وديع شامخ/ رئيس تحرير مجلة «النجوم»
في حوار شخصي مع المبدع الكبير محمد خضير حول بعض الظواهر الاجتماعية وعلاقتها بالواقع الثقافي والفني والإعلامي انتاجا وتسويقا، ذكر لي مصطلحاً شعبياً عراقياً غارقاً في العمق والغرابة معا ، قائلا
«اتعرف من هو الدعبول؟
قلت لا .
قال :
واحد مدهرب» ُمكوّر» لا يعرف الناظر اليه ما اذا كان يمشي للامام او الى الخلف».
وتشعب الحديث عن النصوص وثقافة التلقي وشيوع النص الردىء والمفخخ وصولا الى انتاج نسق اجتماعي فكري يكون ل» الداعبيل « الدور المركزي في حياتنا .
الدعبول حاضر للحياة في كل تحولاتها ، رغم اننا قادرون على تقديم التنازلات الطبيعية للتأقلم مع الحيوات الجديدة وفقا لنظام الحفاظ على المتاح والممكن تارة ، او الوجود النوعي داخل فوضى الأغلبية مرات كثيرة ، ولكن الدعابيل تخطوا كل خطواتنا نحو البقاء ، فأقاموا لهم كيانات مغلقة صلدة ، وتكوروا في قناعاتهم ، والتي هي نسخ مشوهة وصفراء واشدّ مكرا من الكتاب الاصلي لذوي الأمر منهم .
………
الدعابيل ابتكروا قواعد للسير بطريقة تدحرج الكرة وليس دورانها أو طيرانها لبلوغ الهدف، بل تدحرج يقتل الاخضر واليابس ويسحق كل ما هو خارج سلطة الآباء الجدد ، تخطوا ايضا مصطلحات قارة في القواميس السياسية والثقافية والشعبية معا ، فهم ليسوا بانتهازيين ، ولا وصوليين ، ولا متملقين ، ولا مرائين ، ولا سقط متاع ، ولا طفيليين ، ولا زنادقة ولا ملاحدة ، ولا صراط لهم مع المؤمنين ولا وفاق لهم مع الكفار والمستكبرين .
…….
داعابيل تراهم في طريقك الى العمل وفي العمل ، في الحقل والبيدر معا ، يتكورون على مساحة الزرع والضرع ولهم مع اولياء الامور نصيب عظيم .
حكايتي مع نموذج “مدهرب” ومكوّر ايضا ، يمثل ظاهرة طافية على نفوس مريضة ومستوحشة ، لا ظل لسلام فيها ولا فرح لافت على محياها ، مهمتها الأولى وشعارها « الوقوف على التل أسلم” ومراقبة الفاعلين في الحياة للتلصص على نجاحهم حتى تحين حكاية « الأكل في مائدة الخليفة أدْسم»
……….
هؤلاء الدعابيل تسكرهم أوامر الرؤساء ، وتذوب في حلوقهم كالحلوى حين يتدحرجون على السنابل الصفراء اليانعة في الحقل لسحقها ، لانهم لم يتذوقوا السنابل في موسم الحصاد ، قاتلوا الفرح وكرات الحديد التي تثقل عتلات الحياة الحرة ، ليس لهم غير ان يتكوروا بالوصايا وينتعشوا في اقسى قعر اسود لها .
…………..
وللداعبيل حكايات وطرائف مع حياتهم ومفاهيمهم ومجتمعهم العائلي والمهني بغياب الرؤساء واولي الأمر منهم ، يتنمرون على رعيتهم كأسود جائعة للتشفي قبل الالتهام، ولكن حين يحضر الولي الآمر يتحولون الى جراء صامتة ، وببغاوات خرساء تنتظر تلقينها باشارات وليست بأصوات .
………..
عندما تغيب المعرفة ويختبىء الوعي في أقبية النفس الانسانية، فلا نتاج لها سوى ظلام ملتبس بعواء داكن ،اذ لا خيوط بيضاء تنسج حكاية الكائن مع قدره ومجتمعه سوى هدير ضغائن وعقد نقص وهزائم نفسية يراد تعويضها في الواقع وأمام أولي الأمر منه .
…………..
واخطر وافتك انواع الداعابيل اؤلئك الذين يتمتعون بقدرة مضافة على» التكور « وهي الابتسامة الفاترة ،الابتسامة التى لا تشي بغير الانتقام من ضحاياهم بطريقة مقبولة اجتماعيا ولا سيما من رؤسائهم الذين لا يجيدون هذا الدور ، فيصبح الدعبول ممثلا لنوايا الرئيس، حتى يصح بهم المثل المصري الشعبي عندما يبلغ المتملق منتهى الجزم لسيده « يا باشا أحلام سيادتك آوامر»
وهكذا يتمكن «الدعبول» من الاستحواذ على يقظة واحلام سيده معا .
…….
من يداني الداعابيل اذن ؟؟
حينما يتوافر الواقع على رؤساء وأمراء وملوك وأصحاب أموال ، ومتاهات في حقول عمل العقل الانساني الاجتماعي والفكري والثقافي والفني والاعلامي ، لمثل هذا الخواء بسماح الطفيليات للنمو والتكور والسيادة، فعلى المستقيم العقل والابيض السريرة ، والأبهى عقليا ، والأنجح في الحقل، ان لا يتواطىء مع هزات الداعبيل الوقتية ، ولا مع غفوات أولي الأمر وغفلتهم .
يكون مصباحا لظلمته ، وحمامة سلام لفك سحر مكائدهم،الدعابيل لا دين لهم ، فعلى المستنير أن يبشر بالمحبة دينا ، والداعبيل لا ضمير لهم ، على ابيض القلب ان يكون حمامة سلام ، والداعبيل رماديون، والعارف لحظة الروح بين الخيط الأبيض والأسود.. زمن الداعابيل يقضي نزهته في غفلة منا ، ونحن نسير بقوام عامر بالوضوح ،وبرؤيا مكتنزة،عيوننا للأمام ولا خناجر للمكيدة في ايدينا ، نحن الذين نتوافر على الضوء والمحبة والسلام والمعرفة سنُداني الداعبيل ومن ورائهم .