بقلم رئيس تحرير مجلة «النجوم»/ وديع شامخ
المكتبة التي أعني ليست المكتبات العامة التي يجتمع على موائدها الناس بلا تمييز طبقي ،سياسي اقتصادي ، ولا المكتبات الخاصة التي تبيع الكتب و تزدان بها شوارع المدن الثقافية في شتى بلدان العالم ، فهي أيضا مباحة للجميع ولكن بفرق وجيز عن المكتبات العامة وهي غير متاحة للجميع تقريبا بحكم أسعار الكتب وربما لأسباب شخصية ما .
المكتبة التي أعني هي المكتبة البيتية التي تمثل القاسم المشترك لذاكرتنا ، المكتبة التي نشأنا على رؤيتها تتورد كل يوم بمطبوع جديد ، المكتبة التي نشرب تعاليمها مع حليب الأمهات ، الكتب التي نشمّ رائحة الوفاء لمبادئها من قبل مؤسسيها ورعاتها من الآباء والأخوة .
………………….
في بيتنا في محلة «الجمهورية» الشعبية في محافظة البصرة في ستينيات القرن العشرين ، لم يكن آنذاك من متسع لمكتبة في غرفة الضيوف ولا في أي حائط، لان البيوت بمساحتها الصغيرة ونفوسها
الكثيرة لم تكن مخصصة عمرانيا واجتماعيا لضيافة كتب، ولكن المكتبة كانت عبارة عن صناديق كارتونية مليئة بالكتب والمجلات والإصدارات الدورية في العلوم والفسلفة والادب والسياسية والرياضة والجمال .. الخ ، تلك الكتب والعناوين التي حفرت في ذاكرتنا الطرية الفتية كالنقش على الحجر، وصارت لنا زغبا لأجنحتنا الغضة .
……………..
لم تكن المكتبة مصدر فخر شخصي أو مجلبة لرفعة القوام وعلو الكعب والجاه والمجد ، بقدر تعلقها بقدر صاحبها وتمثله لأفكار هذه الكتب قولاً وسيرة ً وسلوكاً بين أهله ومجتمعه ، وعلى الغالب فالمكتبة الشخصية تكون خطراً يهدد حياة صاحبها ويجلب لعائلته النحس والعقوبة الجماعية ، وخصوصا في ظل الأنطمة الاستبدادية وهي الشائعة في شرقنا العربي الإسلامي ، كما حصل تماما معنا عام 1981 عندما أعتقل اخي الكبير صبري شامخ، فقد شابتنا حالة من الذعر من مكتبته وما تركه من كتابات لاننا نتوقع غزوة ثانية لقوات الأمن لبيتنا كي يصادروا كتبه وذكرياته وشعره ورسوماته وكل ما يتعلق به شخصيا لربما تكون دلائل على ادانته بالجرم المشهود، فقد جمعنا الكتب ووضعناها في اكياس الجنفاص «كواني» وقمنا بتوزيعها ليلا على الأصدقاء من جيراننا الثقاة ، ونحن نقدر خوفهم من هذه القنابل الموقوتة «الكتب» وضاعت ثروة عمر الراحل بعد أن أعدموه بتهم جاهزة لا تحتاج الى أدلة أخرى .
……………….
بعد التغيير الكبير في حياة المجتمع العراقي عام 2003 ونهاية مرحلة الدكتاتورية، رصدنا ظاهرة بروز السياسي القائد الجديد ، وهو أمر طبيعي في حالات التغيير والثورات ، ولكن السياسي العراقي الجديد انشغل أولا في اظهار خطاب مظلوميته ونضاله ضد الدكتاتورية وكأنه الفاتح الأوحد ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، ومما زاد هذه النغمة من رسوخ في الوجود الاعلامي للسياسي هو انه دائما يصور ويتحدث وهناك مكتبة ضخمة من المصادر والمراجع تحتل مساحة كبيرة خلف صورته، وهذه المكتبات المصورة بدأت تأخذ بعدا هزيلاً يبعث على الغثيان حين تكون في غرف تناول الطعام ، وهذا ما حدث في الوليمة الكبرى للسيد بول بريمر من قبل السياسيين العراقيين إذ يظهرالجميع وهم جلوس حول مائدة طعام متخمة بأطايب وانواع المأكولات العراقية والفارسية، و تظهر خلفهم رفوف أنيقة وهي تضم بين دفيتها مراجع وكتبا مذهبة لا حصر لها.
……………..
هكذا تتحول المكتبة الشخصية الى أفعى تأكل دور المكتبة العامة والتجارية أيضا في الشيوع لتصبح خلفية لبطل كارتوني، وتذهب جهود المفكرين والعلماء والباحثين المؤلفين للكتب لتصبح واجهة رمزية وخلفية مزوقة لصورة السياسي وهو يمارس الحيازة ليصدرها
رعبا للآخرين، في حين يساق المثقف والمبدع والسياسي الوطني المناضل الى حتفه وتذهب مكتباتهم الى الانطمار مدفونة في الأرض أو على أفضل تقدير معروضة للبيع في بسطيات الباعة ليمحى أثر المثقف وحروفه وتاريخة.
……………..