وديع شامخ
رئيس تحرير
مجلة «النجوم»

مشهد
في صورة مؤثرة جدا نشرها الصديق المبدع خالد خضير على صفحتة في الفيسبوك ، والتي تظهر مجموعة من الأطفال يحملون نعشا رمزيا ينام عليه طفل يمثل الشهيد ، والأطفال يمثلون دور المشيعين ببراءة تامة .
إنطباع أول
ربما يتصور البعض انها لعبة طفولية لا تتعدى كونها محاكاة لنموذج شائع في الحياة العراقية ، وهو مشهد الموت المجاني اليومي، وهذا صحيح من جهة، ولكن الأخطر في الأمر أن الطفولة بدأت تخرج عن ميدان المحاكاة والتقليد لتصل الى تهديد لب وجوهر الطفولة
إنطباع آخر
لايمكن تصور الطفولة وهي تشيخ ، فموقف الموت الرمزي قد تسلل الى الأطفال من حكايات أفلام الكارتون منذ زمان ، ومجلتي والمزمار، وهما مطبوعان كانا يعنيان في شؤون الطفولة ، ويكرسان ثقافة البطولة الجماعية وقيم الجمال والخير والمحبة عند الأطفال ،مجلتى والمزمار انطلقتا كأول أشكال ثقافة الأطفال فى العراق فى نهاية الستينات وبداية السبعينات على أيدي نخبة ممتازة من الادباء والفنانين والمبدعين العراقيين، وما بين الاعوام 1970 و1982 انتجتا أجيالاً راقية من النماذج الاجتماعية العراقية الناجحة فى مختلف الاختصاصات، أطباء مهندسين علماء فنانين وأدباء ومبدعين، وقد إمتد تأثيرهما الى البلدان العربية، يوم كانت نسخهما الأسبوعية تطبع بالملايين لتصل الى ملايين الأطفال، حيث كانت توزع بألية سريعة لتصل الى كل البيوت العراقية حتى فى أقصى القرى والقصبات العراقية .
ولكن الذهن الطفولي لم يتهيأ لقبول الموت إلا بوصفه نهاية مستعادة دائما ، اذ لا معنى للموت في عالم الطفولة ، واقعا وخيالا .
سؤال في المبنى
كيف تسللّت الطفولة الى متاهات العدم بوصف الموت نهاية أبدية ، ومن أتاح للذهن الطفولي أن يتمثل الحكاية لعبة ؟
هذا السؤال سيكون محفزنا للغور في الموجهات النفسية والفكرية المجتمعية وانعكاسها على عقل الطفل في مجتمع إمتهن لعبة الموت منذ عقود طويلة في حياته ، المجتمع العراقي ومنذ حقبة الثمانينيات وما رافقها من أطول حرب في التأريخ المعاصر بين بلدين جارين ، وهما العراق وأيران ، اذ شهدنا حربا طاحنة لمدة ثمان سنوات ، قامت على مغامرة سياسية لقيادات مجنونة ، ومن هناك بدأ غزو المشهد الحربي على المجتمع ، وتمثل في بداية واقعية لعسكرة المجتمع .
الحاضنة المجتمعية وناقوس الخطر
في تعبير ساذج عن انعكاس الحرب عن المجتمع ، صرح صدام حسين متباهياً أبان حرب الخليج الاولى بأن « الزي الزيتوني صار موضة ، على عكس حرب الأيام الست في حزيران 1967 بين مصر واسرائيل»
وصار هذا الخرق العسكري دليلا وناموسا للقائمين على إدارة ملف الدولة العراقية ، وزاد من الطين بلّه تصريح صدام حسين التالي « لنجعل من الطفل مصدر اشعاع للعائلة والمجتمع»
ومن هذا التاريخ بدأت الحرب على الطفولة والأطفال ، فلقد شهدنا سوقا موجهة لألعاب الأطفال بإغراقه بلعب الحرب والدبابات والطائرات والملابس العسكرية ، وصولا الى إنابة أطفال الضحايا – الشهداء- بأبنائهم الأطفال لحضور مراسيم التكريم نيابة عن الأب الغائب الذي لن يعود ، وهكذا تدرب الخيال الطفولي العراقي على قبول غياب الأب الأبدي ، وموت البطل النهائي ، سيما وأن الأرامل في الحرب قد تزوجن ثانية ليكون الرجل القادم بديلا نهائيا عن الأب ، وهو إقصاء مضاعف لخيبة الطفولة في استعادة الراحل .
شراسة الطفولة نتيجة منطقية
وفي زمن الحصار في تسعينيات القرن العشرين شاخت الطفولة كثيرا، وذهبت الى الأسواق بائعة وشحاذة تاركة المدرسة والتعليم لإعالة العوائل المنكوبة من ثقل العهر الحكومي والتهور المجتمعي ، هنا بدأ الخطر الجديد على الطفولة في تجهيلها والامعان في أميّتها ،? حيث صارت سلعة في سوق يتناهبه العرض والطلب ، نشأت طفولة ممسوخة بالمكر فاقدة لبرائتها ، وهذا ما جعلها تستمرء الدروس المجتمعية القاسية بأفق من المقبولية المرنة ، وبعد سقوط نظام الطاغية عام 2003 وما شابها من انفتاح على عالم جديد ، فصار عالم الطفولة مهيئاً تماما ومع وفرة اقتصادية ، لولوج عالم القتل والدمار وافلام الرعب وبرامج تقنية تثير ثقافة العنف والقتل ، وبغياب المنهج التعليمي العام للدولة ، وشيوع مناهج الطائفية وتكرار مشاهد واقعة الطف في كربلاء ، وتكرار مشاهد الموت المجاني اليومي ، مهدت الطريق المثالي لقتل الطفولة ، حتى وصل الخيال البرىء الى السخرية من الموت ثانية ، ولعل لعبة الشهيد التي يمارسها أطفال العراق كانت سابقة خطيرة لشراسة الطفولة ومغادرتها لحضنها الأمين .
……………….
خلاصة
واذ ا ما اتفقنا مع عالم النفس أريك فروم بقوله « الإبداع يتطلب الشجاعة في التخلي عن الثوابت « فعلينا أن نكون فاعلين حقيقيين في حقل التغيير المجتمعي ، ولاسيما الطفولة ، فأخطر ما يواجه الطفولة هو فقدانها للبراءة، لأن البراءة تحمل في رحمها قوة السؤال وعفويته ، وحين نغتال الطفولة نفقد عذريتنا وعفتنا ونتحول الى أشباح تتجول على مدارات العقل بكل تمثلاته .