طوني عيسى
أولى جلسات الحكومة أنّ الحريري شريك فعلي في الاتفاقات والتفاهمات حول كلّ الملفات
ليس المسيحيون وحدهم عاشوا الإحباط في مرحلة سابقة. فهناك «ميني إحباط» عاشه السنّة أيضاً، بدأت ملامحُه باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكرّسَه «نفي» الرئيس سعد الحريري إلى الخارج لسنوات، والتنازلات المتتالية لمصلحة «حزب الله».
شهدت الحريرية السياسية في السنوات الأخيرة حالاً من الارتباك، ونشأت على الأرضية السنّية ظواهر هدّدتها فعلاً. فقد وجدت التيارات المتشدّدة فرصتها لاجتياح الطائفة، محاوِلةً تسويق المعادلة الآتية: لا يمكن التصدي لـ»حزب الله»، أي لـ»التيار الشيعي المتصلِّب» إلا بتيار سنّي متصلّب.
لكن هذه المقولة لم تنجح إلّا في أوساط ضيقة جداً.
وتبين أنّ التشدُّد ليس موجوداً في «الجينات الوراثية» للسنّة اللبنانيين. لذلك، كانت الزعامات السنّية في لبنان دائماً من نوع البيوتات التقليدية، ضمن حدود مناطقية. ولم يُنشئ السنّة تيارَهم الشامل كلّ المناطق اللبنانية إلّا مع الحريري. واليوم، هناك تأثير محدود للمتشدّدين السنّة في بيئاتهم، لكنّهم أبعد ما يكون عن الطموح إلى وراثة الحريرية.
في غياب الحريري، حاولت قوى سنّية أن تفرض نفسها. فعلى يمين الحريرية، نشأت ظاهرة اللواء أشرف ريفي بصفتها حالة اعتراضية على «المسار السنّي التنازلي» لمصلحة «حزب الله». والدليل إلى قوّة هذه الظاهرة ما حصل في انتخابات طرابلس البلدية، إذ واجهت تحالفاً اضطرارياً قام بين الحريرية وخصومها السنّة القريبين من حزب الله بنسب متفاوتة.
أمّا القوى السنّية المحسوبة على يسار الحريرية، أي القريبة من حزب الله أو المنفتحة عليه، فقد خرجت جزئياً من الحصار المعنوي الذي لطالما فرضته الحريرية في الساحة السنّية. ومن الأمثلة عبد الرحيم مراد الذي ربما تمّ رفعُ «الفيتو» عنه، حريرياً وسعودياً.
يأخذ بعض القواعد السنّية على الرئيس سعد الحريري أنه عائد بتسوية تنازَل فيها لـ»حزب الله» مقابل العودة إلى السراي الحكومي، وأنّ الحكومة التي شكّلها راجحة لمصلحة حلفاء «الحزب». ولا أحد يستطيع إنكار هذا الواقع، لكن للحريري مبرِّراته. فالسياسة في النهاية هي فنّ الممكن لا المستحيل.
إلّا أنّ القواعد السنّية عموماً لا تخفي قلقَها من التنازلات المتتالية لـ»حزب الله». ومن الأسئلة المطروحة في بعض الأوساط السنّية: ماذا تنفع عودة «المستقبل» إلى السراي إذا تمّت ضمن معادلة يتفوّق فيها «حزب الله»؟ وأيّ أفق للزعامة السنّية في وضعية كهذه؟
هذا العبء المعنوي يَشعر به الحريري، وهو يطمح إلى تدعيم الاقتناع داخل الطائفة بأنّ الواقعية هي التي تتيح استعادةَ السنّة لدورهم بعد سنوات من فقدان الزعامة. فالمهم أن تكون القيادة السنّية موجودة، وبعد ذلك يمكن المراهنة على استعادة الدور. طبعاً، هناك مَن يقتنع بهذه الفرضية، لكنّ آخرين يقولون: هل الانصياع لشروط الخصم واقعية؟
يراهن رئيس الحكومة على أنّ عامل الوقت سيتكفّل بعودة الالتفاف السنّي حوله. فانفتاحه على «الحزب» وتجاوزُه مسائل السلاح والقتال في سوريا ـ ظرفيّاً ـ سيتيحان «هدنة» تَسمح بترتيب الوضع داخل «المستقبل» والطائفة.
تحت هذه الزاوية، يمكن النظر إلى ما يريده الحريري من الانتخابات النيابية المقبلة، وهو الآتي:
1- التمسك بانتخابات وفق النظام الأكثري، والأفضلية لقانون 1960، لأنّ النسبية تقود إلى نتائج معاكسة لتوجّهاته في داخل الطائفة السنّية، أي إنها توزّع الزعامة على قوى عدّة يكون فيها «المستقبل» متقدّماً على آخرين بدلاً من أن يكون زعيماً أوحد.
2- يفضِّل الحريري إعطاءَ نفسِه مزيداً من الوقت لترتيبِ الوضع في الطائفة. مثلاً، منحه سَنة كاملة يستطيع خلالها تنفيذ هذه المهمّة وتوفير ما تحتاج إليه من مقومات وطاقات. لكن الوقت يضغط على الحريري. فتأجيل الانتخابات للمرّة الثالثة ممنوع. وأمّا التأجيل التقني لأشهر فشرطه الاتفاق على قانون جديد، وهذا أمر يصعب جداً تحقيقه.
3- يريد الحريري أن تضْمَن الانتخابات كتلة وازنة له وأجواءَ توافق سياسي مع الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، ما يَحسم بقاءَه رئيساً للحكومة بعد الانتخابات. أي إنه لا يريد التفريط بالتسوية التي قضت بانتخاب عون رئيساً وعودته هو إلى السراي.
وقد أظهرَت أولى جلسات الحكومة أنّ الحريري شريك فعلي في الاتفاقات والتفاهمات حول كلّ الملفات، الإدارية والاقتصادية والتنموية خصوصاً. وهذه الشراكة حاجة له في مسعاه إلى إعادة تدعيم زعامته.
على هذه الأسس، يبني الحريري تصوّرَه للانتخابات، وهو مطمئنّ إلى أنّ الرياح ستجري وفق ما يَشتهيه. فالمبادرة اليوم في لبنان هي لـ»حزب الله» الذي اكتشَف أنّ زعامة الحريري هي الأفضل له سنّياً وأنّها القادرة على توفير تغطية مضمونة له، وأن تَفتح له القنوات العربية التي يحتاج إليها.
لذلك، يراهن الحريري على أنّ «الحزب» لن يتبنّى قانون انتخاب «مُعادياً» لـ»المستقبل». فهو، وإن أراد الحفاظ على القوى السنّية الحليفة له، يفضِّل بقاءَ الحريري في موقع الأقوى. ولماذا لا يفعل ذلك «الحزب» ما دام الحريري ينسّق كلّ شيء معه؟
بين انتخابات 2008 وانتخابات 2017، دخل «حزب الله» والحريري مغامرةَ العداء والإبعاد، ملفوحةً بنيران «الربيع العربي». لكن ما لم يتغيَّر هو أنّ أياً من الطرفين المذهبيَين لم يقطع شعرةَ معاوية، وأنّ أرجحية الكفّة بقيَت تميل لمصلحة «الحزب»… والأرجح أنّها باقية كذلك.