عباس علي مراد
قبل خمس سنوات لم أكن لأقول أنه من الممكن أن نشهد عودة السياسة اليمينية المتطرفة، لم أكن أتوقع أن التهديدات الكبرى للتناغم العرقي ستأتي من داخل برلماناتنا ووسائل الإعلام.
تيم سوفوماصين مفوّض حقوق الإنسان الأسترالي المنتهية ولايته
كلام سوفوماصين هذا كان قبل إلقاء السنتور فريزار أننغ خطابه الأول أمام مجلس الشيوخ، بعد تنصّبه خلفاً لمايكل روبرت الذ ي خسر مقعده بسبب ازدواجية الجنسية، وكان ترتيب أننغ يأتي بعد روبرت على قائمة مرشحي حزب أمة واحدة لمجلس الشيوخ في ولاية كوينزلند. أننغ والذي نال 19 صوتاً فقط من الأصوات الأولية، استقال من حزب أمة واحدة بعد تعيينه مباشرة، والتحق بحزب خطار أستراليا الذي أسسه النائب بوب خطار.
مستغلاً حصانته البرلمانية، ألقى أننغ خطاباً عنصرياً، دعى فيه إلى العودة إلى سياسة أستراليا البيضاء، التي فكّكتها حكومات أسترالية متعاقبة إلى أن أعلن نهايتها رئيس الوزراء العمالي الأسبق الراحل غولف ويتلم أوائل سبعينات القرن الماضي. وكذلك دعى أننغ لإجراء استفتاء غير ملزم حول سياسة الهجرة لوضع حلّ نهائي لهذه المسألة، وأراد أننغ أن يتمحور السؤال حول إذا ما كان الناخبون يريدون وقف هجرة المسلمين أو الذين لا يتكلّمون الإنكليزية من دول العالم الثالث.
لاقت تصريحات أننغ إدانة من كل الطبقة السياسية تقريبا، بمن فيهم زعيمة أمة واحدة بولين هانسون وإن كانت لها أسبابها الخاصة، لأنه وكما هو معروف أن لهانسون مواقف عنصرية مشابهة. الوحيد الذي أيّد تصريحات أننغ كان بوب خطار الذي يشغل مقعد كيندي في ولاية كوينزلند ، وخطار من أصل لبناني قال أنه يؤيّد تصريحات أننغ ألف بالمئة. يشار إلى أن والد خطار كان أول من أزال حواجز كانت تفرّق بين البيض والسود في القاعات العامة وذلك في أربعينات القرن الماضي.
بالإضافة إلى المواقف السياسية نقلت وسائل الإعلام مواقف لكتّاب وإعلاميين حول تصريحات أننغ، وكان لافتاً موقف للكاتب وليد علي الذي تساءل في مقالته قائلاً: « تصّور للحظة أن فرايزر أننغ دخل إلى مجلس الشيوخ وألقى خطابه الشائن ولكن من دون جملة «الحل النهائي» ما كان حصل؟ هل كنا سنرى مثل تلك الإدانة التي شاهدناها هذا الأسبوع؟… ويتابع علي أنه سؤال مهم لأن الجواب يؤكد أننا ندين شكل من الخطاب والكلمات أم مجموعة أفكار» سدني مورنيغ هيرالد 27/08/2018 ص 24. يشار إلى أن جملة «حل نهائي» هي العبارة التي استعملها النازيّون عندما أرادوا التخلّص من اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
إذن، بالعودة إلى التاريخ الحديث في أستراليا، والمشكلة العنصرية التي تطفو على السطح بين الحين والآخر، وإن كانت بأشكال وأساليب مختلفة سؤاء مبطنة وظاهرة على ألسنة السياسيين أو عبر وسائل الإعلام وإعلاميين لهم حضورهم وتأثيرهم.
قبل أسبوعين بلغ عدد سكان أستراليا 25 مليون نسمة، وذلك قبل عقدين على الأقل من أسوأ التوقعات، وأستراليا التي ينمو عدد سكانها أكثر من أي من الدول الغربية 1.6% وبنسبة 62% من هذه الزيادة تأتي من المهاجرين. وحسب إحصاء 2016 فإن 49% من سكان أستراليا أحد والديهما على الاقل مولود في خارج أستراليا أو كلاهما مولدون في الخارج.
نعم، نحن بحاجة ماسة كوطن ودولة لدراسة قضية الهجرة، ووضع سياسة تتناسب مع متطلبات البلاد، ولكن شرط عدم تحويل النقاش باتجاه معاكس ولأسباب سياسية ضيّقة وعلى خلفية عنصرية.
والسؤال الأهم في هذا الأمر هل قامت الحكومات المتعاقبة (الفيدرالية والولايات) ببناء البنى التحتية (طرقات، سكك حديد، مستشفيات، مدارس، مساكن وغيرها) والتي تحدّ من التأثير السلبي والضغط على المواطن في دخله وأسلوب عيشه بسبب تزايد أعداد القادمين الجدد؟
هذا برسم السياسيين، وخصوصا العنصريين الذين يحاولون الهروب الى الأمام من أجل عدم تحمل المسؤولية عن تقصيرهم المزمن، فيقومون بتحميل المهاجرين المسؤولية عما ألت اليه الحال.
أستراليا الدولة الوحيدة التي لم تتأثّر بالأزمة المالية عام 2008-2009، وأستراليا ثاني دولة في العالم لم تشهد ركوداً اقتصادياً على مدى 27 عاماً متتالياً، وحسب فيليب لوي حاكم البنك المركزي فإن أستراليا تستفيد من المهاجرين لأنهم من الشباب ويساهمون في الإزدهار الإقتصادي، خصوصاً الطلاب منهم والذين دفعوا تكاليف تعليمهم، ولم يكلّفوا دافعي الضرائب أية أموال. وهناك شركات كبرى تدافع عن زيادة أعداد المهاجرين، مثل شركة الإتصالات تلسترا والشركات التجارية الكبرى، التي يزداد دخلها نتيجة زيادة عدد السكان. وكذلك فإن الحكومات سواء الفيدرالية أو الولايات تحبذ زيادة المهاجرين، لأنها تساعد في نمو الدخل الوطني (جي دي بي)، وهناك الأحزاب السياسية التقدّمية كالعمّال والخضر التي تؤيّد سياسة التعددية الثقافية وإن كان للخضر بعض التحفّظات على زيادة عدد السكان خصوصاً إذا ما كان لها تأثيرات على البيئة.
والملفت أنه في عهد جان هاورد الأحراري والذي ترأس الحكومة أربع مرّات (11 عاماً من عام 1996 -2007) شهدت أكبر زيادة في أعداد المهاجرين، رغم أن هاورد كان له في العام 1988 تصريحات مشابهة بعنصريتها لتصريحات أننغ تتعلّق بهجرة الآسيويين وخصوصاً الصينيين.
من ملامح تلك العنصرية المبطنة، والإبتعاد عن المناقشة العلمية والواقعية لسياسة الهجرة، فهذه عيّنة من المواقف والتي تحدث عنها مفوّض حقوق الإنسان تيم سوفوماصين، مثلاً بيتر داتون وزير الداخلية والهجرة يدعو إلى استقدام المزارعين البيض من جنوب أفريقيا بحجة تعرّضهم للإضطهاد، وفي نفس الوقت يرفض ورئيس الوزراء إدخال مئات اللاجئين العالقين في جزر المحيط الهادي (ناوروو، بابوانيوغيني ومانوس) وحتى أنهما يرفضان عرض نيوزيلاندا لإستقبال 150 شخصاً منهم، أيضاً حاول كل من الوزير داتون ورئيس الوزراء تضخيم حجم بعض العصابات الجنوب سودانية في ملبورن، وبأنها مشكلة خارجة عن السيطرة، بينما حكومة ولاية فكتوريا تقول العكس تماماً رغم عدم نفيها وجود مشكلة والتي تشكل 1% من نسبة الجريمة في الولاية، وكان داتون قد صرح في وقت سابق من العام الماضي بأن مالكوم فريزر أخطأ عندما سمح بدخول هذا العدد من المسلمين اللبنانيين في سبعينيات القرن الماضي. وكان وزير الخارجية الأسبق الكسندر داونر، وبعد خسارة إبنته الانتخابات الفرعية الأخيرة أواخر الشهر الماضي، قال ان مشاكل حصلت وتصرفات غير مسؤولة وذلك نتيجة تصرفات القادمين الجدد.
محاولة حكومة تيرنبول فرض امتحان لغة انكليزية كالمخصص لطلاب الجامعات للذين يتقدمون للحصول على الجنسية الأسترالية، هذا عدا عن مواقف وتصريحات رئيس الوزراء السابق طوني أبوت والجناح المحافظ في حزب الأحرار لتخفيض أعداد المهاجرين، وهذا ما ينطبق على بولين هانسون التي دخلت الى البرلمان العام الماضي وهي ترتدي البرقع.
تعليقاً على هذه المواقف، يقول رئيس حزب العمال الفيدرالي الجديد واين سوان، أن هذه المساهمة في النقاش حول الهجرة من أمثال داتون لا تساعد في حوار بنّاء حول التخطيط للنمو السكاني في البلاد، ويقول سوان أن شخصيات مهمة في حزب الأحرار تحاول حرف النقاش عن مسارة باتجاه الأعراق لإلهاء المواطنين عن القضايا المهمة خصوصاً الإقتصادية منها (س م ه ص 26 قسم ما وراء الأخبار 18/08/2018)، وحسب المصدر نفسه قال الرئيس التنفيذي لمعهد كراتان جون دايلي أن المعهد يقارب النقاش حول الهجرة بحرص شديد، حتى لا يصبح مجرّد نقاش حول منع هجرة المسلمين والصينيين.
قد لا يكون هناك حلاً سحرياً ولكن كما تقول مانيشا غوبالان في مقال لها في ذي سدني مورينغ هيدالد 16/08/2018 ص 23) أن من حق كل شخص من كل أقلية إثنية يعيش في أستراليا بأن يُحترم كباقي أبناء الوطن، بكل بساطة إن الإستمرار في نفي وجود الأفكار العنصرية سيبقى التكاذب بأن كلّ الأستراليين متساوون…)
وتعليقاً على تصريحات أننغ تقول الكاتبة جاسيكا إيرفين: وقف العمل بسياسة أستراليا البيضاء سبعينيات القرن الماضي كانت جزأ من إصلاح شامل من أجل انفتاح الإقتصاد الأسترالي الراكد على العالم، وهذا الدفع قدّم لنا ازدهاراً ما زلنا نقطف ثماره حتى اليوم، ومن يتمنى وقف ذلك فقط هو مؤرخ اقتصادي فقير (س م ه 16/08/2018 ص 22).
أخيراً، هل ستلقي تلك الأصوات آذاناً صاغية عند الطبقة السياسية، وتصارح المواطنين بالحقائق بعيداً عن الأهداف السياسية الضيّقة والاستعراضات الاعلامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وبالضبط هذا ما فعله طوني بورك وزير المواطنة في حكومة الظل حيث سمى الاشياء بأسمائها، فهل يقتدي رئيس الوزراء ببورك ويقرن القول بالفعل ويجعل أستراليا لسيت أكبر تعددية ثقافية لا بل أنجح واحدة؟!
نأمل أن لا يكون همّ رئيس الوزراء في مكان آخر، وهو تأمين منصبه على حساب الإزدهار والنمو والتناغم في الوطن وبين أبنائه! ويجعل فرايزر أننغ يتيماً فعلاً!
ما يعزز المخاوف، هو أن رئيس الوزراء مشهور بالانقلاب على مواقفه، وحتى القرارات التي يتخذها هو نفسه، والتي كان آخرها التراجع عن الخطة الوطنية لتأمين الطاقة، والتي أعتبرها أول الأسبوع الماضي نصراً بعد إقرارها من الكتلة البرلمانية للتحالف (الأحرار- الوطني)، ليعود وقبل نهاية الاسبوع ويتراجع عن أهم عناصرها، وهو الالتزام باتفاقية باريس للحد من الإنبعاث الحراري بنسبة 26% حتى عام 2030 في محاولة لإرضاء بعض نواب الجناح المحافظ الذين هددوا بالتصويت ضد الحكومة بالإضافة الى تداول أخبار عن تحدي زعامته.