بقلم رئيس تحرير «مجلة النجوم»/ وديع شامخ

عندما كان المعلم الأول سقراط  يختلي بتلاميذه  في زاوية من بيته المُشع بالشبهات، بلا عصا  ولا سماء ، كانت زوجته ترميه بأبغض النعوت، وحين تضجر وتتذمر من صبره، تصب الماء عليه وعلى التلاميذ ،
فيقول : شكرا لآلهة الأولمب التي أوحت لزوجتي أن تطفيء الحريق الذي أشعلته بيني  وبين  تلاميذي !! .
…………..
التمكن من النفس بحضورالوعي الثاقب والرؤية الواضحة ، يجعل الرسالة ومرسلها في موقع الأمان الفكري والأخلاقي معا.
لذا يحفل الموروث الانساني والعربي ايضا  بمجموعة من الأمثال التي  تُعد منظومة تحذيرية من الوقوع في المحظور، ورغم لبوسها الوعظي  ولكنها تمثل جانبا مهما من جوانب الرؤية الكلية للحياة  إزاء التوقع  والاحتفاء بالذات حدّ  العصاب المرضي ، أو الذهاب الى  الآخر بعصا  التهديد والوعيد .
…………..
إن مثالاً يتداوله الكثير « اذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس  بحجر « يمثل  خلاصة التجربة الانسانية في العيش مع الذات بسلام  أو الانتقال الى موقع العبث بذوات الاخرين .
وهذا المثل لا يقرأ إلا بطريقة رمزية ليكون رسالة تامة ، فبيت الزجاج يعني الوضوح أولا  والشفافية والانفتاح  للآخر ، كما للضوء وهو يخترق الزجاج بمرونة عالية ، كذا الرؤية ، وهذا بتقديري احتفاء الإنسان بذاته المشاركة للآخر ،فبيت الزجاج هنا كناية على الانكشاف  وليس الضعف ، ولكي يكمل المثال عبرته ، ذهب الى الساكن المستقر بفرادته الزجاجية المكشوفة للآخر كي لا يقتحم الآخرين  بحجارة الفضول .
…………..
عندما نحتفي بذواتنا كبيوت زجاجية فنحن نكرمها مرتين ، مرة حين نضع ذواتنا كمركز  لنا في هيبة لامعة ، واخرى عندما ندعو الآخر الى وليمتنا ، سيما وأن المتمكن  المرهف الموهبة لا يخشى من الانكشاف بقدر سعادته بالبوح .
لذا فبيت الزجاج هو خلوة الروح وصفاؤها، ومائدة تسع غير المصابين بعسر الهضم  والعشو النهاري والليلي معا.
…………..
أما ان يكون المثل كعصا ووصية ناجزة  فعلينا تلمس العبرة التي تترشح من الخبرة الانسانية ، وهنا يتقدم الواقع  بكل بشاعته  ليكون بيت الزجاج  كناية الهشاشة والضعف والعار ، وتكون الحجارة موضع التأديب والإدانة ، والدرس المديد ، لكل من جعل  ذاته مركزا للعالم بلا أثر ولا حجة ولا جمال ، سوى رفيف عشوائي لاجنحة الدجاجة الحمقاء وهي تحاول الطيران في لحظة هروب من المطاردة .

َمثل الزجاج يصح تماما  على  الخواء  الذي لافائدة من تطهيره بالضوء و لا  بالاسئلة ، لانه بيت مزدان بالزيف والتجربة المنكفئة على ذاتها ، المتكورة على  ادعاءات شخصية ونرجسية  مرضية ، هذا البيت الزجاجي هو قفص الروح وسجنها اللامع  بتخمة الوهم .
…………..
ما قدمناه عن سقراط  سوف يجعل قراءتنا للمثل  السالف الذكر مرجحة  بشرط الضوء والوضوح والتمكن من الرسالة ، ومن الحكمة  والجمال والامتلاء لمرسلها .. بيت الجمال الذي كان يسكنه سقراط  محاط  بكل البغضاء حتى انه مكشوف  للماء ورطانة الزوجة  وانكشاف المعلم والتلاميذ  إزاء وحشية الآخر رمزا وواقعا،  وما كان الماء الذي تسكبة الزوجة ، هو الحجارة هنا، إلا  انعكاسا لطبيعة المثل الواقعية، فصار بيت الزجاج مصدراً لقلق الحجارة وليس  العكس .
…………..
ما الذي حصدته الزوجة،المرأة الناقمة من وضوح الآخر ، ومن الذي أطلق رسالته الخالدة من بيته المرئي  ؟
لوعدنا لمثل الحجارة والزجاج،من انتصر..؟  الزوجة مارقة في الغموض لرسالة المعلم ، ولاسباب خارجة عن متن الدرس أصلا .
ما خَلّد سقراط أولاً ودرسه المديد، وما انتج بيت الزجاج براعم ناضجة في ظروف لم يتح لها النضوج والسؤال إلا بحاضانات آمنة ، متوهجة بذاتها ومعطاءة ، نفوس كبيرة منكشفة عن الآخرالحواري، وعلى الحجارة أيضا ..
ماء الزوجة كان حجارة التمرد الأعمى، حجارة الوصايا ، بينما كان درس سقراط وتلاميذه  الأمضى عمقا من تأثيره .
بقى سقراط في بيته  الزجاجي ومعه التلاميذ  يتلون رسالته بمحبة وحروفه بوفاء الى الآن ، بينما ظلت حجارة الماء ، ماء الزوجة لعنة  سجلها سقراط  لاعنا  الزوجة الغاضبة  ، وكان درسا تعلمه المجنون « نيتشه «  ليُخلد المرأة بالسوط  « أنت ذاهب الى المرأة ، اذن  لا تنسى  سوطك «
…………..