بقلم هاني الترك OAM
بينما حقق الطب انجازات كبيرة ضد الأمراض المعدية من خلال المضادات الحيوية والأمصال.. ويحقق تقدما ملحوظا ضد الأمراض الجسدية مثل السرطان والأمراض القلبية وداء السكري إلا أنه لا يزال جزء كبير جدا من المخ ووظائفه لغزا مغلقا على العلماء.. فإن المخ هو الآلة التي تربط أجزاء الجسم من خلال الجهاز العصبي ويبقى القوة المحركة وراء جميع حركات الجسم.. ويبقى كذلك أقوى من أي جهاز كمبيوتر أو أي ذكاء اصطناعي .. بل إنه أعقد شيء موجود في الكرة الأرضية.
ورغم لغز عمل المخ المحيّر والمعقّد فلا تزال الأبحاث والدراسات جارية.. بروفسور كلايف هاربر استاذ علم التحليل العصبي في جامعة سيدني هو مدير بنك المخ لـ «نيو ساوث ويلز».. الذي يبحث في طبيعة
الأمراض التي تصيب المخ مثل الزهايمر وباركنسون والصرع والفصام العقلي والاكتئاب النفسي .. ويقوم بروفسور هاربر بجذب المواطنين الذين يودون التبرع بأمخاخهم بعد الموت لإجراء الأبحاث والتقييم للمخ قبل أن يموت وبعد أن يموت الشخص .. من ضمن الأشخاص على القائمة الذين تبرعوا بأمخاخهم رئيس الوزراء الراحل غوف ويتلم.. ولا يزال الباب مفتوحا للتبرع بالمخ.
ولكن المشكلة أن عددا كبيرا من الاستراليين لا يودون التبرع بالمخ وذلك انطلاقا من الاعتقاد بزرع المخ بعد الموت لشخص آخر.. وهذا اعتقاد خاطيء لأنه لا يمكن زرع المخ من شخص لآخر وهذه العملية مستحيلة من الناحية العلمية حالياً وربما تحصل في المستقبل.. لأن المخ هو الشخصية التي تميّز كل شخص عن الآخر وفيه يكمن العقل «الروح» الذي هو القوة الدافعة وراء كل شيء يقوم به المخ.. ولكن يمكن أخذ خلايا من المخ وزرعها في الأجزاء المعطلة في الشخص المصاب بمرض مثل باركنسون.
إن الهدف الأول الحالي من التبرع بالمخ هو إجراء الأبحاث والدراسات على المخ قبل الوفاة وبعدها وتقييمه ومقارنة عمله ووظائفه.. ومن ضمن الوظائف التي يمكن إخضاعها للبحث التجريبي هي عمليات الوعي والفكر والذاكرة والتعلم والنوم والأحلام وهذا جزء من قليل من أجل إفادة البشرية.
الصحافي المتخصص في العلوم الدكتور كار كروسنزيلينسكي وهو زميل البروفسور هاربر وضع مخه قيد البحث ويقوم حاليا البروفسور هاربر بتقييمه ودراسته حتى يقارنه بعد حدوث الوفاة له.. ويقول الدكتور كار أن الناس يسألونه عن برامجه الإذاعية عن عمل المخ فيقول أن الإجابة على هذا السؤال هي أعقد مسألة علمية وطبية يواجهها العلماء منذ فجر التاريخ.. فإن مناقشة قضايا مثل كيفية تطور الكون وخلقه هو أسهل بكثير من التطرق إلى كيفية عمل المخ في رأي العلماء.. ولا زال العلم في هذا الشأن بمثابة الخطوة الأولى في طريق طويل ومعقد جدا.
يعطي البروفسور هاربر المثال على ذلك عملية الوعي.. فلا يعرف العلماء كيف يعي الإنسان ذاته والعالم الخارجي .. أي كيف تتحول المعلومات إلى فكر واعٍ.. وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان والجماد.. فهل يمكن للوعي أن يكون داخل الجمجمة أو في أي جزء من المخ؟.. أو في أي مكان آخر؟ .. لا أحد يعرف بالضبط كيف تحدث وأين تقع عملية الوعي أو أي جزء أو عضو يقوم به في المخ.. ويسلم العلماء أننا لن نعرف عملية الوعي أبداً.
تفيد الدراسات أن المخ البشري هو أكبر بمعدل ثلاثة أضعاف عمّا كان عليه منذ ربع مليون عام.. والمخ في المتوسط يخزن المليارات من المعلومات ولا يعرف العلماء كيف يقوم بهذه العملية.. وكذلك فإن التفكير عملية معقدة جداً إذ أن خمس الطاقة التي يحرقها الجسم هي نتيجة عملية التفكير في المخ وتعادل إشعال مئة مليار من الخلايا العصبية التي تعمل مع بعضها.. ولكن لا يُعرف الجزء أو العضو الذي يسيطر على التفكير الواعي للإنسان.. فقد كان العلماء يدرسون الخلايا العصبية ولكن الآن يُخضعون النسيج العصبي الواعي وغير الواعي للبحث والدراسة حيث يستغرق المواد الكيمائية التي تتم من خلالها عملية التفكير بالانتقال من الخلايا العصبية والأنسجة والأجزاء من منطقة إلى أخرى.. ويشارك في هذه الدراسة عدة علوم مثل علم الأحياء والوراثة والكمبيوتر والتكنولوجيا.
والبروفسور هاربر يعمل مع علماء آخرين في الجامعات الأخرى في قسم الكيمياء الأحيائية في جامعة كوينزلاند لمعرفة التأثيرات الكيميائية التي تحدث في المخ وتؤدي إلى إصابة المخ بالأمراض المختلفة.. فالدراسة معقدة جدا وتشترك فيها عدة جامعات.
لهذا يحثّ البروفسور هاربر المواطنين للتبرع بمخاخهم بعد الوفاة وإجراء الدراسة عليها في حياتهم.. أي تقييم عمله أثناء الحياة وبعدها من أجل معرفة أسباب الإصابة بالأمراض الدماغية وعلاجها.. مع التسليم المطلق أن المخ هو لغز على البشرية والعلماء ولن يكتشف طريقة عمله بطريقة مطلقة مثل الوعي والتفكير .. لأنه مرتبط بالعقل «الروح» .. وفي معرفة ذلك يكمن إماطة اللثام عن سرّ الحياة.