في مطلع سنة 1971 كنت متوجهاً من طرابلس الى بيروت على متن «بوسطة الاحدب» لألتحق بجامعتي في الآداب والعلوم الاجتماعية.
كنت آنذاك في مطلع العشرينات. جلس الى جانبي في الجهة المقابلة رجلان من طرابلس في الستينات من عمرهما.
وخلال الرحلة التي تدوم حوالي ساعة ونصف، انطلق الرجلان في حوار وجداني، بينما كنت اقرأ كتاباً لأستفيد من الوقت الضائع. غير ان حديث الرجلين لفتا انتباهي. فاصغيت اليهما دون ان اشاركهما الحوار.
باختصار، كان الرجلان يتساءلان مَن سيكون الزعيم العربي المسلم بعد غياب الرئيس جمال عبد الناصر؟ وكان ناصر قد توفي في 28 ايلول 1970. استرسل الرجلان باستعراض اسماء السياسيين دون الوصول الى توافق بينهما.
لا انكر ان تساؤلات الرجلين والحوار الدائر بينهما اثار دهشتي. فأنا لم اكن اتوقع ان يطرح مواطن لبناني مثل هذه الاسئلة بشأن زعيم غير لبناني. فما لنا وعبد الناصر او اي زعيم آخر لا رأي او دور لنا في اختياره فهو زعيم بلد آخر، . وبالتالي يجب الا يؤثر على حياتي كلبناني… لقد اسفت سابقاً لوفاة الرئيس الاميركي جون كينيدي، وهو الرئيس الكاثوليكي الوحيد الذي وصل الى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، فجرى اغتياله في سنة 1963، لكنني لم اطرح تساؤلات كالتي يطرحها هذان الرجلان، بالرغم من تقديري واعجابي بالرئيس الاميركي، ونظرتي السياسية «المتحررة» والشمولية للأوضاع الوطنية والاقليمية والدولية، لم اشعر انني معنى بهذا الحدث وابحث عن بديل له يتناغم مع تطلعاتي السياسية.
لكن مع مرور الزمن بدأت اكتشف انه بالنسبة للكثير من اللبنانيين، يصعب فصل الدين عن السياسة، وغالباً ما يكتسب رجالات السياسة في بلادي هالة من الألوهية وسلطاناً غير قابل للانتقاد او التجريح او المساس به. ويتحول الزعيم السياسي لدى البعض الى «تابو» ويدخل في لائحة المحرمات الاجتماعية، حيث تمتزج الاعراف الاجتماعية مع المقدسات والمصالح والروح القبلية. لذا يختصر الزعماء في لبنان والشرق الاوسط عامة المكونات الاجتماعية والدينية التي يمثلونها ويصبح انتقادهم وعدم احترام «قدسيتهم» المكتسبة هو انتقاد للمجموعات التي يمثلون على المستوى السياسي، بعد ان اختلطت السياسة بالعقيدة والشعور القبلي والمكاسب المادية وروح التسلط والاستقرار النفسي…
باعتقادي ان هذه هي بعض الخلفيات التي تفسر ردود الفعل التي ظهرت نتيجة الكلام الذي اطلقه وزير الخارجية في لبنان جبران باسيل وانتقاده لرئيس مجلس النواب وزعيم حركة امل الاستاذ نبيه بري.
فالنزول الى الشارع، وعرض الاسلحة واطلاق الرصاص وحرق الدواليب وتهديد بعض المناطق المحسوبة على «الطرف الآخر»…كل هذه السلوكيات غير الاجتماعية او المنضبطة هي مجرد رساذل للأخرين انه لا يسمح المساس بأهم رموزنا السياسة او التعرض لكرامته. فهو «خط احمر» ومن المحرمات التي يحظر الدنو منها، فكرامته من كرامتنا، واذلاله هو اذلال لنا جميعاً، حتى ولو ضربت البلد» وعاد لبنان الى اجواء الحرب الاهلية.
للأسف الشديد، هذا الواقع السائد في لبنان انه مجرد دليل آخر لعدم وجود دولة متماسكة في لبنان، وان مفهوم الوطن والاستقلال والكرامة والازدهار و.. يختصرها بعض الاشخاص من القيادات السياسية. فتحول لبنان الى بلد «على قياسهم» عوضاً ان يرتقي الجميع ليصبحوا بمستوى وحجم «البلد الرسالة».
< المشكلة اخطر من الكلام
مضى اثنا عشرة عاماً على «وثيقة مار مخايل» بين حزب الله والتيار الوطني الحر. هذه الوثيقة وفرت غطاءً مسيحياً للمقاومة في زمن ارتفعت فيه اصوات معظم اللبنانيين الذين طالبوا بنزع السلاح من يد جميع اللبنانيين ودعم الجيش اللبناني دون سواه.
ولا شك ان هذه الوثيقة حافظت على نوع من توازن القوى بين الطوائف، في مرحلة ما، لكنها مع تعاظم قدرات حزب الله العسكرية وانخراطه في نزاعات اقليمية، كرست وجود دولة طائفية الى جانب وعلى حساب قيام الدولة وقدرات الجيش اللبناني.
وفيما استفاد حزب الله من هذا الغطاء المسيحي ومن قدرات الجنرال عون المعنوية والسياسية، لم يتسفد التيار الوطني الحر بالمقابل من تحقيق مكاسب او استعادة ما خسره المسيحيون طوال مرحلة الاضطهاد والعزل والاستبعاد وسجن رموزه السياسية.
لكن بالمقابل، وتحت الغطاء المعنوي والتحالف مع حزب الله، تمكن الرئيس نبيه بري من تحقيق مكاسب عديدة، مستفيداً من سلاح المقاومة وموقعه السياسي الرائد، وحنكته السياسية. كمااستفاد من غياب قوانين المحاسبة او المساءلة. فمنذ التسعينات حتى يومنا هذا ، يتهم البعض ان الرئيس بري انه لم يتردّد من توظيف انصاره عن حق او دونه، كما وضع يده على ممتلكات عامة وانشأ جمعيات خيرية وهمية او محبوسة عليه، ومدها بالاموال الطائلة، مستفيداً من موقعه، ومن النفوذ الشيعي بشكل عام والدعم السوري له وغياب المساءلة من قبل حزب الله المنهمك في امور وقضايا اكبر من الوطن والمصالح المحلية.
كما شعر المسؤولون في التيار الوطني الحر ان الاستفادة، في بلد يقوم على المحاصصة وتوزيع المغانم، لم تكن مشتركة. وعجز التيار من استعادة ما فقده المسيحيون من مواقع وامتيازات منذ حكم الرئيس الهراوي حتى هذه الايام.
حتى ان انتخاب الجنرال عون لم يصبح ممكناً لولا دعم القوات اللبنانية ومؤازرة سمير جعجع الذي اقنع الرئيس سعد الحريري بضرورة تأييد الجنرال عون لوقف الفراغ السياسي بعد مرور سنتين ونصف دون رئيس جمهورية للبلاد فضاع لبنان في مقولة «هذه عين وهذه عين… ويصعب الخيار بينهما!!
فدخول القوات على الخط والتقارب مع «التيار الوطني» اعاد النبض والأمل الى الشارع المسيحي ، كما ادى التفاهم بينهما الى طرح الأمور الكبرى التي تعيد بناء الدولة وتعيد للمسيحيين حقوقاً فقدوها على مدى عقود..
< الانتخابات
لا شك ان معظم اللبنانيين ابتهلوا لعودة الرئاسة الاولى، كما رحب المسيحيون بتقارب القوات والتيار، واملوا ان يتمكن الرئيس عون القوي من استعادة الدور والامتيازات للفريق المسيحي. لكن بعد مرور عام ونصف والتوصل الى وضع قانون جديد للانتخابات، بدأ كل فريق يعيد حساباته على الارض. كما لجأ المواطنون الى اجراء تقييم لمجريات الامور ولعمل الحكومة والمجلس النيابي المجدد له اكثر من مرة ودون حق.
رئيس التيار الوطني الوزير جبران باسيل، الذي طرح نفسه مع تياره ممثلاً لأغلبية المسيحيين في لبنان وامل ان يستعيدوا دورهم وحقوقهم، يواجه واقعاً مسيحياً يشكّك بقدرات العهد ولو همساً. فتعاظم دور حزب الله من جهة وتوفير غطاء سيالسي له، واستمرار الفساد وخلاف رجالات السياسة والكتل على توزيع المغانم، فيما الشعب لا يزال يعاني من الفقر والزبالة وغياب الرعاية الصحية وعدم قدرته على دفع الاقساط المدرسية، بالاضافة الى الخلافات حول معالجة قضايا استخراج الغاز من البحر والكهرباء ومعالجة القضايا الاقتصادية الحيوية.. كل هذه الامور وضعت الوزير جبران باسيل وما يمثل في مرمى الانتقادات الشعبية، واثرت بالتالي على شعبية التيار الوطني الحر وقدرته على تحقيق الفوز الكاسح في الانتخابات خاصة بعد ان اهتزت العلاقات مع القوات في اكثر من موقع وقضية ، وفي معالجة الفساد داخل الحكومة والمؤسسات.
«البحصة» التي تخوف الحريري ان يبقها، لم تردع جبران باسيل من الافصاح عن الحقيقة، كما يراها. وباعتقاده ان الرئيس نبيه بري هو المسؤول الاول عن حركة التعطيل في البلد. فهو يتحكم، حسب رأيه، بالسلطة التشريعية، لكنه يقفل البرلمان متى يشاء ويفتحه مَتى يريد، ويعطل مناقشة المشارع والاقتراحات القانونية. هذا بالاضافة الى الاستفادة المادية وتجيير السلطة لتعويم اتباعه بشتى الوسائل.
اراد جبران باسيل ان يضع الملامة على الثنائي الشيعي. فلم يتردد في توجيه الاتهامات لرئيس منظمة امل وللمقاومة التي تعيق قيام الدولة . لقد اراد محاسبة آخرين قبل ان يحاسبه الناخبون في صناديق الاقتراع.
من الناحية السياسية، يحق لأي مواطن ان يوجه انتقاداته لمن يريد، لكن خطأ جبران باسيل انه استخدم عبارات تخلو من الديبلوماسية ومراعاة مشاعر الآخرين. ولو اكتفى باسيل بالمضمون السياسي دون تحويل الخلافات الى نزاع شخصي لامكنة تسجيل نقاط لصالحه، خاصة ان البعض يتهمه بالمشاركة في الفساد والاستفادة من الوزارات التي تسلمها سابقاً.
لقد تناسى جبران باسيل ان الزعامات السياسية في لبنان اصبحت من «المحرمات الاجتماعية والدينية» في نظام طائفي يفتقر لمحاسبة المسؤول وملاحقته قانونياً، او حتى مساءلته.
خطأ زعيم حزب امل وراعي الشرعية والقانون في البلاد انه لجأ الى الشارع للرد على انتقادات باسيل، فكان الرد اسوأ من الخطأ الاول، خاصة في ظل الاجواء المتوترة داخلياً واقليمياً.
ان الفعل وردود الفعل يثبتان مرة اننا لا نعيش في ظل دولة، بل في اجواء امارات ومحميات سياسية وطائفية.
فعلى السلطات الامنية والقانونية وبقرار سياسسي مشترك، ملاحقة جميع من حملوا السلاح ونزلوا الى الاحياء والشوارع واعادوا اجواء الحرب الاهلية الى البلد الذي يسعى للنهوض وبناء الدولة. اذ لا يمكن ان يطبق القانون على المواطنين الابرياء المغلوب على امرهم دون ملاحقة من يبيحون سلامة الشعب والسلم الاهلي.
ان اخطاء جبران باسيل، فلا مانع من ملاحقته قضائياً، لكن الاخلال بالسلم الاهلي هو خطيئة مميتة لا تغتفر.
لذا الدولة بكامل كادراتها هي امام خيار واحد لا غير: اما الالتزام بقرار اعادة بناء الدولة ومعاملة الجميع تحت سقف القانون، او الاكتفاء بالمحاصصة وتوزيع المغانم على من فرضوا انفسهم وكلاء طوائف واحزاب».
وهل ينفصل التيار عن حزب الله بعد ان اصبح السلاح مشكلة وطنية . لذا قارب جبران باسيل العلاقة مع حزب الله من بوابة نبيه بري؟؟