادراج» الوزراء، ومشاريع السمسرة مع الشرق والغرب تجري على قدم وساق وتبحث في الأروقة المظلمة. فعبارات «نعم سيدنا» افضل من شعارات «طلعة ريحتكم» وفلوا عنّا…» لماذا استغباء الشعب اللبناني الجلود الصابر على آلامه والوطني المتمسك بما تبقى من بصيص الأمل والرغبة في الحياة…!!
نسيت فخامة الرئيس ان تذكّر لبنانيي الانتشار، ان لبنان هو اكبر من سياسييه، واقدس منهم بأشواط، وانه ليس مزرعة، وانهم حولوه الى مغارة لصوص وسوق دعارة وبورصة للعمالة، وربطوا مصيره بمصير شرق ملتهب، وهم يريدون تحرير فلسطين في عصر يتجه فيه العرب للتطبيع والانفتاح على اسرائيل والاعتراف بها.
تناسيتم انه بينما ينعم العالم بالنور والدفء يعيش اللبانيون في الظلمة، بدون طاقة او كهرباء، وبينما تستخرج اسرائيل الغاز من البحر المتوسط يتناطح السياسيون ويختلفون على الحصص ويعجزون عن تأليف حكومة وحدة وطنية قادرة على النهوض بالبلاد من كبواته المتكررة.
كل ما اتمناه ان ينتفض الشعب «المغلوب على امره» والجائع والعاجز عن دفع اقساط المدرسة وفواتير الكهرباء، ويطيح بجميع من احتكروا السلطة وورثوها لأبنائهم.
فلينقض الهيكل على رؤوس السياسيين لأن الشعب اللبناني لم يعد قادراً على تحمل الازلال والاستعباد والفقر والتجويع والمتاجرة بمشاعره وانتماءاته ودم ابنائه…
ان «لبنان الكوني» لم يعد قادراً على منحكم صك براءة بعد ان انتشرت اخبار فسادكم في العالم.
ولبنانيو الانتشار يدركون حق الادراك ان هذا النوع من السياسيين، لو عاشوا في اي بلد اغترابي، لخجل المغتربون من زيارتهم في السجون، وهو المكان الملائم لهم.
فمن اين يبدأ الاصلاح، مع وجود دويلات داخل الدولة، ومن هو الزعيم القادر على ملاحقة الفاسدين، بعد ان اختصروا طوائفهم ومذاهبهم، ورسموا حول رؤوسهم هالات القداسة، واصبحوا من المحرمات التي يحظر المساس بها او التعرض لها؟؟
لبنان، البلد الكوني، حوّله سياسيونا الى مكب نفايات، والى عاهرة تعمل على ارصفته الموبئة. فإلى متى ستدوم هذه الاكذوبة؟