… في ذكرى شهادة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، يسر مركز الزهراء الاسلامي، ان يقدم العهد الذي كتبه لمالك بن الحارث النخعي الأشتر عندما ولاّه مصر بعد ان أغتيل فيها محمد بن ابي بكر رضي الله عنه… ولقد اخبر اهل مصر بذلك في كتاب له جاء فيه:
«من عبد الله امير المؤمنين الى القوم الذين غضبوا لله حين عُصيَ في ارضه… اما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله عز وجل لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الرَّوْع، أشد على الفجار من حريق النار.. فاسمعوا له وأطيعوا أمره فيما طابق الحق… … وقد أثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم».
ولم يُقدَّر لمالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه ان يعمل بذلك العهد ويطبقه إذ دسَّ اليه أعداء أمير المؤمنين السم فقضى نحبه شهيداً..
وعندما عرف الإمام «ع» احتسبه عند الله واعتبر موته من مصائب الدهر مع انه وطَّنَ نفسه أن يصبر على كل مصيبة بعد مصابه برسول الله «ص» فإنها أعظم المصيبة. وقال تلك الكلمة التي يمكن من خلالها ان نتعرف على الاشز حق المعرفة: «كان لي كما كنت لرسول الله».
… وهذا العهد وضعه عبد رباني من عباد الله، وهو ربيب محمد «ص» وابن القرآن – وصفه البعض انه أعدل حاكم في تاريخ البشرية.
«ربما لا يعرف الكثيرون ان الجمعية العامة للأمم المتحدة، ناقشت الحكم في العالم عام 2002 م وقد تمخصت المناقشات عن استقرار الرأي على اصدار سكرتارية الأمم المتحدة «لجنة حقوق الانسان برئاسة امينها العام السابق كوفي أنان، قرارها التاريخي هذا نصه:
«يعتبر خليفة المسلمين علي بن ابي طالب أعدل حاكم ظهر في تاريخ البشرية مستندة الى وثائق شملت 160 صفحة باللغة الانكليزية.
حقاً كان الإمام علي في ادارته لشؤون الدولة الاسلامية متحلياً بمكارم الأخلاِق ولهذا دعت المنظمة العالمية لحقوق الإنسان حكام ممالك الأرض الى الاقتداء بنهجه الإنساني السليم في الحكم المتجلي بروح العدالة الاجتماعية…»

 

نص العهد

 

عهد امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) لمالك بن الحارث النخعي المعروف بالأشتر حين ولاه على مصر في السنة الثامنة والثلاثين للهجرة الموافق م(658) للميلاد والمعروف بـ – عهد مالك –

 

1- هذا ما أمر به عبد الله عليٌّ أميرُ المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده اليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح اهلها وعمارة بلادها.
2- أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسُننه التي لا يسعد احدٌ الا باتباعها ولا يشّقى إلا مع جحودها وإضاعتها وأنَّ ينصُر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه فإنهُ جلَّ  اسمُهُ قد تكفل بنصر من نصرَهُ وإعزاز من أعزَّهُ.
3- وأمرهُ أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات فإن النفس أمارةٌ بالسوء إلا ما رحم الله.
4- ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسنِ عبادهِ.
5- فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت.
6- وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير ٌ لك في الخلقِ يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك امرهم وابتلاك بهم.
7- ولا تنصبن نفسك لحرب الله فانه لا يد لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن الى بادرة وجدت منها مندوحة ولا تقولن اني مؤمّر آمر فأطاع فان ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرب من الغير.
8- واذا احدث لك ما انت فيه من سلطانك ابّهة او مخيلة فانظر الى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فان ذلك  يطامن اليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفيء اليك بما عزب عنك من عقلك.
9- اياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته فان الله يذل كل جبار ويهين كل محتال.
10- انصف الله وانصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فانك الا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله ادحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع او يتوب.
11- وليس شيء ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجل نقمته من اقامة على ظلم فان الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.
12- وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة.
13- وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مئونة في الرخاء واقل معونة له في البلاء واكره للانصاف واسال بالالحاف واقل شكرا عند الاعطاء وابطأ عذراً عند المنع  واضعف صبراً عند ملمات الدهر من اهل الخاصة وانما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة وللاعداء العامة من الامة فليكن صغوك لهم وميلك معهم.
14- وليكن ابعد رعيتك منك واشنأهم عندك اطلبهم لمعايب الناس فان في الناس عيوباً الوالي احق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منها فانما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك.
15- اطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لا يضح لك ولا تجعلن الى تصديق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين.
16- ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشرة بالجور فان البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
17- ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الاثام فلا يكونن لك بطانة فانهم اعوان الاثمة واخوان الظلمة وانت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل ارائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم واوزارهم واثامهم ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا اثماً على اثمه اولئك اخف عليك مئونة واحسن لك معونة واحنى عليك عطفاً واقل لغيرك الفا فاتخذ اولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن اثرهم عندك اقولهم بمر الحق لك واقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لاوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع.
18- والصق باهل الورع والصدق ثم رضهم على الا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله فان كثرة الاطراء تحدث الزهو وتدني من العزة.
19- ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فان ذلك تزهيداً لاهل الاحسان في الاحسان وتدريباً لاهل الاساءة على الاساءة والزم كلا منهم ما الزم نفسه.
20- واعلم انه ليس شيء بادعى الى حسن ظن راع برعيته من احسانه اليهم وتخفيفه المئونات عليهم وترك استكراهه اياهم على ما ليس له قبلهم فليكن منك في ذلك امر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فان حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً وان احق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده وان احق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده.
21-ولا تنقص سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة واجتمعت بها الالفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الاجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها.
22- واكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه امر بلادك واقامة ما استقام به الناس قبلك.
23- واعلم ان الرعية طبقات ولا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الانصاف والرفق ومنها اهل الجزية والخراج من اهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار واهل الصناعات و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتابة اوسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً.
24- فالجنود باذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الامن وليس تقوم الرعية الا بهم.
25- ثم لا قوام للجنود الا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم.
26- – ثم لا قوام لهذين الصنفين الا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.
27 – ولا قوام لهم جميعاً الا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويُقيمونه مِن اسواقهم ويكفونهم من الترفُّق بأيديهم ما لا يبلُغُه رفق غيرهم.
28 – ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدُهُم ومعونتُهُم.
29 – وفي الله ولكل سعةٌ ولكلّ على الوالي حق بقدر ما يصلحُه.
30 – وليس يخرُجُ الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خفّ عليه او ثقل.
31- فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وانقاهم جيباً وافضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الاقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يعقد به الضعف.
32-  ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنهم جماعٌ من الكرم وشعبٌ من العرف.
33 – ثم تفقد من امورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ولا يتفاقمن في نفسك شيءٌ قويتهم به ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قلَّ فإنه داعية لهم الى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك.
34 – ولا تدع تفقُّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه.
35 – وليكن أثرُ رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف اهليهم حتى يكون همهم همّاً واحداً في جهاد العدو فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك.
36 – وإن افضل قرَّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودَّة الرعية وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصحُّ نصيحتهم إلا بحيطتهم على وُلاة الأمور وقلَّة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدَّتهم.
37 – فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم فإن كثرة الذكر لحسن افعالهم تهزُّ الشجاع وتحرِّض النَّاكل إن شاء الله.
38 – ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ولا تضُمَّنَّ بلاءَ امرئ الى غيره ولا تُقصِّرَنَّ به دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امرئ الى ان تعظِمَ مِن بلائه ما كان صغيراً ولا ضَعَة امرئ الى ان تستصغر من بلائه ما كان عظيماً.
39 – واردد الى الله ورسوله ما يُضلِعُكَ من الخطوب ويشتبه عليك منا لأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحَبَّ ارشادهم يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول فالرد الى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد الى الرسول الأخذ بسنَّته الجامعة غير المفرِّقة.
40 – ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تُمحكُهُ الخصوم ولا يتمادى في الزلَّة ولا يحصر من الفيء الى الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه واوقفهم في الشبهات واخذهم بالحجج واقلَّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم واصبرهم على تكشف الأمور واصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراءٌ ولا يستميله اغراءٌ واولئك قليلٌ.
41- ثم اكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علَّته وتقلُّ معه حاجته الى الناس واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.
42- فانظر في ذلك نظراً بليغاً فإن هذا الدين قد كان اسيراً في ايدي الاشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا.
43- ثم انظر في امور عمّالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرةً فإنهما جماعٌ من شعب الجور والخيانة.
44- وتوخَّ منهم اهل التجربة والحياء من اهل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام المتقدمة فإنهم أكرم اخلاقاً وأصحُّ اعراضاً واقل في المطامع إشراقاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً.
45 – ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوةٌ لهم على استصلاح انفسهم وغنًى لهم عن تناول ما تحت ايديهم وحجَّةٌ عليهم إن خالفوا أمرك او ثلموا أمانتك.
46 – ثم تفقد اعمالهم وابعث العيون من اهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية.
47- وتحفّظ من الأعوان فإن احدٌ منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها عليه عندك اخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنه واخذته بما اصاب من  عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة.
48 – وتفقد أمر الخراج بما يصلح اهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم الا بهم لأن الناس كلهم عيالٌ على الخراج واهله.
49 – وليكن نظرُك في عمارة الارض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يُدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم أمره الا قليلاً.
50 – فإن شكوا ثقلاً او علّة أو انقطاع شرب او بالَّةٍ او إحالة ارض اغتمرها غرقٌ او اجحف بها عطشٌ خفَّفت عنهم بما ترجو ان يصلُح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخرٌ يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوَّتهم بما ذخرت عندهم من اجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم فربما حدث من الامور ما اذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة انفسهم به فإن العمران محتمل ما حملته وإنما يؤتي خراب الارض من إعواز أهلها وإنما يعوز اهلها لاشراف النفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر.
51 – ثم انظر في حال كتابك فول على امورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك واسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الاخلاق ممن لا تبطره الكامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ولا تقصر به الغفلة عن ايراد مكاتبات عمالك عليك واصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطي منك ولا يضعف عقداً اعتقده لك ولا يعجز عن اطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره اجهل.
52 – ثم لا يكن اختيارك اياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء ولكن اختبرهم بما ولُّوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامة اثراً واعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وُليتَ امرهُ.
53 – واجعل لرأس كل أمرٍ من أمورك رأساً منهم لا يقهرُه كبيرها ولا يتشبَّتُ عليه كثيرُها ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه أُلزمتهُ.
54 – ثمَّ استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً المقيم منهم والمُضطرب بماله والمترفِّق ببدنِه فإنهم موادُّ المنافع واسبابُ المرافق وجلابها من المباعد والمطارح في برِّك وبحرِكَ وسهلِكَ وجبلِكَ وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها فإنهم سلمٌ لا تخاف بائقتُه وصُلحٌ لا تخشى غائلتُهُ وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك.
55- واعلم مع ذلك أنَّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكُماً في البياعات وذلك بابُ مضرَّة للعامة وعيبٌ على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه.
56- وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدلٍ واسعارٍ  لا تُجحفُ بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حُكرةًً بعد نهيكَ إياه فنكل به وعاقبه في غير اسراف.
57 – ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين اهل البؤس والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكلٌّ قد استرعيتَ حقَّه ولا يشغلنك عنهم بطرٌ فإنك لا تُعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم.
58 – فلا تشخص همّك عنهم ولا تُصعّر خدَّك لهم وتفقد امور من لا يصل اليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من اهل الخشية والتواضع فليرفع اليك امورهم ثم اعمل فيهم بالإعذار الى الله يوم تلقاهُ فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج الى الإنصاف من غيرهم وكلٌّ فأعذر الى الله في تأدية حقّه اليه.
59 – وعهد اهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على الولاة ثقيلٌ والحق كله ثقيل وقد يخففه الله على اقوامٍ طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم.
60 – واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغُ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك واعوانك من احراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في غير موطن لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقُّه من القوي غير متتعتع ثم احتمل الخرق منهم والعيَّ ونحِّ عنهم الضيقَ والأنف يبسُط الله عليك بذلك أكناف رحمته ويوجب لك ثواب طاعته وأعط ما أعطيت هنيئاً وامنع في اجمالٍ واعذار.
61 – ثم أمورٌ من أمورك لا بدَّ لك من مباشرتها منها إجابة عمَّالك بما يعيا عنه كتابُك ومنها اصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرجُ به صدورُ أعوانك.
62 – وأمضِ لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله افضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله اذا صلحت فيها النيَّةُ وسلمت منها الرعيةُ.
63 – وليكن في خاصة ما تُخلٍص به لله دينك إقامة  فرائضه التي هي له خاصة فأعطِ الله من بدنك في ليلك ونهارك ووفِّ ما تقرَّبت به الى الله من ذلك كاملاً غيرَ مثلومٍ ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ.
64 – واذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونَنَّ منفِّراً ولا مُضيِّعاً فإن في الناس مَن به العلة وله الحاجة وقد سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وجهني الى اليمن كيف أُصلي بهم فقال صلِّ بهم كصلاة أضعفهم وكُن بالمؤمنين رحيماً.
65 – وأمَّا بعد فلا تُطوِّلنَّ احتجابك عن رعيتك فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبةٌ من الضيق وقلَّة علم بالأمور والاحتجاب منهم يقطعُ عنهم علمَ ما احتجبوا دونَهُ فيصغُرُ عندهم الكبير ويعظُمُ الصغير ويقبُحُ الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل وإنما الوالي بشرٌ لا يعرفُ ما توارى عنه الناس به من الأمور وليست على الحق سماتٌ تُعرفُ بها ضروبُ الصدق من الكذب وإنما أنت أحدُ رجلين إما امرؤٌ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه او فعل كريم تسديه او مبتلى بالمنع فما اسرع كفَّ الناس عن مسألتك اذا أيسوا من بذلك مع أنَّ اكثر حاجات الناس إليك معاً لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة او طلب إنصاف. في معاملة.
66- ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثارٌ وتطاوُلٌ وقلَّة إنصاف في معاملة فاحسم مادة اولئك بقطع اسباب تلك الأحوال ولا تقطعن لأحدٍ من حاشيتك وحامَّتِك قطيعة ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب او عمل مشترك يحملون مئونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.
67- وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإن مغبة ذلك محمودة.
68- وان ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم باصحارك فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك واعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.
69- ولا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوك ولله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وامناً لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن.
70- وان عقدت بينك وبين عدوك عقدة او البسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالامانة واجعل نفسك جنة دون ما اعطيت فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس اشد عليه اجتماعاً مع تفرق اهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك فإنه لا يجترئ على الله الا جاهل شقي.
71- وقد جعل الله عهده وذمته امنا افضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون الى منعته ويستفيضون الى جواره فلا ادغال ولا مدالسة ولا خداع فيه ولا تعقد عقداً تجوز في العلل ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ولا يدعونك ضيق امر لزمك فيه عهد الله الى طلب انفساخه بغير الحق فان صبرك على ضيق امر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وان تحيط بك من الله فيه طلبه ولا تستقبل فيها دنياك ولا اخرتك.
72- اياك والدماء وسفكها بغير حلها فانه ليس شيء ادعى لنقمة ولا اعظم لتبعة ولا احرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها ولله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن وان ابتليت بخطأ وافرط عليك سوطك او سيفك او يدك بالعقوبة فإن في الوكزة فما فوقها مقتله فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن ان تؤدي الى أولياء المقتول حقهم.
73- واياك والاعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء فان ذلك من اوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من احسان المحسنين.
74- وإياك والمن على رعيتك بإحسانك او التزيد فيما كان من فعلك او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فان المن يبطل الاحسان والتزيد يذهب بنور الحق والخلف يوجب المقت عند الله والناس قال الله تعالى كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون.
75- واياك والعجلة بالامور قبل اوانها او التسقط فيها عند امكانها او اللجاجة فيها اذا تنكرت او الوهن عنها اذا استوضحت فضع كل امر موضعه واوقع كل امر موقعه.
76- واياك والاستئثار بما الناس فيه اسوة والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون فانه مأخوذ منك لغيرك وعما قليل تنكشف عنك اغطية الامور ويتصف منك للمظلوم املك حمية انفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد الى ربك.
77- والواجب عليك ان تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة او سنة فاضلة او اثر عن نبينا صلى الله عليه وسلم او فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت اليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك الى هواها.
78- وانا اسال الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على اعطاء كل رغبة ان يوقفني واياك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح اليه والى خلقه مع حسن الثناء في العباد وجميل الاثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة وان يختم لي ولك بالسعادة والشهادة وانا اليه راجعون والسلام على الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً والسلام.

مسجد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام