بقلم هاني الترك OAM
منذ نحو 25 عاماً كان الطفل البريء نجيب داود يبيع التين مساعدة لوالده في شارع رئيسي في بيروت .. وقفت سيارة امام بسطة التين وترجّل منها شخص بهيبة غير عادية .. اشترى من نجيب صندوقاً من التين .. سأله كم ثمنه فأجاب نجيب: «ليرتين» فسلمه الملك الليرتين. هنا تعرّف والد نجيب على ان المشتري هو الملك حسين واخبر ابنه نجيب.. سأل نجيب الملك هل انت حقاً الملك حسين؟ اجاب الملك : انا هو.. وهنا لم يصدّق الطفل البريء عينيه فقال للملك. انت لست الملك ولو كنت الملك لأعطيتني اكثر من ليرتين.. اعجب الملك حسين بشجاعة وبراءة الطفل فأعطاه خمسين ليرة.
حدثت تلك الواقعة حينما كان الملك حسين في زيارة الى لبنان للاجتماع مع رئيس جمهورية لبنان آنذاك كميل شمعون.
الصدفة تحدث في حياة البشر .. اما تلك الصدفة النادرة بلقاء الطفل مع الملك حسين بدت بعد ذلك انها قدر مكتوب من عند الله.. فكانت لها آثار كبيرة على حياة الطفل .. فقد اعجب ملك القلوب حسين بالطفل واحبه .. والقلب الكبير للطفل احبّ الملك.. وبدأت العلاقة التاريخية بين الملك الملهم وطفل التين تتجسّد. دعاه الى البلاط الملكي ونمت الصداقة بينهما.. اخذت الصداقة تنمو وتشتد حتى اصبحا بمثابة صديقين مخلصين.. واصبح يتردّد الشاب نجيب على بلاط الملك في اي وقت يشاء وتعرّف على العائلة المالكة واصبح صديقاً مقرّباً لها.. واستمرت حتى الآن مع الملك عبدالله.
لقد احس الملك حسين منذ الوهلة الاولى بإحساس داخلي بالطفل بأنه طفل غير عادي استثنائي منحه صداقته .. وبالفعل خلّده الطفل حينما كبر.. فقد تفجّرت موهبة نجيب الشعرية واصبح شاعراً مرموقاً.. ملهماً علاقته مع البلاط الملكي .. ومعجباً بسياسة الملك واتحف الشعر بقصائد وجدانية عن الملك وحكمه العادل.
وكان يوماً حزيناً بكت فيه السماء اذ استيقظت الأمة الاردنية في يوم لا يُنسى على فاجعة وفاة الملك حسين.. فتجمعت الأمة جمعاء واقيمت جنازة القرن العشرين.. ووريت جثته الثرى .. ولكن ذكراه خالدة في حياة شعبه.
أثّر رحيل الملك الى العالم السرمدي على كيان الشاعر نجيب.. هزّ مشاعره وألهب عاطفته وتحركت كل قطرة في دمائه وتحولت الى كلمة شعر تندب حزناً وعذابا.. فنعاه في قصائد متألمة ولكن تفتخر بحكمه التليد وحكمته وشخصيته الفذة حيث وصفه بأبيات شعره بالنقاء والذكاء والتقوى والعبقرية وكلها في قلب واحد ينبض بالحب ستظل عظمته الى ابد الابدين.
لقد رحل الملك حسين عن دنيانا بعد ان امضى 47 عاماً من حياته في قيادة المملكة الاردنية الهاشمية في سياسته الرائدة نهجها الحكمة والرؤية والعدالة.. والكمال لله وحده.. جعلت من الأردن نموذجاً يُحتذى به بين العرب رغم محدودية امكانيته والظروف الصعبة التي كان ولا يزال يمر بها العرب.. فأصبح الاردن ملاذاً للاردنيين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين.. وكل المتألمين والمشردين من الدول العربية التي انهكتها الحروب.. لقد رحل الملك العظيم عن دنيانا.. ولكن سجّل التاريخ سيرته بأحرف من نور.. لأن التاريخ لا يذكر الا العظماء.
وبمناسبة الذكرى 19 لرحيل الملك حسين وبحضور لفيف كبير من ابناء الجالية الاردنية والعربية الأوفياء .. احيت الذكرى الاسرة الاردنية التي اطلق اسمها الملك ذاته اثناء زيارته لاستراليا عام 1976 .. في قاعة الاسرة ذاتها التي تبّرع في شرائها الملك من جيبه الخاص بـ 20 الف دولار.
ومن ضمن الحضور الاشخاص الذين القوا كلمات الذكرى السفير الاردني لدى كانبرا الدكتور علي كريشان، والشاعر نجيب داود، ورئيس الاسرة الاردنية جريس عباسي.. وعريف الحفل جيرمن الماعط ابو لؤي.. وعاشق الشعر فوزي جبارات.. والكاتب ميخائيل حداد.. ومن التلغراف الزميل هاني الترك.
وفي الذكرى الحزينة مساء الجمعة كرّمت الاسرة الاردنية شخصيات نشطة في الجالية .. وتخليداً للقاء الذي لا يُنسى بين نجيب والملك قدّم الدكتور كريشان هدية قيّمة لعاشق كلمة الحق الصديق الوفي للملك .. الذي ألهم الملك في الطفولة.. فألهمته صداقة الملك.. فخلّده في شعره.. انه الشاعر الملهم نجيب داود.