رحلة في القارة الأسترالية
حلقات مسلسلة
الحلقة 2
ديـنا سـَـليم حَـنحَن
لحظات الوصول إلى بريزبن
حملت حقيبتي على كتفي وخطوت بمعية المسافرين حتى وصلنا قاعة الاستقبال، داهمتنا كلاب مدربة من كل اتجاه حطّت الرعب في قلبي الذي كان ساكنا وانتفض وعيناي تتوسل عدم اقترابها، فأنا دائمة التذمر من الحيوانات البيتية وها أنذا اليوم أتابع سيري بينها، بينما هي تتبختر على رسلها تتقدمنا ببطء وبحريّة!
تشمنا وأشياءنا، تتذوق رحيق أجسادنا ومتعلقاتنا، تجوب بأنوفها المفطسة ثنايا ملابسنا وما نحمله من حقائب، عادة مشروعة متبعة في جميع مطارات أستراليا، هكذا علمت فيما بعد، وعندما التقطت أشيائي استوقفني أحدهم، استرجل كثيرا حتى انفلق حاجبيه، داهمني بأسئلته التي رمى بها فوق رأسي بلغة لم أسمعها منذ فترة بعيدة، وأضحيت وحدي أجيبه عن تساؤلاته الكثيرة:
– تحياتي لك أيتها السيدة!
– هاللو… (أجبته بكل سرور)
– ممكن أعرف…
– ماذا… (قاطعته مرتبكة، فقد أضاع مني حُبوري)
– لا شيء سوى…
– نعم… (قاطعته مجددا وأنا مستهجنة تماما)
– ماذا في الكيس؟
– قهوة عربية! ( أجبت باستغراب واضح، هل من الممكن ألا يعرفون قهوتنا)!
– وهذا؟
– جزء من نبتة اقتلعته من حوض بيتي. (أجبته وكادت الدمعة تفر من عيني)
تذكرت للحال بيتي، نعم بيتي الذي ربما لن أعود إليه بعد اليوم، هذا الذي تركته خاويا، كئيبا، تغمره ذكرى حزينة مؤلمة، تمنيت عدم العودة إلى ذلك القصر المهجور، لقد أعتبره الجميع قصرا فيما أنا أحيا فيه حياة القبور … ولم أعد…
– وهذا؟ (سألني بإلحاح)
أعادني من شرودي مجددا فأسقطتُ له كلمة واحدة لم يفهمها:
– زعتر!
– زغتر؟ ( قال مستنكرا)
– نعم زعتر!
– زغتر ! (حاول جاهدا نطق حرف العين وفشل)
– نعم زغتر ، (قلت له متنازلة)
– أين تضعونه؟ ( سألني متشوق المعرفة أو ربما أراد أن يسخر مني)
– في الرغيف الحاف.
– حاف!
لم يفهم، يا لغبائي، كيف أقول له حاف، لم أفهم ماذا قلت، ولم أصدّق نفسي أني أتطرق لموضوعة (الخبز الحاف) الآن وهنا… ربما محمد شكري ما يزال يحتويني!
– نعم، نتناوله مع زيت الزيتون. (أجبته بجمود)
– لماذا جئتِ بالنبتة؟ ( فاقدا صبره)
– لكي أغرسها في حوض عالمي الجديد.
– آه، آه،…. لكن أستراليا مليئة في النباتات! وهذه؟
– صورة والديّ.
– ستحتفظين بالصورة فقط، لكننا سنأخذ كل متعلقات الغذاء.
خضعت للأوامر دون مراوغة، وبخشوع وتنهيدة حزينة سلّمته العهدة التي أتيت بها من البلاد، سلمته آخر شيء بقي معي بحزن واضح، بينما عيناي لا تفارقان ما تبقى مني!
وأخيرا سألني عن رزمة مغلّفة؟
قلت له:
– إنها بعض المؤلفات، جئت بها من الشرق.
ابتسم قائلا:
– المؤلفات وكل النباتات في (بريزبن) حتما ستنال إعجابك… (ويلكم تو بريزبن)… أهلا بك في بريزبن.
وفي صالة الاستقبال وقعت عيناي على لافتة كتب اسمي عليها، (دينا سليم) حملها شاب أشقر وسيم الطلعة، كانت لحظة نسيت فيها من تكون (دينا سليم) هذه، ربما الإرهاق، الأرق والشعور بالتشتت ومبارحة مكان الولادة، أو الحزن على أماكن أضعتها، أو ربما يكون السبب فرحي بالحرية أنساني من أكون ، حتى الآن لا أعرف ماذا حدث، أيعقل أن ينسى أحدا اسمه في مطار ما؟
لم أجد (تمارا) في استقبالي وعلل (جاك) ذلك باضطرارها السفر لتغطية أحداثا ضرورية، بما أنها تمتهن الصحافة. شعرت ببعض الحرج خاصة عندما وجدته بعجلة من أمره.
انهمك بالرد على عدة مكالمات وهو يشق الطريق مسرعا إلى الضاحية التي تقيم فيها (تمارا) وقد تبرعت باستضافتي.
سار بنا وعيناه تسرقان من بعض وجهي، شرح لي بعض المعلومات عن البلدة التي بدت لي رائعة الجمال، فسبيلي الأول نحوها كان بمحاذاة النهر، علمت حينها أني أتمتع بمساحة خيال كبيرة وحاسة تنبؤ مخيفة، أخرجت دفتري الأحمر ودونت عنوان فكرة جديدة أسميتها (إشارة الحظ القادم) وتذكرت مجددا الشاعر رسول حمزاتوف:
– « نحن لا نملك إلا حياة واحدة، ولو كان لنا أكثر من حياة لأمكنني أن أزرع حبي حتى يعم الجميع.. يكفيني أن يظل حبي حيًّا في كل قصائدي.. لم يعد أمامي الكثير من الوقت لأكتب عن التفاهات»!
– هل تحبين المكان؟
سألني (جاك) بينما كنا نقطع جسرا ضخما فوق النهر، لم أعرف كيف سأجيبه، وهل هو توقيت جيد أن أنهمك معه في محادثة وجميع حواسي كانت قد وضعت في المكان الساحر، البنايات التي بدت لي وكأنها مزروعة داخل المياه، واستدارة النهر من تحتنا، والطرق الجانبية المتعرجة تحت الجسر، وسبيل المشاة الطويل والذي ذكرني بممرات روما القديمة، والفنادق الضخمة القديمة منها والحديثة، مزيج رائع لحياة عصرية!
بدلت وجهتي بين الحين والحين إلى الجانبين، أدور برأسي سريعا لكي أحصل على المزيد من الرؤيا.
أحسستُ أني خارج منطق الكلام والكائنات المتحركة على جانبي بمركباتها المسرعة، تهدر على سطح الجسر العملاق وتخرجني من صومعتي.
قاطعني جاك مجددا، كانت بداية حديث مألوفة:
– الطقس اليوم حار جدا. (قال وابتسامته لا تفارق مفرقيه، وسيم هذا ( الجاك)!
– لم أشعر بهذا؟ ( أجبته بسرعة وكأني أريد التخلص من الكلام لكي لا أخرج عن عالمي الجميل الذي بدأ يتحرك أمامي بكل حيثياته).
– هل بلادكم حارة؟
– نعم… ( أجبته بسرعة وصمتُ مجددا)
حاول (جاك) إغرائي بالتكلم، بينما أنا أحاول لملمة بعض الشدوه وأضبط وثقل أنفاسي، لا أريد تبادل الحديث الآن، فهذا قرار حياتيّ اتخذته منذ مدة طويلة، انه لا كلام لحظة التأمل، أردت أن أقول له، (أسكت يا جاك)، ( اصمت يا أخي)، ( كف عن القول يا محترم)، (اتركني بلا كلام يا صديقي)، (ماذا بك أيها الوسيم لا تعرف الصمت)! لكني عدت بي، فأنا الآتية من الشرق يجب أن تكون عند حسن ظن الجميع، أنا العصفورة التي وصلت مقصوصة الجناح، يجب أن تراعي أحاسيس الآخرين، أنا المسكونة بالخوف، يجب أن تسمع كل الناس، أنا المهمومة بلملمة ما تركه الماضي للحاضر يجب أن تجيب:
– نعم يا صديقي، بلادنا حارة في فصل الصيف فقط…
أجبته بكل لطف، بادلني نظرة لطيفه تنم عن سحر خفي في عينيه لم أتعود عليه سابقا، ابتسم مجددا وأنا أتساءل، أسئلة كثيرة غمرت فكري وعقلي وهذياناتي بعد ذلك، لماذا يبتسمون هنا، ولماذا هذه الابتسامة التي يوزعها علي جاك الآن، وكيف يبتسم لي ونحن للتو التقينا، وما الفائدة من كل هذه الابتسامات… يا للتعقيدات التي نعيش فيها، يا لكل هذه التعقيدات!
واصلنا الحديث حتى وصلنا الضاحية.
نزل (جاك) مسرعا، فتح لي باب السيارة باحترام ظاهر فخرجت من بعده بهدوء كملكة أضاعت تاجها. لم يترك لي مجالا التعرف على الأرض الجديدة التي أدوس عليها الآن، حمل الحقائب وسبقني بخطواته العريضة الثابتة إلى المسكن وأنا أتابعه بخنوع.
أردت التعرف على الحيّ والناس والشارع والرصيف، لم يكن هناك سوى خطواتي البطيئة وأنا أهرول خلفه مثل طفلة قنوعة.
أدار المفتاح بمهارة، وكأنه صاحب الدار، فتح باب الشقة المكونة من غرفة واحدة ومطبخ لا غير، وضع الحقائب في زاوية خاصة أعدت لهذا الغرض، فتح النافذة، استدار في الغرفة وهو يتفقد الأشياء، كانت استدارته قصيرة وسريعة، سلمني المفتاح، وضعه داخل كفي، وكذلك عنوان البيت، وبعض الخرائط، وبعض البطاقات الإرشادية، سلّم علي ثم قبّل ظهر يدي، رحّب بي مجددا، اعتذر كثيرا لأنه سيتركني، لم يخبرني عن موعد عودة (تمارا)، حذرني من السفر في تاكسيات الأجرة بسبب الأجرة العالية، لكنه ترك لي رقم هاتف شركة سيارات للأجرة فيما لو احتجتها، ابتسم، لم أبادله الابتسام، احتار كيف يعاملني، احمر وجهه خجلا، ووجهي كذلك، تيقنت حينها أنه كان فعلا وسيما، هذا الأشقر ذي العينين الزرقاوين، لم تنل منه الشمس، إنه لا يشبه أحد أعرفه من بلادي … بلادي مليئة بالرجال السمر والحنطيين الذين لا يبتسمون ولا يقبّلون ظهور أيدي النساء!
غادر بسرعة البرق تاركا صوته يسبح في الحجرة بأقل من ثلاث كلمات…
– (ويلكم تو بريزبن…)
كان الوقت ظهرا، ترددت واحترت، انتابني شعور مختلف، بعض الخوف مشوب بالقلق. استيقظت لحظتها على حقيقة أني موجودة في قارة ما، واقعة على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، مساحتها 7.741220كم مربع، من أكبر الجزر في العالم، عائمة وسط المحيطات، وأنا هنا وحيدة في مكان مجهول، رأيته على الخارطة فقط، مكان ما في بلاد الله الواسعة.
يتبـــع 4