بدأ المسيحيون نهار الاثنين ما يعرف بالصوم الكبير الذي يدوم حتى عيد الفصح. عيد قيامة السيد المسيح من الموت. وينقطع خلال هذه المدة الصائمون عن الطعام منذ منتصف الليل حتى الظهر، كما يفترض ان ينقطعوا ايضاً عن اكل اللحوم والبياض في مسعى لتغذية حياتهم الروحية والتجرّد عن العالم المادي وعمل الخير ومضاعفة اعمال الرحمة.
هذا الصوم بدأه السيد المسيح نفسه عندما اعتزل في البرية منقطعاً عن العالم دون مأكل او مشرب استعداداً للانطلاق في عمله الخلاصي وبشارة الناس اجمعين ومنحهم الخلاص الأبدي، لأنه الطريق والحق والحياة… فكيف صام السيد المسيح وماذا حدث خلال مدة صيامه؟
بالطبع تذكر الاناجيل الاربعة باختصار شديد رواية صوم المسيح والتجارب التي تعرض لها. لكنني اردت ان اسلّط المزيد من الاضواء على تفاصيل وخفايا اخرى معتمداً على ما روته الطوباوية، الراهبة آن كاترين أميريتش التي كانت تنقل بالروح وتعاين الاحداث منذ خلق الله العالم حتى ما بعد صعود السيدة العذراء وانتقالها بالنفس والجسد الى السماء.
فماذا تروي الراهبة آن أميريتش؟
< نحو الصحراء
انطلق يسوع برفقة صديقة اليعازر نحو أحد المنازل التي كان يمتلكها والمجاورة للصحراء، وذلك قبل ساعات من بداية نهار السبت. وكان اليعازر الشخص الوحيد الذي اعلمه يسوع انه سيلتقيه بعد 40 يوماً.
وانطلق يسوع من هذا النزل وبدأت رحلته نحو الصحراء وحيداً وحافي القدمين. مرّ على مقربة من بيت لحم ثم اتجه نحو الاردن، لكنه تحاشى العبور داخل المدن والقرى متخذاً طرقات فرعية.
وبعد مسيرة دامت ساعة تقريباً دخل يسوع احدى المغاور المواجهة لمنطقة مديان، حيث بدأ يسوع صومه الكبير . وعلمت الراهبة آن كاترين إيميريتش ان انبياء ونساك آخرين كانوا يلجأون الى هذه المغارة للصوم والصلاة والانعزال عن العالم، ومن ضمنهم النبي ايليا، ومتصوفين أسينيين لاذوا الى هذه المغاور للتنسك فيها.
وعلى اسفل هذه الهضبة، تقول الأخت إيميريتش ان الشعب المختار عبروا حاملين تابوت العهد قبل انطلاقهم نحو مدينة اريحا. وتذكر إيميريتش ان الملكة هيلانة والدة قسطنطين بنت كنائس صغيرة على هذه المغاور رغم صعوبة الوصول اليها، كما بنت كنيسة في المكان الذي ولدت فيه حنة ام العذراء على بعد مسيرة ساعتين من بلدة صفورية.
< الروح القدس يدفع يسوع الى الصحراء
وذكرت آن إيميريتش انه كما هو مذكور في الكتب المقدسة، قاد الروح القدس يسوع نحو الصحراء. وتشرح ان الروح الذي حلّ على المسيح لحظة عمادته، عندما سمح لطبيعته الانسانية ان تغمرها الألوهية، هذا الروح نفسه دفع للتوجه نحو الصحراء لاعداد المسيح الانسان لكي يصبح على تواصل مع ابيه السماوي للقيام بدوره الخلاصي وتحمّل الآلام.
ورأت يسوع ساجداً يصلي الى ابيه السماوي طالباً منه القوة والشجاعة لتحمّل كل الآلام التي سيعاني منها. وشاهد يسوع كل العذابات والآلام والاهانات التي سيلقاها خلال مسيرته نحو الجلجلة. ورأت إيميريتش انه تلقى الفداء والاستحقاقات لكل واحدة منها. وظهرت غمامة من الاضواء بحجم كنيسة ضخمة وحلت عليه.. ومع ختام كل صلاة اداها كانت ارواح ملائكية تقترب منه وتتخذ شكلاً بشرياً عند الوصول اليه وتقدم له الطاعة والتمجيد والعزاء الذي كان يسوع يقوم بدوره بتقديمها الى الآب السماوي من اجل البشرية جمعاء ويحولها الى مشاعر قوة ومساعدة وانتصار على التجارب، فاشترى بذلك الاستحقاقات في جهادنا ضد التجارب، مانحاً قيمة جديدة للصوم والاماتات التي سيقدمها المؤمنون مستقبلاً، ومقدماً بالتالي الى الآب السماوي كل الاعمال والآلام التي سيعاني منها، فتُصبح صلواتنا ذات قيمة روحية واعمالاً مباركة لجميع الاجيال القادمة.
ورأت الراهبة آن إيميريتش الروح القدس يقود المسيح نحو البرية. فسار يسوع في صحراء جرداء في منطقة ما بعد نهر الاردن، سالكاً طريقاً وعرة نحو جنوب شرق البلاد. وقالت ان المنطقة التي وصل اليها يسوع شهدت معركة بين الشعب المختار وملك العموريين. وكان عدد الجنود اليهود واحداً مقابل ستة. غير ان العناية الالهية ساعدت الشعب المختار، فسمع العدو اصواتاً مرعبة ارغمتهم على الفرار.
ورأت يسوع في منطقة جبلية وعرة وقاحلة تبعد حوالي 9 ساعات من نهر الاردن.
< الشيطان يجرب يسوع
وكان الآب السماوي قد اخفى بداية الطبيعة الالهية ليسوع عن الشيطان الذي اعميت بصيرته كالكهنة والفريسيين. وفهم الشيطان كلمات «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وكأنه كلام عن نبي الله. لذا كانت التجارب التي واجهها يسوع في بداية رحلة الصوم كالتجارب التي تعرض لها الانبياء والنساء واولياء الله. وتقول الاخت إيميريتش ان يسوع كان يجرب يومياً طوال صيامه، وقد تكون اولى التجارب التي واجهها والتي سببت له الألم هي التالية: «هذه الامة هي شديدة الفساد. فهل يجب علي ان اتألم واعجز عن القيام بالعمل الذي من اجله ارسلت الى الارض؟ لكن المسيح وبملء المحبة والرأفة تغلب على هذه التجربة رغم كل المعاناة والآلام.
وكان يسوع يصلي في احدى المغاور، ساجداً او واقفا. فالصلاة كانت عمله الوحيد. وكان يطلب يومياً النعم من الآب السماوي لشعبه، مَن عاصرون ومَن سيأتون لاحقاً. ولولا الصلوات التي كان يرفعها من اجل المؤمنين لعجز هؤلاء عن مواجهة كل التجارب في حياتهم.
لم يكن يسوع يأكل ويشرب شيئاً على الاطلاق، لكن الملائكة كانت تقويه . وبدا مع مرور الوقت شاحب الوجه يميل الى البياض. وعندما كان يسجد للصلاة كانت الاخت إيميريتش تلاحظ الدم ينزف من ساقيه الحافيتين. وكان النور يشع منه ويحيط به خلال الصلاة.
وفي احد الايام شاهدت إيميريتش جمهوراً من الملائكة نازلاً من السماء ليحيط بيسوع، قدموا له التحية طالبين منه الإذن ليكشفوا غاية مهمتهم… وسأله الملائكة ان كان لا يزال مصمماً ان يلقى العذابات من اجل البشرية وان يموت كانسان لخلاص الجنس البشري. ردّ يسوع بالقبول، لأنه من اجل ذلك تجسّد من العذراء مريم.
عندئذ وضع الملائكة الصليب امامه، وكان مكوناً من اربعة قطع خشبية حمل 3 ملائكة كل قطعة منه، كما حمل آخرون سُلماً، فيما حمل ملاك سلةٍ في داخلها اسواط وحبال، وحمل آخر رمحاً واكليل شوك ومسامير وكل المعدات التي استخدمت في صلبه. وحمل ملاك آخر اوراقاً عليها مخطوطات توصي بصلبه كما كتب على اوراق ملفوفة مختصر للآلام التي سيتحملها المسيح بسبب خطايا الناس، ومن ضمنها خطايا تلاميذه.
ورأى المسيح امامه جميع الناس الذين سيسببون له اقصى الآلام، جميعهم استعرضت صورهم امام عينيه، فرأى خبث الفريسيين وخيانة يهوذا واهانات بعض اليهود، كما شاهد نفسه على الصليب وعاين معاناة صلبه وحجم آلامه.
وكان الملائكة يستعرضون امام يسوع كل هذه الامور بشكل دقيق وكأنهم كهنة يمارسون اهم وادق الطقوس.. ثم شاهدت إيميريتش الملائكة والمسيح يبكون معاً.
ورأت فيما بعد الملائكة يضعون امام المسيح كل اعمال نكران الجميل التي اظهرها ويظهرها الناس تجاه المسيح، كما وضعوا كل افكار الشك لديهم والسخرية والخداع والخيانة ونكران اصدقائه كالاعداء حتى ساعة صلبه. ورأى يسوع بالمقابل النعم التي سيكتسبها الجنس البشري من موته على الصليب.
< تجارب الشيطان
جرب الشيطان السيد المسيح العديد من التجارب اليومية. فتارة كان يظهر له على صوره احد تلامذته، خاصة من يحبهم يسوع (يوحنا) ، وطوراً كمجموعة من تلاميذه يتوافدون اليه الواحد تلو الآخر او كمجموعات من ثلاثة اشخاص.
كما تراءى له الشيطان كرجل ضعيف وكرجل دين أسيني كهل يحمل حطباً وينهار على فتحة المغارة، وكرجل من اورشليم. وكان يسوع المسيح لا يبالي بتجارب الشيطان بل يصرخ بوجهه : اذهب عني ايها اللعين.
وظهر له الشيطان في مرات اخرى كأحد نساك جبل سيناء، لكنه بدا غاضباً وشريراً. وكان يسوع ينهره باستمرار.
كما ذكرت ان الشيطان جرب يسوع بالنسبة للمأكل والمشرب وعدم الذهاب الى الصليب والطلب الى ملائكته لكي يحملون هويحولوا دون سقوطه ارضاً. ورأت كيف نقل الشيطان يسوع الى احد اسوار مدينة القدس وآراه ممالك العالم، طالباً اليه السجود له. وقد ذكرت الاناجيل هذه التجارب بالتفصيل.
وتساءلت آن إيميريتش حول عدم معرفة الشيطان يهويه يسوع الالهية، فجاءها الجواب انه من الأهمية ألا يدرك عامة الناس وابليس ألوهية يسوع من اجل اختبار مدى صدق إيمانهم. وقال يسوع لها ان الانسان الاول لم يكن يدرك ان الحية هي إبليس، وبالمقابل يجب ألا يعلم إبليس نفسه ان من يهب الخلاص، للبشر هو الله عينه والمتجسد في شخص يسوع المسيح لذا لم يدرك إبليس طبيعة المسيح الإلهية حتى ساعة نزوله الى الينبس بعد موته على الصليب وشاهد إبليس بأم عينه يسوع الإله والمخلص» يحرّر أنفس الآباء والأنبياء والاخيار من الشعب المختار منذ آدم حتى موت يسوع على الصليب، ومن ضمنهم لص اليمين الذي طلب المغفرة من يسوع داعياً اياه ان يذكره متى جاء الى ملكوته.
وتذكر آن إيميريتش ان الشيطان جرّب يسوع ابن الانسان مراراً عديدة، لكن العذراء مريم وحدها من بين جميع المخلوقات البشرية لم تكن تبالي بالشيطان، ولم يجرؤ الأخير على تجربتها او الاقتراب منها.
ألم يعد الله آدم وحواء ان امرأة من نسلهما سوف تسحق رأس الحية؟؟
pierre@eltelegraph.com