بقلم عباس مراد

في كتابه الحب السوري المدرحي الصادر في طبعته الأولى في تموز2017 عن دار فكر للطباعة والنشر والذي يقع في 358 صفحة، يحدد الدكتور ادمون ملحم اتجاه البوصلة ولا وهم عنده ولا وهن، حيث فِكر سعادة وسوريا الطبيعية وسلامة أرضها ووحدتها ورقي ورفعة أبنائها هي الأسس التي نبني عليها لمستقبل أكثر إشراقاً.
يقف د. ملحم على أرض عقائدية قومية إجتماعية صلبة، زرع بذورها ورعاها الزعيم أنطون سعادة منذ وقبل تأسيس الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1932 حتى إشتشهاده غيلة على يد القوى الرجعية العربية في 8 تموز عام 1949، لأنهم أدركوا أن صاحب هذا الفكر ومشروعه القومي يشكّل خطراً على مصالحهم المرتبطة بأعداء الأمة وشعبها.
يحدد د. ملحم أعداء الأمة وخصومها، عارضاً للتحديات الوجودية، ومنابع القوة ومواطن الضعف، يضع الخطط، يقترح الحلول معتمداً قواعد علمية عدّتها الفكر، العقيدة، الثقافة، الأدب، السياسة والإقتصاد، الحلول المرتكزة على المقومات الحضارية لهذه الأمة، ولا يستثني د. ملحم المقيمين ولا المغتربين، فلكل منهم دوره في الصراع الوجودي مع عدو الأمة المسلح بأساطير تلمودية توراتية مزيّفة (أرض الميعاد، أو أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) ويلحّ ملحم على مواجهة تلك الأساطير، وكيفية المواجهة التي يحدّدها في الخطة القومية وفي المشروع القومي الطبيعي (ص72) وكنوز أساطيرانا الثمينة، كقلقامش والبعل وقدموس وتموز وأدونيس (ص95) ويحذّر ملحم من السلم الإسرائيلي، خطره وكيفية مواجهتِهِ (ص101). ويقول نحن جماعة تعشق الصراع لأنها تحب الحياة والحرية وترفض العيش الذليل (ص224). ويحذر من مثالب النزعة الفردية والتي يشدّد سعادة على مكافحتها كمكافحة الإحتلال الأجنبي (ص157) هذه النزعة التي تُضبَط بالوجدان القومي.
وهنا أحب ان أشير إلى مقالة مهمة في مجلة العربي العدد 706 أيلول 2017 للكاتب الفلسطيني محمد الأسعد بعنوان « قراءة في ثقافة عنصرية تربية الأساطير!» تنطبق على ما حذّر منه د. ملحم بخصوص السلم الإسرائيلي. ويقول الاسعد هناك 16250 خطأ في الكتب المدرسية المخصصة لتعليم الطلاب العرب
يوضح د ملحم معانٍ كثيرة قد تلتبس على البعض أو من يُسيئون الفهم كما يحاول البعض الآخرالإصطياد في المياه العكرة، فمثلا بالنسبة لإحتفال الحزب بمولد الزعيم يقول ليس عبادة للشخص ولا تعبّد لشخص أنطون سعادة مجرداً عن التعاليم السورية القومية الإجتماعية.. (ص190)
يضيء د ملحم أيضاً على قضايا مفصليّة مثل القضيّة الكرديّة ومعاناة الأكراد، والعوامل المسببة لها سواء الذاتية او الخارجية عارضاً للحل القومي الكفيل بإنقاذ الأكراد من ويلاتهم، ومعالجة مسألتهم معالجة جذرية بعيداً عن الحلول الجزئية والمرحلية والغامضة (255ص).
وعن نشؤ الكيان اللبناني يجيب د. ملحم عن السؤال عارضاً لإتفاقية سايكس- بيكو وتقسيم سوريا الطبيعية وموقف الحزب الذي يَعتبر بأن هذا الكيان اقتضته ظروف تاريخية وسياسية ومستعيداً قول سعادة :» إذا كان هنالك سبب موجب للإستقلال الإداري أو السياسي فليس هنالك ما يوجب الإنفصال عن القومية السورية التي هي نتيجة الواقع الطبيعي الإجتماعي السوري..»(ًص240).
وعرّج د. ملحم على العديد من المسائل والتي هي على تماس مباشر مع حياة المواطنين متصدياً لها بعمق تحليليّ كإصلاح المجتمع المدني وبناء الدولة الحديثة (ص299) مميزاً بين الإصلاح الشكلي الذي يعتمد الكذب والخداع، والإصلاح الحقيقي الذي يتحقق بفعل الإرادة الواعية والعقل المبدع (ص305).
وفي ما خص الإرهاب، يرفض د. ملحم الإرهاب ويفصل بين المقاومة والإرهاب على أساس أننا من أكثر الشعوب إكتواءً بالإرهاب المنظم والعدوانية الصهيونية (ص265). وعن حقوق الإنسان يرى ملحم إن الغرب كاذب في إداعاءاته ولا تهمه القيم الإنسانية وحقوق الانسان ولا يفهم إلا لغة مصالحه…(ص291).
إذن، من وسط ركام الإنهيارات الكبرى سياساً، إجتماعياً، فنياً، ثقافياً، وإقتصادياً يطلّ علينا د. إدمون ملحم ليضيء الدرب ويفتح كوّة لإعادة ترتيب الوضع حتى لا نبقى جسداً بلا روح مستلهماً أخلاق سعادة الذي قال:» إذا كنتم ضعفاء وقيتكم بجسدي وإن كنتم جبناءَ أقصيتكم عني وإن كنتم أقوياءَ سِرت بكم الى النصر» (ص337) وهذا ما كان عليه سعادة في ممارسته الحياتية حيث لم يطلب من أبناء عقيدته شيئاً إلا وفرضه على نفسه، لا بل تقدمهم (ص197) بهذا التفكير الغائي الواضح من أجل حياة أرقى وأفضل وأجمل (ص318) وكما يقول د. ملحم إن عملية التأسيس التي بدأها سعادة مستمرة لأن غايتها تأسيس فكرة الأمة في عقول أبناء الشعب لتكون القاعدة الثابتة التي على أساسها يبنى أي عمل قوميّ نهضويّ. (ص171)
هذه هي المدرحية الدعوة الحقيقة لبناء مجتمع أمثل، خالٍ من التعسف والتعنت العرقي والفساد الأخلاقي وكل أشكال التفرقة والإنقسامات الإجتماعية، وهذا ما يؤكده سعادة حين يقول:»متى وَجَدَ الإنسان الحب فقد وجد أساس الحياة والقوة التي ينتصر بها على كل عدو» (ص274-275).
تأتي أهمية الكتاب لأنه مرجع ووثيقة تاريخية قوميّة مهمة، وعمل إيحائي يحيي الذاكرة وينافح عن الهوية القومية، ويعزز النظرة للوحدة الثقافية، الإجتماعية، السياسية، الجغرافية والإقتصادية ويدخل في باب الدراسات المستقبلية.