بقلم بيار سمعان (التلغراف)

يعتبر مصطفى كمال اتاتورك (1881- 1938) مؤسس جمهورية تركيا الحديثة العلمانية واول رئيس جمهورية لها بعد الحرب العالمية الاولى.
اطلق عليه لقب «أتاتورك» أي «والد تركيا» وصدر قرار في البرلمان يحظر على اي مواطن استخدام هذه التسمية بعد ان اصبحت مرادفة لاسم باني الهوية التركية الحديثة. كان ضابطاً في القوات التركية، أسس الحركة التركية الوطنية، وانطلق بعد الحرب الكبرى في عملية اصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية واسعة تهدف الى نقل تركيا من منطق السلطان العثماني الى منطق الدولة الديمقراطية العلمانية. ووقع على اتفاقية معاهدة لوزان التي تعترف بجمهورية تركيا.
مصطفى كمال أتاتورك اطلق اضخم عملية بناء مدارس في تركيا وجعل التعليم إلزامياً ومنح المرأة حقوقا مدنية موازية لحقوق الرجل ومنحت الحرية السياسية للترشح والانتخابات. معه اتخذت تركيا منذ ذلك الحين وجهاً علمانياً عصرياً يفصل بين الدين والدولة.
أتاتورك لم يصل الى الحكم بدعم خارجي او من التيارات الاصولية. فقد اعتقل لانه قاوم النظام الملكي وطالب باسقاطه، وحارب في ليبيا ضد القوات الايطالية، وشارك القتال خلال الحرب الكبرى على جبهتي اوروبا والشرق الاوسط.
ادرك ان  الامبراطورية العثمانية انتهت مع نهاية الحرب الاولى وانسحاب تركيا من دول الشرق والغرب، خاصة مع ولادة معاهدة سايكس بيكو (1916) التي قسمت منطقة الشرق الاوسط بعد زوال الحكم العثماني. وسمح الانكليز والفرنسيون لتركيا بالاحتفاظ بلواء اسكندرون مقابل الموصل الغنية بالنفط.
بين سنوات 1931 و1938 ونتيجة للثورة الثقافية بدأت تركيا تستخدم الاحرف اللاتينية لكتابة اللغة عوضاً عن الاحرف العربية، وتم من جراء ذلك تكريس الفصل الكامل بين الثقافتين العربية والتركية، وفتح أتاتورك نافذة عريضة نحو الغرب الاوروبي لان ادرك انه مستقبل العالم يكمن هناك.
منذ تلك الحقبة حتى البارحة كانت القوات العسكرية التركية هي مصدر قوة البلاد وشعار قدرتها والضامن الوحيد على روح العلمانية والعصرنة وضرورة الالتزام بسياسة أتاتورك القائمة على العدل والمساواة وفصل الدين عن الدولة والانفتاح والتعاون مع دول الحوار.
• محاولة الانقلاب ودفاع اردوغان عن الديمقراطية.
منذ عشرة ايام اعلن عن وقوع محاولة انقلاب عسكرية فاشلة ضد اردوغان، واثار تسلسل الاحداث اكثر من تساؤل حول حقيقة الامور.
ومنذ يومين جلس الرئيس التركي طيب اردوغان تحت صورة كمال أتاتورك ليعلن للشعب التركي والعالم قراره بالدفاع عن الديمقراطية في تركيا.
بعد ان جاءت التدابير التي اتخذها خلال الايام العشر الماضية لتسيء الى النظام الديمقراطي الذي انقذه وحكومته. وانتقل اردوغان من الاجراءات القانونية المبررة الى عمليات الاخذ بالثأر المنظمة والمبرمجة، وتحول رئيس البلاد من زعيم ديمقراطي الى طاغية عثمانية بين ليلة وضحاها وأصبح يعيش بالفعل حقيقة ما اطلق عليه في السابق من تسميات اهمها «السلطان رجب».
لنستعرض بعض الارقام، فهي كافية لكشف الوجه الحقيقي للمؤامرة على تركيا العلمانية الديمقراطية ولخفايا سياسة اردوغان التي تضع مستقبل تركيا على مفترق طرقات خطيرة.
منذ الساعات الاولى للاعلان عن وقوع الانقلاب اعلن اردوغان فرض حالة الطوارئ في البلاد لمدة 3 اشهر  وجرى حتى الآن صرف او تعليق عمل 60 ألف موظف حكومي في القطاعات العامة.
وجرى استهداف النظام القضائي والتعليمي بطريقة مباشرة.. فطرد 21 ألف موظف من وزارة التعليم، من ضمنهم 1500 عميد جامعي ومدير ومدرّس في الدراسات العليا وتحويلهم الى المحاكمة.
الجسم القضائي لم يسلم أيضاً من عمليات التطهير. فجرى صرف 2745 قاضياً ومدعياً عاماً اعفوا من مناصبهم. ويتساءل المدافعون عن حقوق الانسان حول مصدر هذه القرارات والاسباب الحقيقية والموضوعية لها، ومن هي الجهات المخولة باصدار هذه التدابير القانونية غير المبنية على القوانين بل على قرارات سياسية. ويرى المنتقدون ان هذه التدابير تحقق امراً واحداً هو منح رئيس البلاد صلاحيات فوق القانون وحصر كل القرارات بيده.
منذ 5 ايام يردد الرئيس رجب طيب اردوغان ان تركيا تحتاج الى حالة الطوارئ للرد على الانقلاب وهذا امر ملزم للبرلمان التركي الذي اصبح يوقع على «ابيض» مانحاً اردوغان تفويضاً مطلقاً لفرض ما يرتأيه من تدابير غير مبررة وحده حزب كمال اتاتورك بقيادة كمال كيليشداروغلو يعلن صراحة ان فرض حالة الطوارئ يشكل خطراً على الدولة. ولفت ان ردود الفعل السلبية حيال الانقلابيين سوف تدعم دون شك الفكر الانقلابي وتتسبب بالمزيد من الانشقاق الداخلي ومحاولات الانقلاب مستقبلاً ورافق هذه التدابير اعتقال عشرات آلاف الضباط والجنود وفرض حصار على ثكنات عسكرية.
بإيجاز يمكن القول انه في غضون ايام من وقوع الانقلاب الفاشل لا تزال الحكومة التركية بدعم من البرلمان تشن حملة شرسة من الاعتقالات والطرد والاقالات الجماعية واقفال الصحف المتعاطفة مع الغرب او ذات الميول التحررية.
– علاقات اردوغان مع الخارج:
شنّت انقرة ايضاً حملة شعواء على دول اوروبية وعربية موجهة اليهم تأييد الانقلاب ودعمه. ونالت الولايات المتحدة نصيبها من الاتهامات. كما حذرت انقرة انها ستعلق اتفاقيتها مع الاتحاد الاوروبي يدعو تركيا لاحترام حقوق الانسان وعدم انزال عقوبة الاعدام بحق الضباط المسؤولين عن الانقلاب او من تتهمهم انقرة بالتآمر على النظام.
وتتهم اوروبا انقره باللجوء الى التعذيب للحصول على افادات ملائمة لتطلعات النظام واهدافه. ويعتقد الاوروبيون ان اسلوب التعذيب اصبح جزءاً من سياسة النظام الحاكم منذ سنة 1999 واصبح التعذيب يمارس الآن على 650 الف معتقل في السجون التركية وان ما يقارب 171 قتلوا خلال التعذيب. فالقانون الديمقراطي الذي يفترض ان يوفر الحماية للمواطنين والمحاكمات العادلة يبدو انه بدأ يختفي تدريجياً.
– تركيا الى اين؟
من السهل الاستنتاج ان تركيا اليوم هي في حالة صراع مع ذاتها. واردوغان نفسه يساهم في ذلك عندما يشكر الشعب التركي الذي قاوم قوات الجيش في الشوارع ومنع الدبابات التركية من الوصول الى اهدافها. هذا المشهد بحد ذاته هو مؤشر على وجود قوتين متواجهتين وقد تتصادما يوماً من الايام في حال تكررت محاولات الانقلاب: قوات الجيش من جهة والقوات الشعبية التي تؤمن عقائدياً بتطلعات اردوغان السياسية والدينية.
في خطاب القاه اردوغان منذ عقدين اكد الرئيس التركي تمسكه بالديمقراطية الى وصفها بالقطار نستقله للوصول الى اهدافنا… اليوم تحولت اهداف اردوغان اذ قال: «ان المساجد هي ثكناتنا العسكرية ومآذننا هي الرماح: وادعى اردوغان ان آراءه حول الديمقراطية قد تبدلت.
فهل نشهد اليوم نهاية الجمهورية العلمانية الديمقراطية التي بناها آتاتورك وان جمهورية تركية ثانية بدأت تحل مكانها تتحول فيها المساجد الى مراكز تثقيف وتأهيل بدل المدارس والجامعات وهل بدأت الروح العلمانية تتلاشى لتحل مكانها العاطفة الدينية والالتزام الديني الذي دفع الشعب لحماية قادته من الانقلاب؟
– مخاوف التفتت!!
تركيا اليوم هي امام منعطف خطير. فالجمهورية في خطر والتركيبة الاجتماعية اصبحت منقسمة بين ليبراليين علمانيين تدعمهم المؤسسة العسكرية، وجمهور مستعد لحماية النظام حتى ضد القوات العسكرية. فهل ستحمل الايام المقبلة المزيد من الشرخ ضمن المجتمع التركي الذي بدأ بالبحث عن هوية جديدة تتعارض مع رؤية اتاتورك لبلاده؟
ويجب ألا نتناسى الانقسامات الاثنية والمذهبية داخل تركيا. فما سيكون موقف الاكراد (30 مليون) في شمال البلاد، وهل سيبقى سكان لواء اسكندرون ومعظمهم من الطائفة العلوية يحملون الراية التركية ام تستعيدهم الدولة العلوية الناشئة على شاطئ البحر المتوسط السوري؟ وهل سيبقى القسم الغربي من بلاد تركيا حيث يعتبر السكان انفسهم اوروبيون جغرافياً وينتمون الى طبقة اجتماعية راقية لا تنسجم مع المناطق الشرقية؟
اليوم تركيا في مأزق، علاقاتها سيئة مع سوريا والعراق ومصر ومعقدة مع سائر الدول العربية بحكم التاريخ. وهي رديئة ومتوترة مع الاتحاد الاوروبي، كما انها مقلقة مع روسيا بوتين. ومع اتهام الادارة الاميركية تحولت العلاقات الى غير ودية ايضاً. تركيا تعيش مأزقاً مع ذاتها، كما تعيش توترات عالية مع المحيط. فماذا سيحمل المستقبل
لاردوغان ومجموعاته؟ ربما الازدهار كما يتمناه اردوغان، لكن الارجح هو المزيد من الاضطرابات والانقسام الداخلي..!!