د. ماري سكر
إذا كانت تسوية لبنان قد بنيت على التعدد والاختلاف، فإن التسوية هي الأفق الممكن لرأب الصدع على الصعيد الوطني ،بني لبنان في العشرينات من القرن العشرين على تسوية كما هو معلوم، بحيث تخلى فريق من اللبنانيين عن الاحتماء بالغرب، مقابل تخلي الفريق الاخر عن الالتحاق بالعرب. من هنا كانت الصيغة العربية المخففة: لبنان ذو وجه عربي وعند كل أزمة تتهدد الوحدة الوطنية، بفعل الصراعات الداخلية او التطورات الخارجية، تطرح التسوية من جديد. ولا شك أن اتفاق الطائف كان عبارة عن تسوية جديدة من أجل لأم الشرخ الوطني او وقف الحرب. لقد شكّل تركيبة جديدة حسمت الجدال حول هوية لبنان العربية، ولكنها ساهمت في زعزعة منطق الدولة بقدر ما جعلت لبنان محكوماً بثلاثة رؤساء يمثّلون الطوائف الكبرى الثلاث: الموارنة، السنّة، الشيعة. لقد اصبح لبنان مثلث الرأس، أضعفهم أو أقلّهم قوة هو رئيس الجمهورية. وهذا مفسدة للحكم وتعطيل لعمل الدولة. وها هي التسوية تطرح الآن، في غمرة الصراعات والسجالات، سواء منها المتصلة بالتوازن بين الطوائف او بالعلاقة مع الشقيقة سوريا او بالعلاقة مع سلاح المقاومة، وهي أوجه متلازمة للمشكلة نفسها لكن التسوية ليست مجرد شعار نرفعه بالعقلية والمفاهيم والمثالات نفسها التي مزقت الوحدة وصنعت الحرب، ولا بالسياسات نفسها التي تقود اللبنانيين الى المأزق وتعيدهم الى نقطة الصفر على الصعيد الوطني. وإنما تحتاج الى اعادة صياغة على نحو يحررها من مضامينها السلبية بقدر ما يغذي شعارات الهوية والمواطنة او الحرية والسيادة او التحرر والاستقلال او الديموقراطية والحرية بأبعاد ومقاصد جديدة لذا،فالتسوية هي مراس صعب، إذ هي تُبنى وتتركّب عبر التمرّس بسياسة فكرية جديدة تتغير معها مفردات العمل الوطني، سواء من حيث اللغة والرؤية او المنهج والعقلية او المنطق والمعاملة او الدور والغاية .
قدس اللبنانيون لبنان،نعم ومن يقدّس شيئاً يقع ضحيته او يعمل على انتهاكه. هذا شأن الذين أَلَّهوا لبنان واعتبروه قطعة من السماء او ارضاً مقدسة، ولم يمنعهم اعتقادهم هذا دون العمل على تلويث بيئته او تصحير طبيعته، بتحويله مكباً للفضلات او باستيراد النفايات السامة لزرعها في ارضه. فالأجدى التعامل مع لبنان بوصفه قطعة من الارض ومورداً للرزق، او جزءاً من العالم ومساحة من الحضارة، او تنوعاً ثقافياً نحافظ عليه ونعمل على إغنائه في هذا المعنى يتحول لبنان واقعاً ننخرط فيه، هو واقع حيّ ومتحرك، معيش ومتغير، يساهم جميع ابنائه في تغييره واعادة بنائه. وقد تغير لبنان عما كان عليه قبل الحرب، في خريطته ومشهده، او في قواه ومشروعياته. والذين يريدون العودة به الى الوراء، وكأن شيئاً لم يحدث، يطلبون المحال بقدر ما يقفزون فوق الواقع. ومن يعمل على نفي الوقائع تفاجئه المتغيرات او تهمّشه الاحداث وتقوده الى العزلة. فالممكن هو قراءة الاحداث والمتغيرات على ارض المعايشات، بلغة الفهم لاجتراح قواعد وأطر جديدة في النظر والعمل. وما يحتاج اليه لبنان ليس التبجيل الفارغ والتقديس الذي يحجب واقعه ويلغم قضيته. انه يحتاج الى المحافظة على بيئته والحؤول دون تصحيره، بالاهتمام بتشجيره وتجميله، او بالعمل على تنمية موارده وتحسين شروط العيش فيه. فلا شيء يلغم القضايا أكثر من ادعاءات القداسة وخلع الطابع النهائي او الثابت او الازلي على المشاريع والافعال البشرية، سواء اختُصّ الامر بالحرية ام بالمقاومة.
نحن بحاجة الى كسر النرجسية اللبنانية التي تمارس احياناً تجاه العرب والتي تترجم عنصرية وطنية او بهورة ثقافية او هشاشة وجودية. فالعرب الذين ندّعي أننا متفوقون عليهم حضارياً،
يتقدمون علينا في مجالات كثيرة. والخليجيون الذين نتهمهم بالتخلف أصبحوا بالنسبة الينا مركز استقطاب صحافياً واعلامياً. واذا كنا نخشى منهم على متاجرنا ونسائنا، فنحن الذين نعرض عليهم بضائعنا ونستعرض أمامهم نساءنا الجميلات شبه عاريات على الشاشات. وتلك هي الفضيحة والمفارقة، فالأجدى أن نتعامل مع الغير بلغة التبادل والانتاج. فمن يخلق وينتج لا يخشى على نفسه من الغير، بقدر ما يمارس فاعليته وحضوره وسط المشهدكذلك على اللبنانيين التحرر من النزعة الوطنية الضيقة التي تحاول عزل لبنان عن محيطه العربي، والتي باتت الآن غير ذات موضوع أصلاً، إذ اللبنانيون باتوا مقسومين بين عرب وعرب، أو بين سنّة وشيعة، او بين اسلام وآخر، او بين محور اقليمي وآخر مضاد. فلبنان لم يكن يوماً بلداً مقفلاً، وإنما كان على مرّ التاريخ ارضاً لاستيطان الجماعات واستقبال الجاليات. وهذا شأنه في الزمن الحديث. لقد استقبل الارمن والكرد والآتين من شرق آسيا. فضلاً عن العرب. والموارنة الذين كان لهم المساهمة الكبرى في تكوين لبنان وبنائه قد أتوا من سوريا، ولا يزال البطريرك الماروني يُلقّب ببطريرك أنطاكيا وسائر المشرق. وها نحن نعترف أخيراً بالأقباط الذين باتوا يشكلون طائفة لها مشروعيتها وحقوقها…
هكذا هو لبنان العجيب والتركيبة الخاصة…يتبع