بقلم / عباس مراد

عندما صوّت البريطانيون للخروج من الأتحاد الأوروبي كانت الخيارات واضحة ولم تكن من ضمن الإصطفاف السياسي التقليدي، حيث كان زعيم العمال جيرمي كوربن يؤيد البقاء في الأتحاد الاوروبي كما كان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يتزعم حملة البقاء في الإتحاد، هنا كانت المفاجأة حيث خيّب الناخبون البريطانيون كل استطلاعات الرأي وصوّتوا بنسبة 51.89% للخروج من الأتحاد. ما هي الأسباب والدوافع والعوامل التي قادت أكثر من نصف البريطانيين للخروج؟  المشاكل التي تواجه بريطانيا  قد تتشابه مع المشاكل التي تواجه كل دول العالم سواء كانت قضايا الهجرة واللاجئين وتحكّم الشركات العابرة للقارات والحدود والبنوك  بمصير الدول.
وبما أننا في أستراليا نتقاسم مع البريطانيين الكثير سوا كان لناحية النظام السياسي (لا تزال الملكة في أستراليا تعتبر رأس الدولة) وصولاً إلى الإرث الثقافي وإن كان البعد الجغرافي مختلف ولكن هناك وجه شبه قكلا البلدين جزيرة بريطانيا غير متصلة بالبر الاوروبي طبيعياً  وكذلك استراليا غير متصلة بالبر الاسيوي.  ورغم البعد الجغرافي المختلف حيث تقع بريطانيا في النصف الشمالي للكرة الارضية واستراليا في النصف الجنوبي، فعلاقة بريطانيا مع اوروبا علاقة مساكنة وهذا ما ينطبق على أستراليا وجوارها الآسيوي حيث الموقع الجغرافي والشراكة الإقتصادية مع آسيا تتقدم على أي شراكة أخرى حتى أنها أصبحت متقدمة على الشراكة مع الشريك الأستراتيجي الأول والمفضل أي الولايات المتحدة الأميركية التي تراجعت من المركز الأول في الشراكة الإقتصادية رغم أنها ما زالت من كبار المستثمرين في السوق الأسترالية، والجدير ذكره أن أستراليا كانت قد وقعت العام الماضي ثلاثة إتفاقيات للتجارة الحرة مع ثلاث دول آسيوية رئيسية وهي اليابان، الصين وكرويا الجنوبية. نشير إلى أن زعيم المعارضة الفيدرالية عندما طمأن الأستراليين وقلل من أهمية تأثير خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروربي على استراليا قال: ان قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي سيكون له تأثير مباشر محدود في استراليا وعلى المدى القصير لان تجارتنا مع بريطانيا تساوي فقط 3% فقط من تجارتنا الخارجية ، ونظامنا المالي لا يعتمد على الجنه الأسترليني.
وهذا ما اكده ايضاً رئيس الوزراء مالكوم تبيرنبول حين قال : «من المهم أن نتذكر أن الاقتصاد الاسترالي قوي ومرن، ونجا من الصدمات العالمية قبل ونجا بشكل جيد»
قد يتساءل البعض ما هو وجوب هذا الكلام والمقارنة بين بريطانيا وأستراليا؟
الكل يعلم أن أستراليا ذاهبة إلى إنتخابات فيدرالية في 2 تموز القادم، تأتي هذه الإنتخابات بعد فترة من عدم الإستقرار السياسي في البلاد منذ العام 2010 عندما أطاح حزب العمال بزعيمه رئيس الوزراء أنذاك كيفين راد قبل أن يكمل فترة حكمه الأولى بعد أن كان حقق لحزبه فوزاً ساحقاً في انتخابات عام 2007 وعيّن مكانه أول امرأة لرئيسة الوزراء جوليا غيلارد ليعود الحزب وينقلب عليها قبل إنتخابات عام 2013 ليعيد تنصيب راد مجدداً الذي خسر الإنتخابات لصالح طوني أبوت زعيم حزب الأحرار رغم أنه لم يكن يحظى بشعبية كبيرة ولكن الناخبين كانوا قد ملّوا وسئموا من ممارسات حزب العمال الذي يخضع لتأثير اتحادات نقابات العمال التي تحتفظ بنفوذ سياسي فاعل داخل الحزب حيث يحمل البعض تلك النقابات المسؤولية عن المشاكل السياسية لحزب العمال . نصر أبوت لم يشفع له أيضاً لدى حزبه الذي اطاح به في أيلول 2015 قبل أن يكمل فترة حكمه الأولى على خلفية تراجع اسهمه في استطلاعات الرأي، وجاءت الإطاحة بأبوت من ضمن صفقة سياسية وقّعها رئيس الوزراء الحالي مالكوم تيرنبول مع الجناح المحافظ في الحزب تقضي بالحفاظ على سياسة الحكومة دون تعديل خصوصاً في قضايا التغييرات المناخية، وزواج المثليين وتعديل قوانين الزواج وقضايا طالبي اللجوء وتحويل أستراليا إلى جمهورية وغيرها… وبالفعل ارتفعت اسهم الحكومة في استطلاعات الرأي قبل ان تعود وتتراجع لتتساوى مع شعبية المعارضة على ابواب الانتخابات، والمعلوم أن تيرنبول من مؤيدي تعديل قوانين الزواج وكان الاسبوع الماضي قد اعلن ذلك صراحة عبر شاشة أي بي سي وحث الناخبين على التصويت بنعم في الاستفتاء غير الملزم المنوي اجراءه لاحقا حول هذا الموضوع وبكلفة(160 مليون دولار) وعندما كان زعيماً للمعارضة عام 2009 تفاوض مع كيفن راد من اجل وضع خطة للحد من انبعاث الكربون وفرض صريبة على الشركات حسب الية السوق في العرض والطلب، وكان تيرنبول ايضاً يتعاطف مع قضايا اللاجئين، وشغل سابقاً منصب رئيس حملة تحويل أستراليا إلى جهمورية والتي خسرت الإستفتاء عام 1999.
إذن، نحن أمام أزمة خيارات محدودة لا خيار من يخرج البلاد من دوامة الأزمة السياسية، فزعيم المعارضة بيل شورتن كان وراء الاطاحة باثنين من رؤساء الوزراء العماليين، ورئيس الوزراء مالكوم كان وراء الاطاحة برئيس وزراء أحراري، وكلاهما لا يملك قراره السياسي المستقل حيث تيرنبول مقيّد بالمحافظين داخل حزبه وكذلك شورتن مقيّد بإتحادات نقابات العمال المدين لها بإيصاله إلى زعامة الحزب رغم أنه فشل في الحصول على تأييد الأكثرية من القواعد الحزبية للوصول إلى الزعامة التي صوتت لصالح منافسه انطوني ألبنيزي ولكن بموجب القوانين الحزبية التي تعطي قيمة مضاعفة لأصوات البرلمانيين في المجلس السياسي للحزب (الكوكس) الذي يتحكم به البرلمانيون المقرّبون من إتحادات نقابات العمال والتي كان شورتن نفسه يترأس واحدة منها (إتحاد نقابات عمال أستراليا).
قد يجادل البعض بأن الخيار الثالث يتمثّل في حزب الخضر وهذا صحيح، فعلى الرغم من إداء حزب الخضر والحزب الجديد للسيناتور نيك زينافون الذي حصل كل منهما على 14% من أصوات الناخبين في استطلاعات الرأي فأنهما قد يتحكمان بميزان القوى في البرلمان القادم في حال أفرزّت الإنتخابات برلمان معلق وهذا ما تشير إليه معظم إستطلاعات الرأي ولكن تفادياً لهذا السيناريو فقد قرر حزب الأحرار إعطاء أصواته التفضيلية لحزب العمال في المقاعد التي قد يسيطر عليها الخضر ورداً للجميل ومن أجل احتكار السلطة قرر حزب العمال إعطاء الأصوات التفضيلية لصالح حزب الأحرار في المقاعد التي قد يسيطر عليها حزب زينافون?
في نفس الوقت يطرح الحزبين الكبيرين برامجهما الإنتخابية بشكل يحاكي غرائز قواعدهما الحزبية ويشنان حملات تخويفية لكسب أصوات الناخبين المتأرجحين، فحزب الأحرار يتّهم العمال بشن حملة كذب عن نية الحكومة بتخصيص القطاع الصحي العام (ميديكير) وحزب العمال يتّهم الحكومة ايضاً بتخفيض الضرائب للشركات الكبيرة ويتّهمها بإخفاء نواياها فيما يتعلق بقضايا ضريبة السلع والخدمات (جي اس تي) وتخفيض الانفاق على قطاع التعليم، الحكومة تشن حملة تخويف غير مسبوقة ضد حزب العمال على خلفية قضايا طالبي اللجؤ والمهاجرين (غير الشرعيين) متهمة العمال بأنهم يريدون تعريض الأمن القومي للخطر من خلال التفريط بحماية الحدود وإعادة فتح الابواب لتدفق لاجئيي القوارب لأن حزب العمال قرر منح قرابة 30 ألف طالب لجوء موجودون في أستراليا الإقامة الدائمة مع العلم بأن حزب العمال يتبنى نفس السياسة الحكومية في ما يتعلّق باللاجئين الذين أبعدتهم الحكومة إلى جزر مانوس وناورو وغينيا الجديدة، لا بل ان الحزب نفسه وقبل انتخابات عام 2013 كان فد بدأ العمل بهذه السياسة!
وقس على ذلك، فالحزبين الكبيرين وبأسلوب احتكاري للديمقراطية يفرضون على الناخبين برامجهم متجاهلين قضايا على تماس مباشر مع حياة الناس اليومية  واكثر اهمية مثل تأمين شراء منزل وتراجع المستوى المعيشي وارتفاع نسبة الذين يعيشون الفقر الذي يقدّر عددهم 1.5 مليون استرالي اي بنسبة 14% من عدد السكان بينهم 600 ألف طفل (أي واحد من كل خمسة أطفال) وغيرها.
إذن خيارات الناخب الأسترالي محدودة ويدا كلا الزعيمين مكبّلتين بنفوذ أصحاب مراكز القوى الحزبية المتربصة بهما وتنصب الكمائن السياسية لهما، وهذا ما يزيد إلى الضغط الذي يؤدي إلى الإنفجار الإنتخابي بوجه الحزبين. لو كان الخيار بين الأبيض والأسود كما كان خيار الناخب البريطاني في الإستفتاء على خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي والتي انفجرت بوجه الطبقة السياسية البريطانية والتي وان أتت على منصب رئيس الوزراء فإن تداعياتها السياسية الإقتصادية والإجتماعية التي قد تظهر مستقبلاً قد تكون أكبر.
أخيراً، فهل تكفي تطمينات كل من رئيس الوزراء مالكوم تيرنبول وبيل شورتن للمواطنين من تداعيات الإستفتاء البريطاني؟ الجواب سيكون بما ستفرزه نتائج الإنتخابات مساء 2 تموز والتي وحسبما اعتقد ستحمل رسالة سياسية مدوية لأي حزب يفوز إذا لم تصدق استطلاعات الرأي التي تقول إن الإنتخابات ستفرز برلمان معلّق ودخول بعض المتطرفين كبولين هانسون  إلى مجلس الشيوخ الذي قد يعود الى التحكم بالقرارات الحكومية علماً ان حكومة تيرنبول كانت قد حلت البرلمان بمجلسيه (نواب وشيوخ) والذهاب الى انتخابات مبكرة للتخلص من هذا الوضع.
Email:abbasmorad@hotmail.com