بقلم بيار سمعان

أثار مرسوم التجنيس الذي وقَّعه رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الوزراء ووزير الداخلية موجة عارمة من الانتقادات الشعبية وردود الفعل السياسية. ووصلت ردود الفعل الشعبية إلي درجة «القرف والاشمئزاز» من الطبقة الحاكمة، رغم كل التبريرات والأعذار التي أطلقها مختلف الافرقاء للتلطي وراء إصبعهم الصغير.

لكن دعنا نجري مراجعة متكاملة لما يجري على الساحة اللبنانية وتحليل القرارات والتدابير التي تتخذها الحكومة بشكل أقل ما يقال فيه، انه عشوائي وغير قانوني، ولا يأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية العامة بالدرجة الأولى.

– مراسيم رئاسية:

أصبح عرفاً أن يصدر رئيس الجمهورية مراسيم محددة، خاصة قبل نهاية عهده كمراسيم العفو العام أو التجنيس لأسباب إنسانية.

غير أن مرسوم التجنيس الذي وقّع عليه الرئيس عون في بداية عهده هو دون شك مثير للشبهات، وسأستعرض الأسباب، واضعاً هذا المرسوم في نسق الأحداث والقرارات الداخلية والضغوطات الخارجية التي تمارس على لبنان.

– استراليا والتجنيس، مثال يحتذى به:

شهدت السنوات الأخيرة موجات من اللجوء الجماعي باتجاه أوروبا، كما شهدت استراليا تدفق قوارب طالبي اللجوء غير الشرعيين. وتمكن ما يزيد على 50 الف منهم دخول المياه الإقليمية الاسترالية، وفرضوا أنفسهم كلاجئين غير مرحّب بهم في استراليا.

ورغم الاختلاف في التعامل معهم بين حزبي العمال والأحرار، قررت حكومة الائتلاف مع طوني أبوت وضع حدّ لحالة الفلتان على الحدود وأمرت بإعادة القوارب ومنع دخول من لا تنطبق عليهم معايير الأمم المتحدة للجوء، وحرمانهم بالتالي من حق اللجوء إلي استراليا.

استراليا التي وافقت على قبول عدد من اللاجئين سنوياً التزاماً بتوصيات الأمم المتحدة، لديها معايير واضحة ومحددة للهجرة واللجوء ولمنح الجنسية. وهي شروط واضحة وصريحة وتطبق على الجميع. تمنح استراليا التي تعتمد على الهجرة لرفع عدد السكان، تأشيرات دخول مشروطة، وأحياناً قاسية. فالدخول إلى استراليا لا يعني التجنيس، إذ يتوجّب على الداخل إلى استراليا أن يثبت خلال بضعة سنوات، انه مؤهّل للحصول على الجنسية الاسترالية، وليس لديه أي سجل قانوني ويلتزم بقوانين البلاد…

الحالة الاسترالية باعتقادي تطبّق في معظم دول العالم التي يلتزم قادتها بتطبيق القوانين، ما عدا لبنان حيث تُجيَّر القوانين لمصلحة الطبقة الحاكمة.

غير ان شروط منح الجنسية للأجانب هي واضحة ومشددة. لكن تطبيق القوانين في لبنان هو استنسابي تحدده مصالح الطبقة الحاكمة وغياب المساءلة والاستخفاف بعقول المواطنين…

– مرسوم التجنيس ومخالفة القوانين:

بعد الضجة التي أثيرت حول مرسوم التجنيس بدأ المعنيون بمراجعة ما اقترفوه. من المفترض أن يوقّع رئيس الجمهورية عليه إلي جانب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، بعد أن يكون الأمن العام قد أجرى مراجعة دقيقة لكل شخص وردت اسمه في لائحة المتجنسين.

وتبين أن الأمن العام لم يطلع على الاسماء، لذا دعا رئيس الجمهورية المواطنين للتعبير عن ملاحظاتهم حول أسماء المجنسين، بالرغم  أن الرئاسة رفضت الإفصاح عن أسماء الأشخاص الواردة أسماءهم، بعد أن تقدم النائب سامي الجميل بطلب رسمي للحصول على اللائحة والشروط والمعايير التي اعتمدت لمنح هؤلاء الجنسية اللبنانية.

ان اثارة التساؤلات تبدو محقة إلى درجة معينة خاصة ان مرسوم التجنيس لم يذكر الدوافع لمنح هؤلاء الجنسية اللبنانية، كما أن لم يأت على ذكر الزسباب والشروط التي دفعت الرؤساء لقبول تجنيس عدد لا يعلم أحد حتى اليوم كم هو؟!

وتبين من اللوائح المسرّبة وجود عدد لا يستهان به من الشخصيات ورجال الأعمال السوريين المقربين من حكم بشار الأسد، وضعت أسماءهم على اللائحة السوداء والعقوبات الدولية.

وهذا ما يطرح تساؤلات عديدة حول الأسباب الوجيهة التي دفعت الرؤساء إلى قبول تجنيسهم، وما هو الثمن الذي دفع مقابل حصولهم على الجنسية اللبنانية؟.

وهذه تساؤلات مبررة في ظل التعتيم الذي رافق عملية التجنيس.

-المادة 49 والمادة 10

ويجب عدم النظر إلى عملية التجنيس التي سعى البعض إلى تمريرها بالخفاء، دون الأخذ بعين الاعتبار محاولة أخرى أشد خطورة، عندما حاولت الحكومة تمرير قانون إقامة الأجانب عبر إدراجه في ميزانية الحكومة لعام 2018.

فالمادة 49 تسمح للأجانب بالحصول على الإقامة الدائمة في لبنان مقابل شراء مسكن بقيمة 300 ألف دولار. وفي نفس المرحلة أصدر حكم بشار الأسد المادة العاشرة التي تمنح اللاجئين فرصة شهر واحد للعودة إلى أرزاقهم تحت طائلة خسارتها نهائياً بعد هذه المدة. وهذا يعني أن مليون ونصف لاجئ سوري مقيمين في لبنان يخشون العودة إلى سوريا قد يرغموا للبقاء على أرضه.

لنتذكر أيضاً ان الاتحاد الأوربي طالب صراحة الحكومة اللبنانية بمنح اللاجئين «حق العمل والإقامة» في لبنان كشرط للحصول على مساعدات مالية، لإنقاذ الحالة الاقتصادية الرديئة.

كذلك فعلت منظمة الأمم المتحدة التي طالبت تحت شعار العدالة للاجئين السوريين ضرورة منحهم حق الإقامة ريثما يجري معالجة الأزمة السورية.

ويأتي قرار التجنيس ضمن هذه الأجواء واعتبر البعض أن مرسوم التجنيس هو مجرد اختبار لمدى تجاوب اللبنانية وقبولهم بالتجنيس لبضعة مئات من الشخصيات من سوريا وإيران والأردن وغيرها من الدول، فنجاح تمرير عملية التجنيس هذه قد ترسل مؤشرات أن الشعب اللبناني المنهك بسبب المعاناة الاقتصادية، لا يبالي، ومن ينجح في تمرير القليل، قد يتمكن من فرض الكثير لاحقاً.

لكن يبدو أن حسابات الحقل لم تتلائم مع حسابات البيدر، بعد الموجة العارمة من الانتقادات والتشكيك في دور ونوايا المسؤولين والتقصير من قبل الأجهزة، وطرح التساؤلات حول حجم الأموال التي دفعت لتجنيس بعض المتمولين «الملاحقين دولياً». ولم يعلن عن حجم هذه الأموال ومن هم الأشخاص الذين قبضوا ثمن هذه الصفقة؟؟.

– جهل أم غباء أم تآمر..

ويتساءل أي مواطن عاقل حيال تراتبية الأحداث والمواقف الدولية ونوعية أهل الحكم في لبنان؟؟

هل هم مغفّلون لا يفقهون السياسة؟، أم أن المصالح الشخصية أعمت بصيرتهم واستفادوا من حالة الإرهاق الشعبية لقبض الملايين بواسطة مرسوم تجنيس «لا يستحق كل هذه الضجة». لأن الجنسية اللبنانية ليست ذات أهمية حسب ادعاء إحدى المذيعات على قناة الـ OTV.

أم أن مَنْ يحكمون البلاد غارقون حتى أنوفهم في المؤامرة على لبنان وشعبه ومستقبله، وهم ربما يشعرون بالعجز، لكثرة السرقة، أمام إنعاش الاقتصاد ودفع الديون المنهوبة من المال العام، ويئس هؤلاء من استعادة القرار اللبناني، فصمموا على بيع آخر حفنة تراب من الوطن، قبل الانهيار الكبير.

وهل تناسى هؤلاء أن الدعوة الأوروبية ونداءات الأمم المتحدة ليست بعيدة عن الأهداف التي طرحت في مطلع الحرب والتي تقضي بتحويل لبنان إلى بلد بديل لفلسطين، أضيف إليه الآن بند آخر حول إعادة ترسيم المنطقة وخلق كيانات جديدة، ولبنان من ضمنها.

مَنْ يرفض الإقرار بهذه الحقائق، هو إما جاهل أو تبعي أو متآمر. فالبند 49 هو مجرد خارطة طريق للبنان جديد يرفضة اللبنانيون بأكملهم.

-العودة عن الخطأ فضيلة!

وأخيراً رأى رئيس الجمهورية خطورة قرار التجنيس، فتريث بإصدار هذا المرسوم وأحال الملف إلي الأمن العام للتدقيق اللازم بالأسماء المعينة به ويا ليته فعل ذلك قبل توقيعه له.

هذا الموقف أكد مرة أخرى أحقية المخاوف التي رفعها أصحاب المواقف الوطنية. كما أكد أن المرسوم لن يمر بطرق «تهريبية» ملتوية لغايات في نفس يعقوب وأصحاب المصالح والسمسرات، وما أكثرهم اليوم في لبنان.

فسحب المرسوم أصبح حاجة ضرورية للحؤول دون انفجار فضيحة كبرى قد تكشف عن هوية الأشخاص الذين يقفون وراءه وعن حجم الأموال الضخمة التي تلقوها لقاء ذلك.

والحقيقة الثابتة اننا نعيش في دولة هشة وسلطة مستهترة أصبح المواطن فيها يخشى من بطش وسوء إدارة الحكام، أكثر مما يخشى العدو الصهيوني.

الحقيقة الثابتة أن مصداقية الدولة أمام الشعب باتت في أدنى المستويات، وهذا بداية والتغيير أو الانهيار.

فهل سيستفيق اللبنانيون ليجدوا وطنهم قد أصبح «الوصلة الأخيرة» من الهلال الشيعي الذي يمتد من طهران إلي بيروت؟؟.